الفيلم النرويجي Mortal ومشاعر الكون الرهيفة

الفيلم النرويجي Mortal   ومشاعر الكون الرهيفة

هل تستطيع أن تتداخل وتندمج في الكون؟! تصبح ذرة من ذرّاته، تدخل في عمق الماء بروحك فيطير على يديك كبلّورات متماسكة؟! هل تستطيع أن تَشْتَعِل من الداخل، فيشتعل كل من يلمسك؟! أن تحرك الأشياء وأنت مكانك حتى تجعل الزجاج يلين، تصير ذرّة داخل العالم، وتتصل به من داخله، أو يتصل العالم بك ويدخل في عمقك؟ يمكنك أن تحرق وأن تحترق، لأنك ذرة في الكون، تتفاعل مع الكون ويتفاعل معك، فما إن تتمنَّى المطر حتى ينزل منهمرًا، وما إن تفكر في الرعد حتى تسمع صوته، وإذا تمنيتَ الهواء رفّ عليك نسيمه، وتستدعي البرق فيأتيك، فتتحكَّم به بين يديك.

أنت في الكون تدور حيث يدور، وبالتالي يتفاعل معك لأنه يعرفك كجزء حميم، فإذا حاول شخص أن يعتدي عليك فستقول له بكل ثقة: إذا لمستني ستحترق، وأنت متأكد من أن طاقة غضبك المتصلة بالكون ستحرقه، ستدور تساؤلات داخلنا تشبه هذه، ونحن تشاهد الفيلم النرويجي Mortal (مميت) المنتج في 2020، وهو من إخراج أندريه أوفريدال، الذي شارك في كتابته مع كل من جيف بوسيتيل ونورمان ليسبيرانس. 
تبدأ وحدة الاتصال بعمق الكون مع المشهد الأول، ففي البدء كان الماء، يد تتحرك داخل رقرقة الماء الحي، تبعثر ذرّاته في محبَّة، تتماوج اليد مع سرّ الكون ومبتدأ الحياة، وحين ترتفع الكاميرا نشعر أن صاحب اليد هارب من الزمن والحياة بمظهره المهمل، وكأنه إنسان بدائي، لولا حداثة ملابسه وحقيبته.
 انطلقنا عبر ساحة من الطبيعة الخالصة التي تحيط الماء، نحن هنا في الحياة البِكر، حيث الجبال والأشجار والماء، وموسيقى الفيلم تحيطنا كأننا في سرّ الكون الغامض، واليد التي كانت تحنو على الماء تمسّ ورقة نبات خضراء تتحنَّن عليها كأنها تمنحها الدفء، وتأخذ منها القوة في الوقت ذاته، تستقى منها دفعة قوية داخلية، ثم تمر اليد على العُشب في هدوء ونعومة، ويصلنا أن هذه اليد على صلة وثيقة بالطبيعة، تأخذ وتعطي، وسنعرف فيما بعد أن هذا الإنسان اسمه إيريك.
 حين ينام إيريك داخل خيمة بلاستيكية نجده يعاني حلمًا شديد الغرابة، ولما استيقظ بدأ الأمر يختلط علينا، هل ما حدث له في منامه حلم أم كان حقيقة؟ فنجد آثار الحلم موجودة حوله في الحقيقة، فالأشجار مشتعلة من داخلها ولم ينطق كلمة، فقد كان وحيدًا يعاني، ما صلة هذا الرجل الصامت الوحيد باحتراق الشجر من داخله؟ ما هذا الغموض الذي يحتويه، فنرى قدمه محترقة كقلب الشجرة التي تعجّبنا من اشتعالها الداخلي؟ وسار يعرج من آثار حرق قدمه يمرّر يده على الماء كأنه يستعيد قوى روحه.

شخص متفرِّد وغامض
عندما رأينا الأسفلت والبيوت، علمنا أننا سنسير وراء شخص متفرِّد في هذا العالم، يحتويه الغموض الذي يبعده عن البشر ويجعل الحزن يطل من وجهه، والدموع تريد أن تقفز من داخل روحه، ولمَّا حصل على قطعة الحلوى من داخل بيت مهجور، أصابته السعادة وهو يحرّكها في فمه، وسمعنا أول كلمة في الفيلم من مجموعة من الشباب حين شاهدوه يسير وحيدًا يعرج، قالوا: «متشرّد لعين».
وللمرة الأولى منذ بداية الفيلم نرى وجه الممثل نات وولف يحمل ملامح إنسانية خالصة، مخلوط بقذارة خارجية تداري حسّه الداخلي، رأينا دمعة داخل عينيه تكاد تسقط، ومشاعر مكبوتة غامضة، ولم يسر بضع خطوات راغبًا في العودة إلى مكانه في حضن الطبيعة إلا وتعرَّض له شاب متحمّس يركب سيارة استفزته قذارة إيريك؛ فاقترب منه الشاب ودفعه، فوقع على الأرض، شعرنا ساعتها بالحزن، وقسوة الإنسان، فقد بدا الشاب مندفعًا مغرورًا بشبابه، ومستهينًا بضعف إيريك، ساعتها قال له كلمة عجيبة: «إذا لمستني ستحترق»!
شعرنا بالغموض والرحمة الشديدة في المتابعة لإريك الواثق المحاط بحالة غموض تحتوي الفيلم من دون إضاءة مزهرة، وبلا بهجة واضحة حتى هذه اللحظة، وبالفعل عاملَ الشاب إيريك بعنف، وشدَّه من سترته وهو يهزّه بقسوة، وشعرنا أن الشاب يتألم من الداخل، وسقط الشاب فجأة وكأنه قد احترق من الداخل من قسوة ما بدا على ملامحه.
 سار إيريك بعيدًا، وازددنا غموضًا ورغبة في كشف حقيقة ما يحدث، هل إيريك ساحر؟! هل له قدرات عجائبية خاصة؟! وبدأ خيالنا يسترجع أسباب مداعبته للماء ولأوراق النبات الخضراء، لقد برع صنَّاع الفيلم في شدّ انتباه المشاهد لمتابعة غموض الرجل ولمعرفة حقيقته، وبالفعل مات الشاب أمامنا محترقًا من الداخل من لمسه لإيريك، وتركَنا الفيلم لثوانٍ في حيرة ورغبة بمعرفة سر هذه القوة الغريبة.

