من صمت الحملان، إلى سحق الإنسان محمد الرميحي

من صمت الحملان، إلى سحق الإنسان

حديث الشهر
تأملات في أغوار كارثة الغزو

مثل غيمة سوداء تقبل ذكرى يوم الغزو- الثاني من أغسطس عام 1990- فتتدافع إلى النفس صور مفزعة يستدعي بعضها بعضا. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن الخاطر يمتلئ بصور دامية شتى، من مصدرين متباعدين، لكنهما يلحان على البال- الآن- معا. أحدهما كتاب وثائقي مصور عن آثار التعذيب التي مارسها عسكر الغازي في أجساد شعبنا. وثانيهما شريط سينمائي ذاع صيته أخيرا تحت اسم "صمت الحملان" ويتحدث عن المجرمين آكلي لحوم البشر. وإذا ألقينا نظرة هنا وأخرى هناك فإن الرعب المتشابه سيأخذ بألبابنا.. أجساد سلخت جلودها، وأطراف بشرية احترقت حتى العظام في أحواض الأحماض الكاوية.. وجوه نهشتها أسنان وحوش بشرية. وعيون اقتلعتها مخالب بشر ليسوا كالبشر، بطون مشقوقة، وجماجم مثقوبة، وحروق أقطاب مكهربة.. وتصرخ النفس من هول ما ترى: كفى، كفى. فتنغلق العينان زهدا في رؤية المزيد من صور الألم الإنساني. لكن البال ينشغل بالانطباع الذي يصنعه كل ذلك الرعب والأسئلة التي تلقيها صور الشريط السينمائي على مغزى صور الكتاب. وتتشابك محاولات الإجابة.

فهل ندلف إلى شيء من التفصيل؟

وحوش تحت جلود بشرية

تحكي قصة فيلم "صمت الحملان" المأخوذ عن رواية للكاتب "توماس هاريس" عن شرطية تستدعيها رئاستها لتتولى محاولة فتح ثغرة في لغز مجرم مجنون. طبيب نفسي مولع بأكل لحوم البشر، تم القبض عليه بعد جرائم اختطاف عديدة جرى فيها سلخ جلود الضحايا والتهام أجزاء من لحومهم. أودع الطبيب المجرم في زنزانة مصفحة في مبنى هو خليط من المصحة والسجن.. بوابات حديدية تتعاقب، وكاميرات مراقبة تلفزيونية، وحوائط من الصلب والزجاج المصفح. وأمام واجهة الزنزانة وقفت الشرطية الصغيرة مرتعدة تحاول- بمساعدة دراستها السابقة لعلم النفس- أن تحصل على أي شيء من الوحش يقود إلى وقف عمليات اختطاف متجددة يجري فيها أكل لحوم الضحايا.

تواجه الشرطية الصغيرة مخلوقا مصقولا كأنه من صخر.. جسد مشدود، وجبهة عريضة عالية، ووجه أصم، وعينان لامعتان لا يطرف لهما جفن. وبصوت عميق ثابت، ثباتا مخيفا، يبدأ الذكاء الشرير للطبيب الوحش في الرد على أسئلة الشرطية الصغيرة.. يرد على السؤال بسؤال، وبدلا من فتح ثغرة في بنيان جرائمه وما يشابهها من جرائم (يعرف عنها الكثير لأن مرتكبيها وحوش مرضى من مرضاه السابقين).. بدلا من ذلك يفتح هو في بنيانها النفسي الرقيق ثغرات وفجوات. فتستسلم لتحليله النفسي لها عبر الاعترافات، وسرد الأحلام، وفحص الرسوم التي تقدمها إليه طائعة مذعنة.

