بيلي وايلدر... الإنسان والقناع

بيلي وايلدر... الإنسان والقناع

تتمحور أفلام المخرج الكبير بيلي وايلدر حول أخلاق المكر؛ الخداع، والاحتيال، والكذب. فالإنسان عنده هو كائن محتال ومخادع، والقناع موجود في أفلامه على الدوام؛ فالتنكر هو الوسيلة التي يمارس من خلالها الإنسان احتياله وكذبه.

قد يرتدي بطل وايلدر القناع بغية تحقيق منفعة مادية، وقد يرتديه مضطرًا من أجل النجاة بحياته في موقف تنتفي في الاختيارات؛ فإما الكذب، أو الموت، كما ورد مرة في افتتاحية فيلم «الواشي»، (1962) لجان بيير ملفيل: «على الإنسان أن يكذب، أو يلقى حتفه». وفي بعض الأحيان، يجتمع الأمران معًا؛ فالإنسان المخادع المحتال، قد يجد نفسه في موقف مصيري لا ينجو منه إلا ببراعته في الكذب والاحتيال.
في فيلم «الرائد والقاصرة» (1942)، ترتدي سوزان قناع الطفلة الصغيرة، لأنها مفلسة ولا تملك أجرة القطار، وفي النهاية، يقع الرائد فيليب في حبها. 
وفي «علاقة أجنبية» (1948)، يكذب الكابتن جوني بخصوص علاقته بالمغنية الألمانية، أثناء تحريات عضوة «الكونجرس» الأمريكية التي تشكّ في وجود علاقة بين المغنية والحزب النازي المنحل، بل ويرتدي أيضًا قناع المحب لعضوة «الكونجرس».
وفي «شارع الغروب» (1950)، يكذب كاتب السيناريو المفلس جو على الممثلة المعتزلة نورما، ويرتدي قناع الحبيب، حتى يعيش على نفقتها. في حين أن المحب الحقيقي لنورما؛ المخرج والزوج السابق لها، يرتدي قناع الخادم. ونورما نفسها ترتدي قناعًا على الدوام، وحياتها كلها عبارة عن دائرة مفرغة تدور حول هذا القناع الذي تؤمن به بوصفها لا تزال هي نجمة السينما الأولى.
وفي «كنز في الحفرة» (1951)، يتلاعب صحفي طموح بحياة أحد العمال المحبوسين تحت أنقاض منجم، من أجل إطالة فترة عملية إنقاذه، لتحقيق سبق صحفي، على حساب حياة الرجل الذي يموت في النهاية. إن وايلدر هنا يرسم صورة قاسية عن اقتصاد بلدة بأكملها قائم على الكذب والخداع، حتى أن كل الأنظمة الإدارية، والاقتصادية، والجنائية، والسياسية في البلدة، قائمة على هذه الخدعة وتتغذى عليها. وفي «سابرينا» (1954)، يرتدي الأخ الكبير (همفري بوجارت) قناع المحب لسابرينا، لكي يحافظ على زواج أخيه الأصغر من ابنة أحد شركائه في العمل.

