اللعبة المسرحيّة عند عصام محفوظ من خلال مسرحية الزنزلخت

اللعبة المسرحيّة عند عصام محفوظ  من خلال مسرحية الزنزلخت

جاءَ في كتابِ رفعت طربيه «رُفِعَت السّتارة»: «ازرع على المسرحِ خشبةً واجعلِ الجمهورَ يصفّقُ لها». فالكلّ يتحلّقون حول شخصيّة عابقة بالحدث المسرحي الحقيقي: إنه عصام محفوظ، وهو الذي آمن أن اللعبة المسرحية جزء لا يتجزأ من عملية الإيصال.  هو شاعر، ومؤسس للكتابة المسرحية، وناقد، ومترجم، وصحفي.
اعتقد أن المسرح هو الأكثر حساسية لتبدل الظروف الاجتماعية والسياسية، لكنه لم يكتشف ذلك إلا بعد النكسة، حين اندفع في تسييس مسرحه. 
من مواليد الجنوب (ابن مرجعيون) عام 1939، وحصّل في معهد الدراسات العليا في باريس دبلومًا في الدراسات المعمّقة.

 

بدأ محفوظ شاعرًا، ثم كتب عام 1967 مسرحيته الأولى «الزّنزلخت»، وقدّمها إلى فرقة المسرح الحديث مع منير أبو دبس، فأخرجها برج فازليان.
إنه أديب وناقد أيضًا، اتجه صوب كل إبداع تجريبي، وبقي حاضرًا في جريدة النهار مدة ثلاثين عامًا من خلال الترجمة وكتابة المقالات والمحاورات.
خاض غمار الحداثة مع جماعة مجلة «شعر»، ومن أشهرِ أعماله مسرحيات الزنزلخت والدكتاتور، وكارت بلانش، وديوانَي أشياء ميّتة، وأعشاب الصّيف.
وله كذلك ديــوان «أراغـــون الشّاعر والقضيّة»، و«السورياليّة وتفاعلاتُها العربيّة»، كما كتبَ عن جورج شحادة وجبران، والكثير من عمالقة الأدب والفن، وله لمسة في الأدب القصصي من خلال قصة اسمها «عاشقات بيروت الستينيات».

مرحلة الكتابة الحديثة
تعد مسرحية الزنزلخت تأسيسًا لمرحلة الكتابة الحديثة في المسرح اللبناني، وتدور حول محاكمة يتولاها مريض عقلي يدّعي أنه جنرال. يؤلف محكمة ليحاكم مريضًا آخر في المستشفى يدعى سعدون على جريمة لم ترتكب. ويصدر الجنرال حكمه بإعدام سعدون الذي يتجمد من شدة البرد، ويتحول إلى شجرة «زنزلخت». فتنتهي المحاكمة مع دخول راهبة لتعيد الجميع إلى أحجامهم الطبيعية.
من خلال قراءتي المعمقة لمسرحية الزنزلخت لاحظت أن عصام محفوظ استدعى الشخصيات إلى منطقته، وقد تضامنتِ الخبرات الجماعية على المسرح، وهذا ما ذكره محفوظ في تقطيعِ المشاهد: «كل الممثلين يبقون على المسرحِ طوال مدة العرض». 
إنها ديمقراطية محفوظ وقد تجلت في شخصياته يقول: «العلاقة وطيدة بين تطور المسرحِ واستتباب الديمقراطية الحقة».
وركز محفوظ على الممثل، ويلتقي هنا منير أبودبس بوصف الممثل مركز العملية المسرحية: 
– الجنرال: المتهم يتهرب من السؤال.
المتّهمُ يراوغ، الجنرال يتعب بسرعة.
- الكاتب: نعم. حضرة الجنرال يتعب بسرعة. 
- الجنرال: بسرعة. بسرعة يا سعدون اعترف، اعترف أنك عملتها.
- سعدون: أنا ما عملت أي شيء. ما عملت أي شيء، اسألوهم...». 
فالمحاورة السريعة مركز عملية الاستجواب التي لم تنته على مدار اللوحات أو المَشاهد.

كشف الغياب في النص
لقد قدّم محفوظ المسرحية إلى أبو دبس، وحسنًا فعل، لأن منهج أبو دبس كشف الغياب في النص كما يذكر أصحاب المنهج التفكيكي: «المعنى يتشكل في المسرحية، ويتحرك الممثل على خشبة عارية، وتتكفل الإضاءة بتشكيل المشهد».
وذكر ذلك محفوظ: «الضوء مسلط أكثر على أماكن حركة المشاركين، في حين هو أخف على أماكن الممثلين الجامدين غير المشاركين، حيث يبدو وكأنهم في الظل».
أحب محفوظ أن يكتب مسرحيته باللغة العامية، فاللغة المحكية، وقد أثقلها بالثقافة الشعبية، وبرصد للواقع السياسي والاجتماعي، تشيح حرية الإبداعِ للكاتب، وحرية الأداء للممثل، وحريات اللعب بالشخصيات للمخرج:
«اصبُر... الصبر مفتاح الفرَج». 
أنا معوّد على الصبر، من زمان وأنا صابر». 
«في أشيا كثير ما سمعت عنها، لأنك مشغول بقضيتك. الاستيراد زاد ما عدنا قادرين نوظف الزايد منها. عندي عناوين سجون خالية كثير، وبالمقابل السجون الشعبية مليانة أكثر من اللزوم. المساجين الواقفين أكثر من القاعدين...».
هنا يلتقي محفوظ في موضوعِ اللغة يوسف الخال الذي خاطب الفنان رفعت طربيه قائلًا:
«شوف يا تعيس، اللغة المحكية نابضة بالحياة...».
واللغة بحسب طربيه مثل الممثل لا نضع لها مصطلحات بعيدة من البوح الذي نستعمله في حياتِنا اليوميّة.
ونلاحظ أن محفوظ عبّر عن ألمه الداخلي، وربما أخذ هذه المقاربة الحزينة عن غوردون كريغ (ممثّل ومخرج مسرحي إنجليزي) يقول:
«التعبير الفني عن الألم أشد إثارة في النفس من الألم ذاته». 
وقد عبّر محفوظ في عدة محاورات عن واقع حال تاعس بسبب الحرب وهي سبب جوهري صادم. وهنا استخدم ثقافته الشعبية دليلًا على وعيه لقيمة العدالة، وهو مطبوع بذكريات من طفولته في الجنوب:
«كنت أقف في احتفال عاشوراء في النبطية، مذهولًا أمام ما يحدث، ومن هذه المشهديات استنتجت أن الحياة تصبح أحيانًا أصعب من الموت».