كيف فعلتَ ذلك؟!
بعد أن قبضتْ الشرطة على إيريك؛ بحجة أنه قتل الشاب في الطريق، دخل بنا الفيلم لمحاولة إدراك ما يحدث عن طريق الوسائل المتاحة للشرطة، فسِرنا خلف الشرطة التي تحوَّلت إلى ما يشبه عقلنا الباحث عن الحقيقة، وعن طريق المعالِجة النفسية كريستينا التي قامت بدورها الممثلة الشابة ابن أكيرلي، التي دفعتها الشرطة لبحث حالة إيريك، بدأت دقات قلوبنا تتوازن، لأن ملامحها بها إصرار على الدخول في عمق إيريك، وعلمنا أن هذه المعالجة النفسية لها مشكلة خاصة داخل روحها، دفعتها للإصرار على التعامل مع هذا الرجل الغامض حتى تنقذ حياته؛ كي لا تشعر أنها تخلَّت عن إنقاذ إنسان يحتاج إليها، أرادت أن تعوّض خسارتها السابقة في إحساسها بالتخلي عن أحد مرضاها، فكريستينا لها الآن دوافعها النفسية القوية للاستمرار في تتبُّع حالة إيريك، مما جعل المشاهد يرتاح لها، وأعطاها الثقة بأنها ستتعرف على حقيقة إيريك مهما حدث أمامها. 
وبدأنا ندرك أن الرجل الذي أمامنا نرويجي أمريكي رحّالة، وأن اسمه إيريك بيرغلاند، وأنه الوحيد من عائلته الذي نجا من حريق. 
كان المفتش يتساءل السؤال نفسه الذي يدور في أعماق المشاهد حين قال لكريستينا: «السؤال الذي يحيرني هو كيف فعل ذلك؟» ثم اقترح تفسيرًا خاصًا به «ربما لم يكن من المفترض أن نفهم كل شيء، أعتقد أن الرب لديه خطة مع إيريك».

 مشاعرك هي السبب
من المشاهد المتناسقة مع حالة الغموض التي شعرنا بها حين بدأ إيريك يتذكَّر مع كريستينا وفاة عائلته، واعتقاده بأنها أُحْرِقت بسببه، أصابته قشعريرة، وفي تلك الحالة كأن المكان المحيط بنا قد اتَّحد مع حالته الخاصة، لقد تحرّك الماء داخل الكوب ورفرف شعر كريستينا كأن الهواء يسحبه لأعلى برفق، وحين وضع إيريك يده على كوب الماء اندفع الماء نحو يده صاعدًا كبلّورات لؤلؤ في مشهد عجائبي سحري، وهي تردد: «ذلك محال»!
 وهنا تأكدنا من قوة إيريك الخارقة، وسألته كريستينا في الحال: «كيف فعلت ذلك؟» فقال إيريك: «لا أعرف». وظهر عليه العذاب الروحي؛ لأنه ظن أنه أحرق عائلته دون أن يدري، ولم تصدق كريستينا أنه أحرق عائلته، ثم وضع يده على المنضدة الخشب، فاحترقت المنضدة واحترقت يده، وقال: «هل تصدقينني الآن؟» 
وبدأ كل شيء حولهما يحترق وهي تردد: «إيريك... أوقف هذا»، وهو يقول: «لا أستطيع». وحينها قالت الجملة التي ننتظرها طوال الفيلم: «إنها مشاعرك»... كلمة واحدة دخلت قلوبنا عن هذه القدرة الغريبة لإيريك، واستمرت: «إنها مشاعرك، أنت تفجّرها، إذا ركزت بعيدًا عن مخاوفك، يمكنك معرفة كيفية السيطرة عليها، الأمر كله متروك لك».
 وبالفعل سيطر إيريك على مشاعره، وهدأ كل شيء، لقد نجح بالفعل وانكشف أمامنا سحر قواه الخارقة، وتمنينا في هذه اللحظة أن نستطيع التحكم في مشاعرنا لهذه الدرجة من الاتصال بالكون حتى يستجيب لنا كما استجاب لإيريك.