الطبيعة الأولى
في «الحب بعد الظهيرة» (1957)، تخفي ابنة المحقق الخاص حقيقة شخصيتها عن زير النساء الذي تحبه، والتي لا يعرف هو عنها شيئًا، ولا حتى اسمها.
وفي «البعض يفضلونها ساخنة» (1959)، يشهد اثنان من الموسيقيين عملية قتل، فيضطران للتخفي كامرأتين، هربًا من العصابة التي تطاردهما. وأثناء ذلك، يتنكر أحدهما، من جديد، في زي مليونير، لكي يفوز بقلب المغنية التي وقع في حبها.
وفي «واحد، اثنين، ثلاثة» (1961)، يجبر مدير إقليمي لفرع شركة كوكا كولا، زوج ابنة مدير الشركة؛ الشيوعي، على التنكر كأحد كبار الرأسماليين الأرستقراطيين.
وفي «إيرما لا دوس» (1963)، بعد طرده من البوليس، يتنكر نستور في هيئة رجل إنجليزي غني، ليستحوذ لنفسه على كل وقت إيرما وتتفرغ له.
لكن وايلدر لا يذهب إلى حد إدانة هذا الخداع، كما ينحو الفنانون الأخلاقيون، بل بوصفه الطبيعة الأولى في الإنسان، والتي تأتي طبيعته الثانية؛ أي الخير والنبل والصدق، كاستثناء فقط وفي حالات نادرة. بل إن معظم أفلام وايلدر تُصدّر لنا رؤيته الخاصة عن أن الإنسان يعثر على السعادة بالاحتيال والمكر والكذب وارتداء الأقنعة. وتكمن المفارقة في أن هذه الرؤية التشاؤمية بخصوص الطبيعة الإنسانية، تأتي في أعظم الأفلام الكوميدية في حقبة «هوليوود» الذهبية فيما بعد الحرب العالمية الثانية.

الخبرة
إن الأصالة في الكوميديا العظيمة لا تنبع إلا من الحياة الواقعية والخبرة المعاشة للفنان. إن المادة الخام للكوميديا هي حياة الفنان نفسه. كتب فالتر بنيامين مرة «إن علاقة الفنان بمادته، أي بالحياة الإنسانية، هي علاقة صانع ماهر، مهمته هي صوغ المادة الخام للخبرة، خبرته هو وخبرة الآخرين، بطريقة صلبة ومفيدة ومميزة». 
وبهذا الوصف، يقف وايلدر في صف واحد مع كبار فناني السينما، فهو يرجع إلى الوراء، إلى عُمْر كامل يضم خبرته الخاصة، كي يترك فتيلة حياته تستنفدها الشعلة اللطيفة لأفلامه. وخبرة وايلدر هي تجسيد للفنان القديم الذي كان رحالًا ومسافرًا قادرًا على جمع الحكي (الخبرة). وما أفاده، ليس فقط تنقله بين عدة بلدان أوربية قبل استقراره في أمريكا، ولكن بين عدة وظائف كذلك. عمل وايلدر مراسلًا، وصحفيًا كاتب مقالات رياضية وتحقيقات جنائية، وجيجولو، وكاتب سيناريو، ومخرجًا، ومنتجًا، وفي فترة من حياته عمل مناديًا للسيارات، وظل طوال حياته من أكبر جامعي المقتنيات في أمريكا.
إننا نلمس التاريخ الشخصي لوايلدر مجسدًا في كل أفلامه، ومخزون الخبرة واضح منذ أعماله المبكرة. وربما لهذا السبب نجحت أفلامه نجاحًا شعبيًا واسعًا. ففيلمه «كنز في الحفرة» هو نتاج لخبرة عمله في صدر شبابه كمراسل صحفي في صحف برلين. واستفاد في فيلم «كعكة الحظ» (1966) من خبرته في كتابة المقالات الرياضية في الفترة البرلينية أيضًا، حتى أن تمكنه في فيلم «شاهد إثبات» يرجع إلى جزء منه إلى فترة عمله ككاتب في صفحات الجرائم والتحقيقات في صحف برلين أيضًا. وكذلك فيلمه «الصفحة الأولى» (1974)، الذي تدور أحداثه في مكاتب إحدى الصحف.