بذكائه المتوقد ومجموعة حواس مشحوذة تشبه حواس حيوان مفترس يعرف أي نوع من "الكريم" كانت تضعه على بشرتها منذ يومين مضيا، ويعرف هواجس نفسها، وأي نوع من الكوابيس تداهمها. ورغم أنها لا تفقد حماسها للحصول منه على مزيد من المعلومات عن مجرم وحش اختطف ابنة أحد أعضاء مجلس الشيوخ. ورغم دخولها في مغامرة شجاعة للإمساك بالوحش الآخر الطليق مستخدمة ما جاد عليها به الوحش السجين من فتات المعلومات التي ينثرها نثر من يتسلى بضحية يرتب لذبحها والتهامها. رغم هذا كله إلا أن الشرطية الصغيرة تبدأ في فتح عينيها بفزع على عالم من الشك في نوازع السلوك الإنساني. شك يكاد يفقد أنقى الذكريات جوهر براءتها، ويومئ إلى أن الكثير من تصرفات البشر تنطوي على نوع من الشر الكامن. وليست الشرطية الصغيرة وحدها هي من يتملكها هذا الشعور، إنه المتفرج أيضا.. يخرج من مشاهدة الفيلم وقد اهتز يقينه في إنسانية الإنسان، يتساءل: هل يمكن أن يكون تحت جلود البشر وحوش كاسرة إلى هذا الحد؟ حد التهام لحم البشر وهم أحياء! هل في دواخل البشر غابة مرعبة إلى هذه الدرجة؟

أسئلة يطرحها فيلم "صمت الحملان" المبني على رؤى نفسية مريرة. وأسئلة مماثلة تطرحها علينا عمليات التعذيب التي مارسها عسكر الغازي في لحوم البشر.. في معتقل المشاتل، وسجون البصرة، وزنزانات بغداد الانفرادية. ولعله ما زال يمارسها في لحوم أسرانا في سجن أبو غريب ومعتقل الرضوانية والراشدية وسجون تكريت وبيجي، بل ويمارسها على مواطنيه وشعبه.

إنها أسئلة لا بد أن ترد إلى أصولها حتى يستقيم البحث. فإذا كان مسعانا هو الحديث عن الآثار النفسية والاجتماعية للغزو الصدامي للكويت، فإن الغزو نفسه في حاجة لأن نتأمل أغواره المظلمة والثنايا التي خبأت ما تمخض عنه من ملهاة ضربت الحس العروبي في الصميم، ومأساة دفع ثمنها البشر، لا في الكويت الجريح وحده، وإنما بشر هذه الدنيا العربية من الخليج إلى المحيط، بل وغيرهم ممن تقطعت بهم سبل الرزق، أو فقدوا كريم العيش.

الغزو.. علامات استفهام وتعجب

الغزو.. كلمة تعني في قاموس التاريخ البشري أن يجتاح فصيل من الناس فصيلا آخر، في انتهاك للأرض وحقوق البشر على هذه الأرض. وإذا بحثنا عنها في عالم الحيوان فإننا نتعجب. فالغزو لدى الحيوان أمر مختلف تماما وهو تعبير متوحد مع كلمة الهجرة وتضعه كتب سلوك الحيوان كمرادف عندما تعالج ظاهرة الهجرة لدى الحيوانات. وهي هجرة تمليها ضرورات الحاجة إلى الماء والطعام والبيئة المناسبة لاستمرار الحياة. فطيور الشمال تهرب من صقيع الشتاء إلى دفء الجنوب والجاموس البري يقطع مسافات هائلة في قلب إفريقيا عندما يداهمه الجفاف ويستطيع أن يحس بالماء الذي يهطل على مبعدة مائة كيلومتر من موقعه. حتى الجراد الذي تسمى هجراته غزوا، يهاجر أيضا بحثا عن الطعام. أما الغزو الذي يمارسه البشر لأرض البشر وضد إرادات البشر وولوغا في دم البشر، فهذا نوع من العدوان لا تعرفه مملكة الحيوان. فالثعبان لا يلدغ ثعبانا، والنمر لا يطارد نمرا، والضبع لا ينهش جثة ضبع، ولا ينقض النسر الكاسر على نسر من بني جلدته. هذا السلوك "الحيواني" يضع الغزو البشري في مأزق السؤال: ما هي الدوافع والحوافز؟ ولا مفر من الاجتهاد، وفي هذه الحالة سيكون اجتهادا مزدوجا لأنه بحث في حالة خاصة من السلوك العدواني لدى الإنسان. ثمة مدخل في كتاب "سيكولوجية الإرهاب" للدكتـور عزت سيد إسماعيل وإشارات متفرقة في كتب علم النفس وغيرها في كتب علم الاجتماع. ومن المدخل والإشارات تتكون محاولة الإجابة.

