الساتورا أصل المسرح الكوميدي

الساتورا أصل المسرح الكوميدي

الساتورا هي أشعار ساخرة ظهرت في عهد الرومان تنتقد الناس والأوضاع بحسّ فكاهي حريف كالكاريكاتير وكالاستهزاء. وقد كان اسمها Satura يشير إلى معنى جاد هو القانون المتعدد المواد، وإلى اشتقاق شعبي لتشكيلة من مواد مختلطة محشوة في نقانق شهية تباع بسعر رخيص في الأسواق.
 وقد وضع أهل الأدب للاسم نظرياته الخاصة فقالوا إنه جاء من الساتيروي الذي كان يحكي القصص الهزلية الفاضحة يستهزئ بها من المسرحيات اليونانية الساتيرية الصاخبة بمزاح زائد عن الحد يصل إلى درجة الفسق. 

قال الشعب عن هذا الفن إنه طبق عامر بفواكه متنوعة كان يُقدَّم في المعابد للآلهة من بواكر الحصاد، ثم أصبح يُعرض للناس في الشارع، فالمعنى: دسم ومتنوع ومحشو، وهي فاكهة حريفة. اسم مؤنث للدلالة على شيء مملوءًا وشهي وحاذق ووجبة حافلة، دعك من الإشارة إلى إله الخصوبة ساتورنوس، الذي كان الاحتفال بعيده مملوءWh بمرح صاخب ورقصات غير لائقة، فاعتبروا المسرحيات الساتيرية الساخرة مهازل رعوية يقدّمها سكيرون ومهرجون وجبناء، لكنها عاشت بعد موت المسرح التراجيدي الذي كان يتلو أمجاد الآلهة، في البداية كان يسخر من شخصيات وموضوعات أسطورية، ثم تحول في العصر السكندري إلى حياة البشر العاديين بدون أي دلالات أخلاقية في البداية، حتى ظهرت روح النقد عن لوكيليوس، فكانت الساتورا التي يكتبها أول ما تضمن أشياء مضحكة ومخجلة، على نمط المسرحية الساتيرية الهلينستية، تناقش موضوعات معاصرة، بل أشخاص يعرفهم وجهًا لوجه (الهجاء الشخصي بالاسم) والضحك الساخر، والفحش، والبذاءة. 

مصطلح أدبي مُعترف به
هكذا صارت الساتورا مصطلحًا أدبيًا معترفًا به، ثم دخلت مجال المجاز والاشتقاق، عندما استبدل لوكيليوس الرقص والغناء في مسرح أريستوفانيس بالحوار الكوميدي الرشيق الذكي، والمناقشات الحادة للأول بتلقائية كوميدية متدفقة، وفي المجمل أعاد هيكلة البناء الدرامي نفسه، مما جعل الناس ينتبهون إلى أن كوميديات أريستوفانيس غير مرتّبة ومرتجلة لا يمكن التنبؤ بأحداثها التالية، وكان يضع شخصيات رئيسية قليلة، ويسرف في الشخصيات المساعدة والجوقة التي تخرج عن السيطرة، فأصبح مسرحه يتميز بمواقف اختلاط الممثل مع الجمهور متقمصًا دور كاتب المسرحية نفسه.
 وبينما كان أريستوفانيس وزملاؤه يتوجهون بالكلام إلى المشاهدين في وسط العرض المسرحي، جذبًا للرسالة الأخلاقية للمسرحية، كانت الجوقة وصغار الممثلين يتحدثون مباشرة إلى المتفرجين بهدف تسوّل الإعجاب والتعبير عن استحسانهم بالتصفيق. كان هذا يحدث في الوقت الذي يكون المشاهد منتشيًا وذهنه مستعدًا لتقبّل أي مقترحات! حدث هذا كثيرًا وبعد سنوات عديدة، مثلًا عندما راح الفنان الكوميدي المصري نجاح الموجي يخاطب الجمهور مباشرة في إحدى المسرحيات، ليسخر من المطربين الشبان الواحد تلو الآخر.
وهناك سمتان رئيسيان للساتورا في بداياتها: روح المزاح الهازل، والحرية في استعمال المرح البذيء، وهو في المجمل ما يُطلق عليه «باراباسيس»، أي الخروج عن السياق! 
الظريف أن لوكيليوس لم يُحب الاستمرار في قصائد الساتوراي، كما أسماها، كنظير روماني للكوميديا القديمة، وقال إن هذا اللون دخيل، والأفضل أن يواصل الكتابة للتراجيديا حتى يحترمه معاصروه، وكان يخشى أن ينتقده السادة بأنه يهاجم الفساد المتفشي في المجتمع الروماني المعاصر له بسلاح فني أجنبي. 