عودة إلى المكان
ظل وايلدر يدّعي دائمًا أنه اضطر في فترة من حياته في أوربا، وفي مراحل حياته المبكرة في أمريكا، للحياة كـ «جيجولو»؛ يغوي النساء، ويعيش على نفقتهن. إن تلك الخبرة ملموسة في «البعض يفضلونها ساخنة» في شخصية توني كيرتس، عازف الساكسفون. والأخ الأصغر في «سابرينا». وفي زير النساء في «الحب بعد الظهيرة». والضابط في «علاقة خارجية»، ومحرر الكتب في «هرشة السنوات السبع».
أما خبرته في العمل بكواليس السينما، ومع النجوم، فتظهر جلية في أفلام «شارع الغروب»، و«قبلني يا أحمق» (1964)، و«فيدورا» (1978).
وخبرته في العمل مع كتّاب السيناريو، والاحتكاك بكتاب المسرح والرواية، تظهر في أفلام «عطلة نهاية الأسبوع الضائعة» (1945)، و«شارع الغروب»، و«هرشة السنوات السبع».
وخبرة عيشه في أوربا، والأجواء الأوربية التي خبرها، تظهر في عدد كبير من أفلامه، من قبيل «فالس الإمبراطور» (1947)، و«سابرينا»، و«الحب بعد الظهيرة»، و«إرما لا دوس» (1963)، و«فيدورا». حتى أن فيلم «علاقة خارجية» وما فيه من أجواء السوق السوداء والدمار في ألمانيا، هو نتاج لخبرته للحياة في ألمانيا، عندما عاد إليها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، للعمل مسؤولًا بمكتب الدعاية للحكومة الأمريكية في برلين. وخبرته في حياة الفقر، وبالأخص في فترة بدايات الوصول لأمريكا، أيام كان يعاني البطالة والفاقة، واضحة في أفلام مثل «شارع الغروب»، و«البعض يفضلونها ساخنة»، على سبيل المثال. إن وايلدر لا يذهب إلى أي مكان دون أن يعود إلى نفسه.

الأسلوب
يمكن وصف أسلوب وايلدر في صنع الأفلام بـ«الثورية» في الكتابة، و«المحافظة» في الإخراج. لقد كره وايلدر أساليب هيتشكوك وأورسون ويلز في الاستعراض الإخراجي؛ تلك الأساليب التي تطالب بالانتباه لنفسها. كان يرى أن الأسلوب الأفضل في الإخراج هو عدم لفت النظر إلى الإخراج، وعدم تشتيت انتباه المتفرج عن القصة، لا يمكنك في أفلام وايلدر أن تشعر بالكاميرا، ولا بالمخرج الذي يقف خلفها.
لكن هذه المحافظة في الأسلوب الإخراجي، رافقتها جرأة كبيرة في توسيع مجالات الحرية في الموضوعات والحوار في «هوليوود» الأربعينيات والخمسينيات. لذلك كان لوايلدر، دائمًا، مشاكل مع الرقابة في «هوليوود»، لتخطيه «كود هيز الأخلاقي». للدرجة التي كان نقاد السينما في أمريكا يلومونه على جرأة حوارات أفلامه الزائدة عن الحد، والتي كانت تتعدى الحدود المألوفة في «هوليوود» خلال تلك الفترة.
طريقة عمله مع الممثلين كانت مميزة وفريدة. لم يكن من المؤلفين/ المخرجين الذين يفرضون السيناريو على الممثل، بل على العكس، كان حين يستقر على بذرة فكرة فيلمه القادم، يعمل مع الممثلين الذين يختارهم على تطوير الأدوار والحوار، لكي يتناسب مع شخصياتهم، والأهم، لكي يتناسب مع قدراتهم. 