لقد لجأ علم النفس وعلم الاجتماع إلى الإيثولوجيا Ethology أي علم الدراسة المقارنة لسلوك الحيوان وبخاصة في بيئته الطبيعية. والهدف هو تحديد طبيعة العدوان Agression والسلوك العدواني لدى البشر، أفرادا وجماعات. فالغزو (البشري) عملية تدميرية تتضمن العدوان وتستخدم العنف بهدف إلحاق الأذى بالآخر. وجاءت محاولات التفسير الإيثولوجي للعدوان لتبحث ادعاء أن العدوان سلوك غريزي، ومن ثم تكون اجتياحات الغزاة وهجماتهم جانبا لا مفر منه في الطبيعة البيولوجية للبشر. ولقد تبنى هذا الموقف، من علماء النفس- أتباع فرويد- كل من روبرت أرديري، وديزموند موريس، وكونراد لورنز. لكن سرعان ما وجهت الانتقادات إلى آرائهم على اعتبار أنه لم تلاحظ أية شواهد على قيام غريزة العدوان لدى الإنسان. صحيح أن الإنسان شأنه شأن الثدييات جميعا يأتي إلى الوجود ولديه مقدرة ولادية موروثة، على العنف والسلوك العدواني. إلا أن التعبير عن هذه المقدرة معلق على عامل خارجي. ثم إن الشيء الملحوظ في السلوك البشري أنه متعلّم. وعلى خلاف من سيادة الاستجابات الموروثة في سلوك الحيوان فإن الإنسان يتحرك في نطاق من التكيف بحيث أصبح سلوكه محكوما بما تعلمه من استجابات. ثم إنه- أي الإنسان- أخذ ينمو وينتهج طريقه ككائن حي في إطار من الظروف الحضارية المقيدة للغرائز المدمرة.

كانت الاعتراضات- على غريزية العدوان- تحاول الانتصار للإنسان بما هو إنسان يرقى عن حضيض الحيوان، الذي لم نر في حضيضه تدنيا يفوق انحدار البشر آكلي لحوم البشر، والبشر غزاة البشر. لكن صنفا آخر من العلماء كان أكثر تشاؤما وشكا في الإنسان، أبرزهم- من بين علماء الإيثولوجيا- لورنز الذي يوصف بأنه الأب لهذا العلم المقارن وأحد الحاصلين على جائزة نوبل، فهو يصر على أن العدوان ينبع من غريزة للمقاتلة يشترك فيها الإنسان مع الكائنات الأخرى. وحتى يبرهن على صحة افتراضاته، أشار لورنز إلى أن إنسان بكين البائد الذي اكتشفت بقايا منه في الصين عام 1929 والذي كان من أوائل البدائيين الذين تعلموا الاستفادة بالنار.. إنسان بكين هذا استخدم النار في شواء بني جنسه. وكان دليل لورنز على ذلك وجود عظام مشوية لأفراد من إنسان بكين نفسه. لكن هذا البرهان دحضه عالم آخر هو "مونتاجو"، مثبتا أن العظام البشرية المشوية كانت لأفراد من إنسان بكين قتلتهم المجاعة وطالتهم النيران. وأكد مونتاجو أن تاريخ البشرية لم يقدم دليلا على أن الإنسان ثبتت فيه عادة قتل رفاقه أحياء للاغتذاء بهم.

لم يثبت أن عدوان الإنسان على الإنسان قدر مقدور ولا غريزة لا يمكن مقاومتها. حتى لورنز المتشائم في لمحة من لمحات شكه فيما وصل إليه من سوء الظن بالإنسان، قرر أن مشاعر المحبة الإنسانية قد تعادل تعابير العدوان وتعيق حدوثه. ورأى لورنز أن الألعاب التنافسية يمكن أن تشكل مخارج جماعية للعنف. وأنه من خلال طقوس الفرح والإعلاء يمكنه استئناس العدوان.

فأي عدوان هذا الذي يمكن تنفيسه ببعض من المحبة واللعب؟! إنه لا شك عدوان لا يصل أبدا إلى حد فقء العيون ونشر أطراف الأحياء بالمناشير واغتصاب العجائز وثقب جماجم الأطفال بالرصاص ونقع الأحياء في أحواض الأحماض الكاوية، وهذا غيض من فيض التعذيب الذي ابتلي به أهلنا في ظل الغزو والاحتلال العراقي.