حوارات مرتجلة
أما الوباء الذي تفشى في البلاد عام 364 قبل الميلاد، فقد كان هو السبب في نشأة الساتورا، عندما راح المسؤولون يقيمون ألعابًا مسرحية لإرضاء الآلهة، ويؤدون رقصات دينية على أنغام الناي، وكانت هي المرحلة الأولى لنشأة الدراما الرومانية، وكانت الثانية هي إضافة الشباب الرومانيين الموهوبين حوارات كوميدية مرتجلة تساير حركات الراقصين، أحكم حبكتها - فيما بعد - ليفيوس أندرونيكوس. وظهرت كلمة ساتورا لأول مرة في السطور الأولى من قصائد هوراتيوس: «ثمة أناس أبدو لهم لاذعًا في الهجاء!» 
  جرى الاعتقاد أن الأدب اللاتيني هو ابن الأدب الإغريقي المنبهر به الذي لا ينفك محاولًا تقليده، حتى تفوّق الابن على الأب في أشكال الفنون وأغراضها. لكن المؤرخ عندما وصل إلى الساتورا قال إنها كلها للرومان! فهل لم يكن لدى الإغريق منها؟ ماذا عن المناظرة المضحكة في «الإلياذة» لهوميروس بين الأحدب المتذمر وأفراد الجيش؟ ماذا عن موقعة فتح كيس الرياح من دون حكمة في «الأوديسا»؟ ماذا عن رواية البطل الملحمي القصةَ ضد نفسه؟! بل إنهم لفرط حس هوميروس الساخر نسبوا إليه القصائد المضحكة التهكمية (المجنون)، و«معركة الضفادع والفئران»، وفكرة انعقاد مجلس الآلهة في السماء، فضلًا عن أبيات المهازل في قصائد هجاء أخيلوخوس، مؤسس فن الهجاء الشخصي. بل إن فضفضة الباشا مع الخادم في مسرحنا الحديث جاءت من النقد الساخر لشخصيات مثل المتطفل وحوارات الفيلسوف مع الطباخ في مسرحيات أريستوفانيس، هذا الارتباط بالحياة اليومية كان أهم ما يميز الساتورا التي تحولت إلى كوميديا وسيطة ندر فيها النقد السياسي على حساب نقد المشاكل الاجتماعية في كوميديات ميناندر التي كان أغلبها يدور عن طفل لقيط في مواجهة الحياة. هذا اللقيط غريب الأدوار هو دائمًا الوجه المسرحي للتهكم السقراطي الذي اعتمد الجدل وتوليد الدعابة لمحاربة السوفسطائيين، هذا الشكل الفني الذي يعود الفضل فيه لأفلاطون طبعًا، فلسانه كان كالسوط الملتهب في محاوراته، حتى نصل إلى ثيوفراستوس الذي وضع في مؤلفه (الكتيب) ثلاثين نموذجًا لشخصيات سلبية تدمر مجتمع أثينا المعاصر، لكنها تضحك بجانبها الأخلاقي الكوميدي.

مرآة للحياة
   هكذا يتأكد في أكثر من رأي محترم أن الساتورا كلها للرومان، لون أدبي كامل تسوده روح المرح ومنظوم بوزن معيّن، ثبتت أقدامه بفضل سلسلة من الكتّاب المعترف بهم، والذي يشار إليه باسم لاتيني هو فن روماني، بل هو الإبداع الروماني الوحيد الذي تفوقوا فيه على أنفسهم! فها هو هوراتيوس يقول إنه يريد أن يقول الحقيقة صراحة مع مناقشة جادة لمشكلة اجتماعية وأخلاقية. فوظيفة الساتورا عنده غير محددة في كونها تنتقد وتسلّي، وإنما تتعدى هذا إلى شيء آخر بناء هو عملية التهذيب والتثقيف، فمرحها ليس هزلًا، وخلف كل ما هو مضحك وشاذ ومستهجن ثمة ألم ومعاناة وحالات جديرة بالتعاطف والرثاء. يوفيناليس يؤكد أن موضوعه هو الحقيقة التي يراها الجميع، فهو لا يحتاج إلّا أن يسير في شوارع روما، أو أن يقف على الناصية وفي يده دفتر؛ فالساتورا مرآة للحياة رغم أن الكتابات الكوميدية صارت شحيحة، ولم يتبق منها سوى عناوين وشذرات.
 كاتب الساتورا يتميز بقوة الملاحظة مع حسّ الفكاهة، ملاحظة غير ظاهرية، بل دقيقة تنفذ إلى الأعماق لتسبر الأغوار، واقعية تكبح الخيال وتجبره على احترام الحقيقة وتقتل المبالغات الفارغة. لكن الحقيقة مرتبطة بشكل ما بالرذيلة، وبالتالي يجب استخدام أسماء مستعارة، فمن الخطر أن يفضح الآثمين عن قول الحقيقة، رغم أن هؤلاء الآثمين فاقدو البصيرة وحمقى ويحتاجون إلى علاج. 
  تلك النزعة رومانية في الأساس، فالتراجيديا الرومانية تنبذ الخزعبلات؛ سواء في أشعار إينوس الملحمية أو كتابات كاتو النثرية أو مسارد شيشرون، وإن قصيدة لوكريتوس (في طبيعة الأشياء) تتشرّب بعمق بالصبغة الساتورية، وتتفجر بالنقد اللاذع في بعض المواضع ولا يني أن يستخدم أي أساليب غريبة تترك أثرًا تهكميًا. وتختلف عن الكتابات الإغريقية في أنها تعليمية لا تتوقف عن انتقاد الآثام والنقائص، بل تتعدى إلى محاولة إصلاح الأخلاق بصراحة الهجاء وملاحة النقد. هنا نقول إنها بوضوح تتبنى معايير أخلاقية سنية سلفية، أي أخلاقيات إنسانية عامة وعظيمة تتخطى الزمان والمكان، فتستمد مصادرها من ازدواجية المجتمع الذي يعتبر الشر هو فقط غياب الخير، وخداع الإنسان لذاته بأن ما يحركه هو في الغالب ما يجب أن يكون، فيجد فيه السلوى ويقبل الحكم على الأمور بمعايير وضعية أخرى تنتهك الأصول ■