قدرات محدودة
كان وايلدر يرى أن قدرات الممثلين محدودة في النهاية، مهما كانت الموهبة، أو الحرفية في التمثيل. أدت هذه الاستراتيجية في العمل مع النجوم، وهو لم يكن يعمل إلا مع النجوم، إلى أداءات تمثيلية لا تنسى. على سبيل المثال: جاذبية مارلين مونرو وبراءتها الطفولية في آن واحد في «البعض يفضلونها ساخنة»، ورومانسية همفري بوجارت في «سابرينا»، والأداء الكوميدي النادر لجيمس كاجني في «واحد، اثنان، ثلاثة»، فضلًا عن الأداء الباهر للثنائي جاك ليمون ووالتر ماتاو، اللذين رافقاه في العديد من أفلامه.
هذه الثنائية وذلك التناقض بين الثورية في الكتابة والحوار، والمحافظة الشديدة في الإخراج، ليست هي الملمح الوحيد في أسلوب المفارقات التي يميز أعمال وايلدر. فطالما كان أساس عمل وايلدر في أفلامه هو المفارقة القائمة على التناقض الصارخ، الذي ينتج من الجمع بين الأضداد: في الشخصية، والأفعال، والأفكار، والمشاعر، وهو ما يؤدي إلى سوء التفاهم والمواقف الكوميدية التي يتولد عنها الضحك. وفي كثير من الأحيان، يستخدم «القناع» حيلة درامية فعالة لتوليد المفارقات الساخرة، فيعكس التناقض بين الشكل والجوهر. ثم يضاعف من هذه التناقضات بحيلة «القناع داخل القناع».
ولنأخذ فيلم «البعض يفضلونها ساخنة» مثالًا على أسلوب وايلدر في المفارقات. يفتتح وايلدر الفيلم بسيارة لنقل الموتى، تتحول فورًا إلى سيارة للعصابة. والتابوت في السيارة هو صندوق لتهريب الخمور. ومحل التوابيت هو ملهى ليلي لبيع الخمور الممنوعة من التداول في فترة حظر الخمور بأمريكا. والخمور في المحل يسمونها «القهوة». وأفراد العصابة المرافقون لزعيم العصابة هم في الحقيقة محامون خريجو جامعة هارفارد. ومارلين مونرو تحسد دافني (جاك ليمون) على قوامها الممشوق. وجيري (جاك ليمون) يرتدي قناعًا ويتحول إلى دافني.

جو/ جوزفين
 يرتدي جو (توني كيرتس) قناعًا ويتحول إلى جوزفين في البداية، ثم يرتدي قناعًا آخر ويتحول إلى شيل جونيور، ثم قناعًا ثالثًا فوق القناع الأخير: قناع البرود العاطفي. ويستمر التنكر وارتداء الأقنعة المختلفة أثناء المطاردات الأخيرة مع العصابة في أروقة الفندق. وقارب المليونير يرجع إلى الخلف عوضًا عن السير إلى الأمام، ويقول شيل جونيور إنه يبدو أن الوقود قد نفد منه، فتعلّق مونرو: «غريب أن ينفد الوقود من قارب ملك البترول»!
القناع، والتنكر، والخداع، هي التي تنقذ البطلين من براثن أفراد العصابة. حتى أن هناك مشهدًا يهربان فيه من العصابة، فيقابلان بعض أفرادها في المصعد، وبدلًا من أن تفتك بهما العصابة، يرفع أفرادها القبعات احترامًا للسيدتين. والقناع، والكذب، والخداع، هي التي تؤدي إلى وقوع توني كيرتس في حب شوجر كين. والقناع هو الذي ينقذ الموسيقيين الفقيرين من الفاقة، والبطالة، بل ومن الموت أيضًا.
ومن أجمل مشاهد السينما العالمية، مشهد النهاية في الفيلم. يكشف جاك ليمون للمليونير أوزجود، الذي وقع في حب القناع الذي يرتديه (دافني)، ويصر على الزواج منه، يصارحه ويكشف له أخيرًا عن أنه رجل مثله، وينزع الباروكة ويريه وجهه الحقيقي، ويقول له: «بصراحة، أنا رجل!»، فيرد عليه أوزجود، متمسكًا بالزيف: «لا يوجد أحد كامل».