في إطار الغزو، إذن، كصورة من صور العدوان، لم يجد لورنز (مع عالم آخر هو روبرت أرديري) أية دافعية غريزية حقيقية، إلا في حالة واحدة يشترك فيها الإنسان مع الحيوان هي غريزة دفاعية توظف العدوان للذود عن "المنطقة" التي يسكنها من الأرض. فالإنسان يمكن تعريفه كمعظم الكائنات بأنه مخلوق منطقة محددة A Territorial Being فالميول العدوانية عنده ترتبط بمساحة محددة من الأرض والمكان. أي بلغة أخرى غريزة الدفاع عن البيت والوطن. وفي مجال السلوك المقارن لدراسة هذه الغريزة الدفاعية ذات الشكل العدواني وجد أن دخول حيوان غريب إلى أرض آخر من النوع نفسه يؤدي إلى نشوب معركة يكون البادئ فيها هو مالك الأرض ويكون أكثر شراسة في مهاجمة الدخيل. بينما إذا جاء حيوان مختلف عن نوع مالك الأرض، من حيث العادات الغذائية والطبيعية، فإن المبادرة الدفاعية ذات المحتوى العدواني لا تحدث،. ذلك أن المسألة تتحدد في الخوف من فقد المأوى والأنثى. وبلغتنا: الأرض والعرض. ومعروف أن الذكور تحارب عن منطقتها وعن الإناث في فترات التزاوج.

فمن أين تنبع دوافع الغزو البشري إذا لم تكن غريزة موروثة؟!

شماعة الديموغرافيا، وغيرها

في كتاب نشر في فرنسا عام 1963 وترجم إلى العربية تحت اسم "الحرب والمجتمع" قام بتعريبه الأستاذ عباس الشربيني وراجعه أستاذ علم الاجتماع الدكتور محمد علي محمد. قدم المؤلف- عالم الاجتماع- "جاستون بوتول" محاولة رائدة لتأمل جذور " النزعة الحربية"، وتحليلا اجتماعيا نفسيا للحروب ونتائجها. نتوقف أمام ملامح بارزة لهذا التحليل ونحن مثقلون بوطأة ذكرى الغزو المشئوم، لعلنا نتخفف من بعض المرارة عندما نفهم النوازع الشاذة التي يخالف فيها الإنسان فطرته التي فطره الله عليها. فبدلا من الدفاع عن بيته وآل بيته كسائر مخلوقات الله، حتى تستمر الحياة ولا ينقطع النوع، نراه يهاجم بيوت إخوته وجيرانه!

يطوف جاستون بوتول بساحة الحروب، من حروب الأساطير القديمة، والحروب اللاهوتية، حتى الحروب في عرف الفلسفة. ورغم تعارض الآراء فإن النتيجة التي نخلص منها هي أن النزوع إلى الحرب ليس غريزة ولا حتما. وتحت عنوان الوظيفة الأولية للحرب ينتهي بوتول إلى أنها: التدمير البشري، وأن الهدف المقصود منها هو التوازن الديموغرافي (السكاني). فالحرب تستأصل من الجماعة عددا من الرجال عن طريق الإبعاد والتدمير.. فالحرب هي "تهجير مسلح للسكان". فهل كان هذا. (التهجير المسلح) كامنا في العقل الباطن لصدام وهو يدفع بشعبه إلى حرب أشعلها ومكثت ثماني سنوات دون انطفاء. وما كادت هذه النار تهجع حتى استدار ليغزو بيوت جيران وإخوة مشعلا نارا أخرى ما زال لظاها مشتعلا في الذاكرة ورمادها يملأ الحلوق.