الاتصال بروح العالم
  هنا بدأت سلطات الشرطة في البحث عنه للسيطرة عليه، هذه وجهة نظر مادية معادلة للحالة التي سرنا معها طوال الفيلم، وانتشر أمر إيريك وصار مطلوبًا من الجميع، وأقنعته كريستينا بأن يسلّم نفسه للشرطة.
وفي مشهد متحد بالكون، رأينا الورد في حالة ذبول، وكانت الألوان المسيطرة داكنة، وقبل أن ينطق إيريك كلمة احتضنته كريستينا، هذا الحضن هو المبتغى من الفيلم، لقد أمطرت السماء حولهما، ولم يسقط عليهما مطر، كانا محاطين بالمطر الذي يتساقط حولهما فقط؛ لأنَّ إيريك فكَّر بأنه لا يريدها أن تمطر على كريستينا.
 لقد ازدهر كل شيء حولهما، وتحوَّلت الحياة معجزةً حسَّاسة، ورغبة داخلية تحقَّقت، وغيّرت رأيها قائلة: «لن نذهب للشرطة»، وكان الجميع يبحثون عن إيريك كمجرم.
حين انكشفت قدراته أمام الجميع على الجسر، لما حاول إنقاذ كريستينا، حين رأى الجندي يضعها تحت قدمه، ثارت مشاعره وهو يردد: «أبعد يدك عنها»، وغضب إيريك بشدة، وكنا مهيئين لأن يحدث شيء في الكون، وغامت السماء وظهر الرعد وثار البرق مشتعلًا كالغضب في عروق إيريك، واتصلت يده بالبرق كشجرة كبيرة تتفرع من السماء لتتجمَّع في الأرض، كأن شيئًا كونيًا يحدث في هذه اللحظة، وأمسك رأسه من المعاناة، وطلبت منه كريستينا أن يسيطر على مشاعره، وحوَّل هو البرق إلى حاجز بينها وبين الجنود، كان في حالة روحية غريبة متصلًا بالعالم من داخل روحه.
شاهد الناس ما حدث وسَجَّلوه على الهواتف، انتشر في العالم وهو يقف على الجسر متصلًا بالرعد مصلوبًا، وحين وضع يده على الطفل الذي كان يحتاج إلى صدمة كهربية خاصة، أفاق الطفل، وتحوَّل في نظر الناس إلى مسيح مبارك.

قوة الاتصال بالكون
حاول الفيلم أن يربط ما حدث بأسطورة إغدراسيل، وهي الشجرة الأسطورية الهائلة التي يقال إنها تربط العوالم التسعة في علم الكونيات النورسية، ونكتشف الشجرة العجيبة تحت الأرض، مما يعود بنا إلى تذكّر ما حدث مع فكرة الشجرة في الفيلم منذ البداية.
 رأينا إيريك في مفتتح الفيلم يجلس تحت الشجرة، إلى جانب أنه كان محاطًا بالأشجار، شاهدنا الشجرة في هيئة البرق عندما كانت تربط بين السماء والأرض، وإيريك يتمازج مع البرق.
ونشعر أن النهاية السعيدة قد اقتربت حين يكتشف إيريك المطرقة التي تحميه، وتبدأ بشائر التبسُّم والانسجام تظهر على ملامحه، لكن الإنسان يتدخَّل عن طريق شرطية مادية وعقلانية تطلق رصاصة لقتله، فتصيب كريستينا، ويمتلئ إيريك بالغضب من أجل كريستينا، ويتصل بالكون من داخل غضبه المشتعل، ويكاد يشعل ما حوله، وينتهي الفيلم بأن يعلن رأي الإعلام فيه بأنه إرهابي لا يزال طليقًا، ولا أثر لوجوده.
 ونخرج من الفيلم وتدور في أعماقنا تساؤلات، هل للكون مشاعر كالتي تسري داخل عروقنا؟ وبالتالي يمكننا أن نتصل بمشاعر الكون، وأن تتجاوب معنا ونتجاوب معها، وأن تستجيب لنا وتتفاعل معنا، فتحرق إذا كانت مشاعرنا تحترق من الداخل؟ وتحيل العالم حولنا إلى حديقة مزهرة إذا كان داخلنا ساحة من الرضا والنعيم؟ 
هل يمكن أن نتخيل أن مشاعرنا مرتبطة بمشاعر الكون، وأن لنا قدرات خاصة لا نعرفها، قادرة على أن تجعلنا على صلة وثيقة بمشاعر الكون؟
 ربما لو بحثنا في أعماقنا لوجدنا أشياء غريبة تحدث بيننا وبين الكون، كأنه يشعر بنا ونشعر به، فقط لو شعرنا بالكون، واندمجنا معه في حالة من التمازج والتجاوب الرهيف، وساعتها سنشعر بمشاعر الكون، وسيشعر الكون بمشاعرنا ويستجيب لنا، ويندمج معنا، ونصبح قوة عجيبة ■