البطل
«أبطال» وايلدر دائمًا من المخادعين والكذابين والماكرين. مخادعون من الدرجة الثانية، التي لا تصل إلى حد المجرمين المحترفين أو العصابات، فهذه هي حال البشرية جمعاء عنده. ورغم الخبث والمكر والخداع، لا يزدري أبطال وايلدر أنفسهم، كما أنهم لا يندمون على خداع الآخرين والكذب عليهم. ورغم أن نظرة أبطال وايلدر للحياة هي نظرة واقعية تشاؤمية، ويدركون اهتراء القيم الإنسانية، فإنهم مع ذلك متفتحون للحياة، متحمسون، عمليون، وأبعد ما يكونون عن الدين. إن قصص وايلدر دائمًا هي بين الماكرين والأكثر مكرًا. والأكثر مكرًا عنده هم الضعفاء. والضعفاء عنده يغلبون الأقوياء.
تحكي شوجر كين في «البعض يفضلونها ساخنة» عن خداع وغدر كل الرجال الذين أحبتهم، من عازفي الساكسفون، وعلى نحو متكرر ونمطي: يستعيرون منها النقود لينفقوها على سيدات أخريات وعلى رهانات الخيول، ويهجرونها في النهاية، مخلفين وراءهم جوربًا قديمًا وأنبوب معجون أسنان فارغًا.
وبسبب خداعه ومكره، يرتدي بطل وايلدر دائمًا قناعًا، سواء حرفيًا أو ضمنيًا. وفي أحيان كثيرة يرتدي حتى أكثر من قناع واحد، قناع على قناع. إن كل تنكّر هو مضحك، لأنه يبتعد عن طبيعة الأشياء ويبرز التناقض والشذوذ. إننا لا نضحك على الجمال، بل نضحك على التشويه والشذوذ والأقنعة والعماوة والمفارقات التي يدركها عقلنا. حتى أن الطيبة أو النبل أو التحضر عند أبطال وايلدر هي أقنعة يرتديها البشر لإخفاء حقيقتهم. يقول بطل «هرشة السنوات السبع»: «خلف هذا القناع من التحضر، كلنا متوحشون، رجالًا ونساءً، ونحن في حالة انحدار شديد، ولا يمكننا التوقف ولا الهرب من هذه الحقيقة».

كعكة الحظ
إنها كوميديا «حرب الجميع ضد الجميع»، التي تعرض صراع القوى غير الشريفة في المجتمع الأمريكي. وبطل وايلدر هو إنسان المجتمع الأمريكي، المنغمس في القيم والممارسات الرأسمالية، ووحشيتها. ونشاهده في كيفية تفاعله مع إكراهات المجتمع الرأسمالي، وهو يجاري هذا المجتمع في فساده.
فعلى سبيل المثال: فيلم «كعكة الحظ» هو استعارة ومجاز للمجتمع الرأسمالي وثقافته المهووسة بالغنى عن طريق المكسب السهل وضربة الحظ. وفي «تعويض مزدوج» (1944) نرى مدى قدرة موظفي شركات التأمين على الفساد والشر. وفي «الشقة» نرى نصف أمريكا وهو يحاول خداع النصف الآخر.
 إن جاك ليمون؛ الذي يعير شقته لرؤسائه لكي يلتقوا فيها عشيقاتهم مقابل منافع وترقيات وظيفية، هو نموذج للأخلاقيات السائدة في مجتمع الشركات الرأسمالية الكبرى. وفي «شارع الغروب» تظهر وحشية نظام النجومية وهوس مطالبة النجوم بالإعجاب، والذي سيستفحل فيما بعد في صورة المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي والـ «يوتيوبرز»، ويكشف أيضًا الكذب والخداع الموجودين تحت سطح الهالة البراقة لصناعة السينما في «هوليوود»، بل والمجتمع الأمريكي كله. إن الفيلم هو مظهر من مظاهر الوعد الأمريكي الذي ينتهي إلى الإخفاق والإحباط، تمامًا مثل «المواطن كين» (1941) لأورسون ويلز.