إن التعمق في استكشاف أغوار الظواهر البشرية عبر التحليل الاجتماعي والنفسي يمكن أن يصيبنا بدهشة بالغة. فنرى أن الغزو كملمح غير فطري، وضمنه النزوع الحربي والعدوان، ما هو إلا تعبير عن تشوه نفسي عميق في تركيبة قائد الغزو وسلطان "أم المعارك ". أما مسألة الضغط الديموغرافي (السكاني) وإزالته عن طريق الحرب فهي ذريعة هتلرية ملفقة تماما. والأرجح أن صدام حسين قرأ كتاب هتلر "كفاحي" واستمع إليه وهو يقول: "ومتى احتوى الرايخ أبناءه جميعا يمسي عاجزا عن إعالتهم، ومن العوز ينشأ حق هذا الشعب في الاستيلاء على أراض أجنبية". وكشف زيف هذه المقولة يسير تماما، فهل كان هتلر عاجزا عن إعالة أبناء الجمهورية الألمانية بينما هو قادر على تجهيز وتسليح جيش كوني! مثله صدام حسين.. يعسكر أمة تمتلئ أرضها بالخيرات، محولا ثروتها إلى بارود وحديد وسموم وجراثيم، ثم يتكلم عن توزيع الثروة كأنه من المعوزين. ومن الغريب أن تتحول هذه الذرائع الملفقة (كعلة الديموغرافيا) إلى عقيدة لدى مشعلي الحروب، وليس أدل على ذلك مما جاء في كتاب "حرب تلد أخرى" على لسان سعد البزاز أحد المقربين للنظام العراقي إذ يقول: "كيف ينبغي التصرف بجيش المليون؟ كانت هذه هي المشكلة، فبقاء جيش بهذه الضخامة بدون فعالية هو ضرب من التعطيل لقدرة الشعب وهدر مادي. لا بد من واجب ميداني لهذا الجيش وإلا تحول إلى عبء على المجتمع وحضور مقلق للنظام". فهل هناك إجرام أبشع من أن تحل الأنظمة الديكتاتورية مآزقها بإشعال نيران الحروب؟!

إن قراءة التركيبة النفسية لقائد كارثة الغزو، في ضوء معطيات الفصل السادس من كتاب جاستون بوتول (السمات السيكولوجية للحروب)، ستضع يدنا على تشوه في شخصيته بالغ الانحراف يجعلنا نقرر أن صدام حسين لم يكن يريد تدمير الكويتيين وحدهم، بل إنه في الأساس، منذ حرب الخليج الأولى حتى غزوه للكويت، وإلى الآن، كان يريد تدمير المزيد من شباب العراقيين بإلقائهم في نيران حروب لم يكف، ولعله لن يكف، عن اختلاقها والحلم بها. إن التحليل الاجتماعي والنفسي يقول إن صدام كان يكره جنوده إلى درجة القتل.. ويالها من مفاجأة.

صدام وعقدة الأب الحاسد

رغم تنوع الدوافع التي تغذي النزعة الحربية، والتي تمثل مجرد "علل اتفاقية" أو ذرائع، فإن الثابت هو ارتباط هذه النزعة بمركبات النقص والشعور بالفشل والشعور بالذنب، مما يدعو إلى القول بأنها حالة نفسية. فمن الشعور بالفشل تتولد الرغبة في إلقاء تبعات الخيبة على الآخرين. بينما تتجه عقدة الشعور بالذنب إلى نوع من التسامي يظهر بطولة كاذبة، أما الشعور بالنقص فإنه يحرك الأفراد والجماعات باتجاه التعويض. وعندما تكون الذات الفردية أو الجماعية مشوهة فإن الشعور بالنقص الحضاري- على سبيل المثال- يجد شفاءه الكاذب في تنمية قوة الشراسة والعدوان.

وعلى مستوى رجال الدولة من النوع الذي يعاني كل ما سلف من تشوه تبدو الحرب أو الغزو- بدينامياته الحربية- حلا أسهل للتعويض عن كل نقص وفشل وشعور بالذنب. فالحرب تعفي من عناء البحث عن حلول وسط تتطلب جهدا في حساب التوازنات الدقيقة. وكما يقول "جاستون بوتول": "تعتبر الحرب فترة راحة للحكومات فهي تفرض الصمت والخضوع واحتمال الحرمان، لأن المواطنين يتحولون خلالها إلى رعايا ويصير الزعماء غير قابلين للعزل". بل يصير الزعيم موضع حب حتى عندما يكون قاسيا ومنحلا مثل يوليوس قيصر، أو ماكرا ميت القلب مثل هانيبال، أو جاهلا مخادعا مثل صدام.