كنوز شعبية
من كنوزه الشعبية في الزّنزلخت:
  - كثرةُ الأمثال: «الله يسعدهم ويبعدهم». 
«اسأل مجرّب ولا تسأل الحكيم».
- وفرة المصطلحات التي تشير إلى طعام اللبناني في القرى: «الكرم والزيتونات ما عادت تحمل، هيدا غضب الله».
«الجزر، العدس، لما احتل الجيش الفرنساوي بلدنا اشترى كل العدس بالبلاد».
«الحرب اللبنانية قشّت الأخضر واليابس».
- اختيار الأسماء المناسبة للمشهد، فالاسم يختصر ثقافة الشعب:
«كان اسمي نينوى، بأيام الأتراك سميت حالي حكمت، وأيام الفرنساوية صار اسمي زوزو، بالاستقلال سميت حالي مخايل، يعني مايكل بالإنجليزي، على اسم ابن عم خالة أمي، غني كبير بالمهجر كان على فراش الموت وقام، وقرر ما يموت حتى ما يورثنا. ولما يئست سميت حالي فورد».
  يقول محفوظ على لسانِ الأم:
«الله يخليهم، يا ضيعان التعب. بيوت كتيرة متروكة... الأرزاق داشرة... ما بقي حجر على حجر. ما عدت سمعت أي خبر. مفكرني كبيرة يا ابني؟ من الهم قاعدة لحالي...».
في مسرح محفوظ انتظار، ولا شيء عنده غير إرادي، لأنه تقصد الكشف عما تحاول السياسة طمسه يقول: 
«الحدث المسرحي الحقيقي مروي لكشف الحقيقة حين الحدث في الإعلام السياسي مروي لإخفائها».
لقد جسد الفترات الزمنية في علامات الوقف بخاصة النقاط الثلاث، وقد وضعها للتأكيد على حالات القلق أو الحد من متاهة الحوار وازدواجية مساره:
«بنت أبو غزال لقوها مقتولة بالحمّام...
يقول سعدون: لا تقتل.
وصيغتها مسروقة...
يقول سعدون: لا تسرق.
أبوها مات من القهر...
يقول سعدون: أكرم أباك وأمّك».

لعبة إبداعية
هي لعبته الإبداعية في تعزيز ظاهرة التشتيت من خلال تقطيعاته الطويلة والقصيرة.
لقد حمل وطنه على قلبه، وكأن مسيرته الماضية دعوة إلى الحاضر، هدفها حفظ الأمانة وحماية الإرث المقدس، وهو لبنان أولًا ثم خشبة المسرح.
واللافت هو عنوان المسرحية «الزنزلخت»، وهي شجرة معروفة بطعمها المر، وهنا أركز على فكرة التحول والحلولية عند محفوظ:
«قول لحالك إنك رح تصير شجرة... فكر بالشجرة... ولما تحس بنوبة برد قوية هزت كل عضامك... يعني صرت شجرة». 
والرمز هو صورة الواقع:
 «طيّب ليش الزنزلخت؟ لأنو طعمها مرّ. لمّا مرق الجراد على بلدنا أكل الأخضر واليابس، ما عدا الزنزلخت. 
بس الزنزلخت دايمًا بين بيوت الناس.
أحسن حتى تتفرّج على المصايب وتضحك...».
شجرة الزنزلخت اختصرت الأنا/ الكاتب/ الوطن، فقد اختارها محفوظ عنوانًا للمسرحية، ثم جسدت ظاهرة الحلولية من خلال المحاورات، لتكون في الختام أيضًا نعشًا لسعدون.
هكذا اختصر محفوظ واقعَ لبنان انطلاقًا من أناه الفرديّة، ثم أناه الكاتب, أي محفوظ المفكر، وصولًا إلى البؤرة الكبرى وهي الوطن، أي وطن محفوظ ومنه إلى الجميع.
وأختم بوصية للمخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي من كتابه «المسرح جنّتي»:
«أوصيك أيها الفتى الذي وقعت عليه واقعة الغياب أن تحمل بلادك كنخلة باسقة إذا كانت بلادك لا تقوى على حملك» ■