اللغة والحوار
- كيف هي الأحوال في موسكو؟
- ممتازة، المحاكمات الجماعية الأخيرة كانت ناجحة للغاية، سيصبح لدينا الآن عدد أقل من الروس، ولكن روسًا أفضل!
منذ فيلم «نينوتشكا» (1939) الذي شارك وايلدر في كتابته لإرنست لوبيتش، وأسلوبه في الحوار لا يمكن للأذن أن تخطئه. ذلك الحوار الذكي، الساخر، المصقول، الحاد، اللاذع، القارس، الأنيق، عرف فيما بعد باسم «السخرية الوايلدرية». كانت لدى وايلدر أذن شديدة الحساسية لأشكال وإيقاعات الخطاب في الثقافة الشعبية الأميركية. وربما كان ذلك نتاج غرامه الطويل، منذ الصغر، بموسيقى وأغنيات الجاز الأمريكية. ونحب التمييز هنا بين الضحك الذي تعبّر عنه اللغة، كما عند وايلدر، وبين الضحك الذي تخلقه اللغة، كما في المساخر. الأول يميز الكوميديا الذكية، والثاني يصم الهزليات. الأول يعبّر عن المفارقات التي تعتري التجربة الإنسانية، والثاني ما هو إلا مجرد زلات لسان ومزالق في الكلام. الأول يمكن ترجمته من لغة إلى لغة، لأن التجربة الإنسانية متشابهة. والثاني غير قابل للترجمة لأنه مدين لاختيار المفردات في اللغة المحلية المعنية. ولذلك تحظى أفلام وايلدر بإعجاب كل الثقافات، وتنتزع الضحك حتى بعد ترجمتها إلى اللغات المختلفة. في «البعض يفضلونها ساخنة» يلقي زعيم العصابة ليتل بونابرت، الذي يشبه الزعيم الإيطالي الفاشي موسوليني، خطبة في أعضاء العصابة، يقول فيها:
- «لقد مضت عشر سنوات منذ أن انتخبت نفسي رئيسًا لهذه المنظمة. وأقول لكم الآن إنكم قد أحسنتم الاختيار. لقد حققنا في العام الماضي 112 مليون دولار أرباحًا قبل خصم الضرائب».

روائع كوميدية
وذلك الرد الأيقوني الذي ردت به نورما في «شارع الغروب» على ملاحظة الكاتب الشاب، حين قال لها وهو يتفرج على أفلامها القديمة:
-  لقد كنتِ ممثلة كبيرة!
- أنا كبيرة... الأفلام هي التي صغرت.
وايلدر، تلميذ لوبيتش في الحوار السريع، الأشبه بكرة البنج بونج في سرعتها ورشاقتها وذهابها وإيابها، قد عانى كثيرًا في تعاونه في كتابة السيناريو والحوار مع تشارلز براكت، ذلك التعاون الذي استمر طوال فترة الأربعينيات. تشارلز براكت المحافظ، الجمهوري، خريج مدرسة هارفارد في القانون، كان النقيض التام لوايلدر اللبرالي، الديمقراطي، الحاد اللسان، والذي كان دائمًا ما يدخل في معارك ومناقشات عاصفة في شريكه بكتابة السيناريو. لكنه وجد ضالته أخيرًا مع كاتب السيناريو إيزي دايموند، الصحفي السابق ذي الأصول الرومانية، والليبرالي والديمقراطي مثله. وتعاونهما المشترك، الذي استمر منذ بدايات الخمسينيات، وطوال 25 عامًا، أسفر عن الروائع الكوميدية التي صنعها وايلدر.  يتميز حوار وايلدر أيضًا بالثقافة الواسعة، وموقف اجتماعي وسياسي ساخر، وروح مشبعة بالتهكم اللاذع على الموقف الإنساني برمته، تصل حد فقدان الأمل.