لقد كانت إرادة الله، خالق النفوس جميعا وعالم أسرارها وخباياها، أن يعالج نوازع النفس البشرية بما يحفظ. للإنسان كينونته كأشرف مخلوقاته. أما البشر المشوّهون فإنهم يعالجون نوازعهم بما يحط من شأن الإنسان ويحيل الوجود إلى غابة تصخب فيها وحشية هذه النوازع. ولعلنا نجد في حديث جاستون بوتول ما ينطبق تماما على شيطان غزوة أغسطس صانع كارثة الخميس الأسود، ومهندس نكبة العرب الثانية: "ونجد لدى قادة الحرب، أولئك الذين يمارسون القيادة المطلقة، ظاهرة يمكن أن نطلق عليها عقدة الأب الحاسد". فالقيادة المطلقة تملي مواقف سيكولوجية أبوية إلى الحد الذي يكون فيه الأب هو الرئيس المطلق السلطات والحبر الأكبر لأتباعه. ويصير ذبح الأبناء قربانا ممتازا أو ضحية لا مثيل لها عند التكريس لعمل ما أو سياسة ما. هكذا كان إيفان الرهيب قيصر روسيا وبطرس الأكبر وأجا ممنون الذين قتلوا أبناء وبنات لهم. وتنوب الحرب، بطريق غير مباشر، عن هذه المهمة إذ يرسل الزعيم إليها أفضل أبنائه. ويبدو أن عقدة الأب الحاسد تمثل معنى آخر يختص بإبراز النزاع بين الأجيال (وهذا النزاع بين الكبار والصغار من الذكور معروف تماما عند الحيوانات) ذلك أن جيل الآباء الآمرين يجدون أنفسهم إزاء شباب فائر ذي طموح يتجاوز إمكانات إرضائه وتوظيفه، ومن ثم يميل الزعيم- الأب المسيطر- إلى الحرب كحل مثالي، عن وعي أو بدون وعي، لهذا المأزق الخطير.

إنه ذبح للأبناء يرتدي ألف قناع وقناع بينما حقيقته: كراهية الأب المتسلط المريض لأبنائه. الأب مشوه النفس الذي ألقى بأبنائه ثمانية أعوام في حرب مهلكة- كان يمكن تحاشيها- وما كادوا يخرجون منها ويلتقطون بعض أنفاسهم حتى تملكه الرعب منهم فابتكر لهم حربا أخرى- كان يمكن تحاشيها بكل تأكيد- وكانت مقامرة ومحرقة.

ولا عزاء للبراءة

إن وجود هذه النماذج المشوهة، من القادة الذين يحلون مآزق سلطاتهم كلية الهيمنة بذبح الأبناء عن طريق المغامرات العسكرية، تكون حلقة شريرة تنشر التشوه حيثما حلت أو غزت. وإدراكا لهذه الحقيقة، وفي محاولة لتلمس الجراح التي خلفها الغزو، بغية علاجها أو محاصرتها. عقد في الكويت في شهر أبريل الماضي "المؤتمر الدولي لدراسة الآثار النفسية والاجتماعية والتربوية للعدوان العراقي على دولة الكويت". وجاءت بحوث المتخصصين لتشير إلى حقيقة مرة هي أن التشوه الروحي الذي حرك الغزو أوشك أن يشوه صفحات نقية في كتاب البشر. أصابع شيطانية راحت تعبث ببراءة الصغار، بعد أن بددت طمأنينة الكبار، ومضت تاركة آثار مخالبها على ذلك كله.

فمن مجمل الظروف التي صنعها الغزو وما تلاه، من الاختلال الحاد والمفاجئ في الحياة اليومية والضغوط الناجمة من الخوف على أفراد الأسرة، والإرهاب المفرط وشراسة العسكر الغزاة وافتقاد الكويتين للشعور بالأمان، تولد الخوف والتوتر والكبت والاكتئاب. وعرف الإنسان الكويتي أنماطا سلوكيـة لم يعهدها تشير إلى طبيعة الحياة النفسية التي دفع إلى جحيمها إبان الغزو. وكان الأطفال هم أول من تلظى في هذا الجحيم. لفحت نار الشر كياناتهم الطرية الهشة. وتحول الكثيرون منهم، بين يوم وليلة، بين عشية الأربعاء وصبيحة الخميس الأسود، إلى نوع استثنائي من الأطفال يطلق عليهم الأطفال المعرضون للخطر Children at Risk بل: الأطفال المعرضون للخطر الهائل High Risk Children فقد تلقوا الصدمة مضاعفة، صدمة ذويهم بكل انعكاساتها المؤلمة، وصدمتهم هم إزاء ما وقعت عليه أعينهم البريئة المرعوبة. وظهرت على الأطفال أعراض تعتصر القلب مثل أعراض "عصاب الطفولة" و"ذهان الطفولة" أي أمراض نفس الطفولة، وأمراض عقل الطفولة. وعرف عالم البراءة مرارات كالإعاقة السلوكية والعاطفية. وبات كثير من الأطفال كالشيوخ والمحاربين القدماء في حاجة إلى "إعادة تأهيل". ومن بين هؤلاء كان أطفال مرحلة الروضة الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و 6 سنوات!! ناءت كواهلهم الصغيرة بعبء جنون ثقيل رماه عليهم مشوه كبير لم يهنأ له العيش إلا بتشويه العالم من حوله وعبر حدود الجيران.