النهايات
ينتصر في النهاية البطل/ الضعيف، ويحقق حلمه عن طريق التمسك بالأقنعة وبالخداع.
الكذب والخداع في «الرائد والقاصرة» يؤدي إلى نجاح علاقة الحب بينهما. وفي «علاقة أجنبية» تتحقق قصة الحب الملفقة والكاذبة بين الكابتن وعضوة «الكونجرس». وفي «سابرينا» يقع همفري بوجارت في حب أودري هيبرن، وهو الذي كان يكذب بشأن حبه لها في البداية. وفي «الحب بعد الظهيرة» يقع زير النساء بالنهاية في حب أودري هيبرن، بعد أن تكذب عليه. 
وفي «قبّلني يا أحمق» يقع عازف البيانو أورفيل في حب النادلة التي يدعي كذبًا أنها زوجته أمام المغني المشهور دينو. وفي «واحد، اثنان، ثلاثة» يخلق الكذب الحقيقة هنا أيضًا، فيتحول الشيوعي البلشفي المتحمس، بعد محاولة إلباسه القناع، إلى رأسمالي حقيقي، ويتولى وظيفة قيادية في شركة كوكا كولا، بل ويقدم اقتراحات تؤدي إلى زيادة أرباح الشركة الرأسمالية. وفي «شارع الغروب» يتحقق حلم نورما دزموند، فتتسلط عليها أضواء الشهرة من جديد أثناء اعتقال الشرطة لها، وهي تنزل على السلالم أمام عدسات المصورين، في حين يشرف المخرج/ الخادم ماكس على أطقم التصوير. وفي «شاهد إثبات» ينتصر المجرم على المحامي الذكي، بل ويصبح المحامي ألعوبة في أيدي المتنكرين الكاذبين؛ المجرم والممثلة السابقة. وفي «إرما لا دوس» يؤدي تخلّص نستور من قناع التنكر للورد الإنجليزي إلى دخوله السجن وتهديده بالمتاعب، ولا يجد وسيلة للإفلات من هذه المتاعب إلا بإحياء التنكر وارتداء قناع اللورد مرة أخرى.

الطريقة الوحيدة
وفي «البعض يفضلونها ساخنة» يقع جو عازف الساكسفون في حب المغنية شوجر كين، بعد أن يرتدي قناعًا زائفًا كعازفة ساكسفون أنثى. تقول شوجر كين: «لقد سئمت الحصول دائمًا على بواقي المصاصة المأكولة». ويبدو أن هذا هو نفس تفكير كل أبطال وايلدر. نفس دافعهم من أجل الربح، ومن أجل الحصول، أخيرًا، على المصاصة كاملة. وتتحقق رغبتهم في النهاية، ويحققون فوزهم، بالطريقة الوحيدة المتاحة للضعيف في مجتمع الاستهلاك الرأسمالي: بالخداع، والكذب، والأقنعة. يصبح القناع هو الحقيقة في النهاية، بل ويصبح واقعيًا أكثر حتى من الواقع نفسه. وبمصطلحات جان بودريار: «يصبح المصطنع أكثر واقعية من الواقع الإنساني، ويتم القضاء على الأصل نفسه لمصلحة الصورة المزيفة، أي يتم اغتيال الواقع لمصلحة القناع. وينفصل المصطنع/ القناع عن الواقع، فلا يصبح صورة منعكسة للواقع، ولكن صورة أصيلة مختلفة ومغايرة، وأكثر واقعية من الواقع الرث، الذي يتم تجاهله لأنه أقل جاذبية وربحًا من المصطنع».
يقول المليونير أوزجود في نهاية «البعض يفضلونها ساخنة»: «لا أحد كامل!» وهو قول ينسحب على جميع البشر. إن أفلام وايلدر تقدم لنا الجنس البشري بوصفه مفتقدًا للأحكام الأخلاقية، في ظل فلسفة «الحياة كمطاردة بين الفريسة والصياد» في مجتمع الغابة البشرية. وكوميدياته هو نوع من السخرية من هذا الوضع، ويحق لنا وصفها بـ «الكوميديا الديستوبية». وفي كوميديا المخادعين تلك، لا يوجد الأمل إلا في ظل أخلاقيات الخداع والمكر والأقنعة ■