الوحش سائب والأعزاء مقيدون

لقد امتلأت بحوث المؤتمر الدولي لدراسة الآثار النفسية والاجتماعية للغزو بكثير من التفاصيل عن الحصاد المر لما زرعه الشيطان الذي مر من هنا، والذي ما زال طليقا يمارس شروره حتى لحظتنا هذه. ومأساة الأسرى والمحتجزين الكويتين في السجون العراقية مثال لذلك. لن يستطيع عاقل أن يفهم بعد كل ما حدث مغزى الاستمرار في أسرهم واعتقالهم، إلا أن يكون ذلك جزءا من عدوانية الشخصيات "السيكوباتية" المريضة، مرضا نفسيا إجراميا.

وفي هذا الشأن يلح أيضا البعد النفسي والاجتماعي في مشكلة الأسرى والمفقودين. وإذا كان هؤلاء غائبين فإنهم حاضرون بكل الألم في حياة ذويهم اليومية وفي توتر نفوسهم. فتجاه اعتقال الأسير أو احتجازه يتملك شعور بالذنب ذويه الذين لا يكفون عن الترديد في دواخلهم: "لو كنت منعته من أن يخرج من البيت" .. "آه لماذا لم أفعل شيئا لمنعهم من اعتقاله". ثم التصور المستمر لمعاناة الأسير مما يقود إلى الاكتئاب، والشعور باليأس من فعل شيء يفك قيد الأسير، والعزلة عن الآخرين الذين تبدو حياتهم الطبيعية اجتراحا لجلال مصاب أسرة الغائب. آلام لم ينج منها صغير أو كبير، حاضر أو غائب. وما كان أغنانا عن كل هذه الآلام التي صنعتها إرادة نفس، أو نفوس، مشوهة.

هل من عودة إلى صمت الحملان؟!

بعد مطالعة هذه الأغوار في ثنايا كارثة الغزو. أجد المشهد الختامي لمجموعة العواقب الاجتماعية والنفسية لفعلة صدام، يستدعي المشهد الختامى في فيلم "صمت الحملان " وبين المشهدين تتصاعد صرخة ينبغي أن تتردد أصداؤها حتى تلامس أقصى الأفق. فبعد أن تكررت في الفيلم جرائم اختطاف أخرى سلخت جلود ضحاياها وأكلت بأسنان بشرية أجزاء من لحومهم، ضجت الأسئلة وتشابكت الخيوط، وهيئ لنا أن المجرم المجنون على وشك السقوط وإطلاق سراح آخر الضحايا. في هذه اللحظة تمكن الطبيب النفسي- الوحش السجين- من الهرب بعد أن أكل وجه واحد من حراسه. وعندما نجح الكمين الأخير وبدا لنا، ولبطلة الفيلم، أن الرصاصات التي أطلقتها قد نالت من المجرم الشامل الذي كان سجينا وطليقا في آن واحد. وبينما يجري احتفال قومي لتكريم الشرطية الصغيرة البطلة، إذ بمكالمة تليفونية تأتيها، وعلى الطرف الآخر من الخط حيث يتحدث الصوت الثابت المخيف، كان الإنسان الوحش.. الطبيب المجنون المجرم الهارب، غير هيئته ومضى مختفيا في قلب الزحام.

إنها صرخة تقول لنا إن البشر الذين توحشوا- مع الاعتذار لوحوش الحيوان بكل عمق كلمة الاعتذار- ما زالوا مطلقي السراح وإن الخطر ماثل. وعلينا ألا نصمت صمت الحملان التي تمضي إلى الذبح ساكتة لاهية. علينا أن ننتبه إلى ذلك الشذوذ الوحشي ونفضحه، خاصة عندما يرقى سدة الحكم، فإنه في هذه الحالة لا يأكل لحم ضحايا منفردين من البشر، بل ينهش لحم مجتمعات بكاملها، ويهدر دم أمم وقيم وأحلام باتساع أرض الإنسان الإنسان، وعمق قلب الإنسان الإنسان.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات