بين الذكرى والتاريخ
بين الذكرى والتاريخ تتوقف بعض المعاني لتفرّق بين الأحاسيس والمشاعر من جهة ، وبين أسباب الحوادث ونتائجها في إطار الحقيقة والواقع من جهة أخرى، فالكلّ يرى الأحداث من نافذته، وما اتفق عليه الجامعون والموثقون للحقائق يسجّل تاريخًا، أما الذكريات فإنها خاصة بصاحبها، تكون له كيف يشاء، سعادة وفرحًا أو ألمًا وندمًا، تُستدعى بمؤثر زماني أو مكاني. ويأبى «فبراير » إلا أن يكون تاريخًا وذكرى معًا لعيد الكويت الوطني وفرحة التحرير من أنياب الذئاب.
في أوائل الستينيات من القرن الماضي، دخلت الكويت المحافل الدولية العربية والعالمية كدولة مستقلة، لتسجل اسمها في قائمة دول الجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة، فوقف النظام العراقي حائلاً دون انضمامها للجهتين، حتى استطاعت الدبلوماسية الكويتية فرض استقلال الكويت على تلك المحافل والانضمام إليها.
هنالك، بدأ تحرش النظام العراقي بالكويت مقضًا لأمنها واستقلالها، ليصرح عبدالكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق. وانساق الطاغية إلى رعونته حتى وقفت له ألوية الحرية بالمرصاد ليتراجع عن قراره. في تلك الفترة، كنا نحن الأطفال نشاهد الشباب والرجال يتحركون بعزم وقوة لطلب السلاح من الحكومة الكويتية لحماية أسرهم وفداء وطنهم. لقد اختاروا طوعًا الوقوف مع النظام السياسي الذي تمثل بأمير الدولة، دون جبر أو إلزام. وتحركت الجموع إلى أمير البلاد تصيح بشعار «يا بو سالم عطنا سلاح». وافق أمير البلاد الراحل عبدالله السالم الصباح رحمه الله على توزيع السلاح على المواطنين، وكان السلاح عبارة عن بندقية أو مسدس لكل رب أسرة.
وأذكر حينها أنّ والدي جاء وفي يده مسدس داخل جراب وحزام يحوي طلقات رصاص للاستعمال، وسمعت والدتي تستعطفه بأن يخفي السلاح عن أنظارنا نحن الأبناء من باب الحذر وألا يثير الرعب في قلوبنا. لم يكن في الكويت آنذاك تجنيد إلزامي، ولم يعمل أحد على تجييش المواطنين، في الوقت الذي لم تكن هناك أحزاب سياسية أو جماعات مؤدلجة كويتية، كانت تلك الجموع تتحرك بواعز وطني محب ومخلص للكويت وقيادتها. وعندما هدأت العاصفة، بدأت الكويت في إكمال مسيرة نهضتها، ولسان حال مواطنيها يقول: ذئب عوى وارعوى، وكلاب نبحت فسكتت.
تخطيط عصري
في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، بدأ التخطيط للدولة المعاصرة في شتى سبل العمران، إعمار الإنسان والأرض. ثم بدأ العمل الجاد في تطبيق هذا المخطط الجديد، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الإنسان والأرض خطّان متوازيان للتقدم والنهضة، وأن تكون الأولوية دائما للإنسان. بعد أن انتهت الدولة من البنية التحتية لمواقع سكن المواطنين ومراكز الخدمات، شُقّت الشوارع ووزعت المساكن على المواطنين. وعلى حسب المرحلة الأولى من ذاك البناء، قُسّمت المناطق إلى قِطع، في كل قطعة مسجد، وفي كل منطقة توجد روضتان للأطفال ومدرستان إبتدائية ومدرستان متوسطة، ومسجد جامع ومركز صحي (مستوصف) ومخفر للشرطة، كما خُصصت مدرستان للثانوية لكل أربع مناطق. وقُسّمت الكويت إداريًا إلى محافظات، في كلّ محافظة مستشفى يضم جميع التخصصات الطبية. أما الوزارات الحكومية والهيئات الرسمية، كالمحاكم والمجالس، فكانت مدينة الكويت العاصمة حاضنة لها، فيما عدا وزارة الدفاع. ومن هنا اتخذت السفارات لبعثاتها والشركات الكبرى لممارسة أعمالها، الكويت العاصمة مقرا لها.
معظم هذه الخدمات التي أينعت مخرجاتها في منتصف الستينيات من القرن الماضي، أنتجت جيلًا من المثقفين والأصحاء بدنيًا تحت شعار «العقل السليم في الجسم السليم». لقد كانت المدارس تضم صفوة المدرسين من العالم العربي، وساد العرف في الكويت أنّ المُدَرِّس والد، فسادت أجواء التعليم روح الاحترام والتقدير والمحبة. والمتتبع لمصارف الإنفاق على الصحة والتعليم في الكويت، لا بدّ أن يلاحظ مدى اهتمام الدولة بالأمرين والإغداق عليهما بسخاء على مدى ستة عقود تقريبا. كان الطالب يقضي ثلث يومه في المدرسة، التي تهيئ له وجبتين في فترات الاستراحة من الدروس، إفطارا وغداء. وكانت المدارس مهيئة أيضًا بملاعب لكرة القدم وكرة السلة وكرة الطائرة، وصالة تضم كل الأجهزة الرياضية المعدّة لبناء الأجسام ورياضة الجمباز. أضف إلى كل ذلك اهتمام القائمين على التعليم آنذاك بإنشاء صالة لتعليم الرسم وأشغال الديكور المسرحي، وصالة أخرى للموسيقى تضم كل آلات الموسيقى تقريبًا، الإيقاعية والوترية والنفخية. وجهزت المدارس بصالة ومسرح للاحتفالات، وهذه الصالات كانت تستخدم لتناول الطلبة وجباتهم اليومية.
صقل المواهب
وفي كل عام تقام احتفالية في هذه الصالة تعكس نشاطات الطلبة في الموسيقي والتمثيل، وكانت هذه الأنشطة تُمارس مرتين أو أكثر بعد انتهاء الدوام المدرسي. هناك حصتان للرسم في الأسبوع، ومثلهما للموسيقى، في الوقت الذي كانت وزارة التربية والتعليم تُعنى بصقل المواهب والبحث عن المبدعين، كانت تختار أجمل القصائد الشعرية والألحان الموسيقية الإبداعية من المدرسين والمعلمين والمشرفين في وزارة التربية والتعليم، ومن غيرهم أيضًا. أناشيد لم يعد من يتذكرها إلا القليلون من أبناء جيلي، تمر كالحلم الجميل على الذاكرة المرهقة والنفس المرهفة. هذه قصيدة كتبها في عام 1967م الأستاذ أحمد عنبر ولحّنها الأستاذ عبدالرؤوف إسماعيل (رحمهما الله) لطلبة المدارس بمناسبة العيد الوطني الذي تحل ذكراه في الخامس والعشرين من شهر فبراير:
ضجت الفرحة تجري في دمائي
وتغنى المجد من عليا سمائي
فانتشى الكون بأنفاس الضياءِ
عندما أشرقت يا عيد بلادي
رافعا رايات نصري وجهادي
قصة تروي طريفي وتلادي
منذ كان البحر ميدان رجالي
يُخضعون الموج في سود الليالي
يوم شعّ النور من فجر اللآلي
ينثر الآمال في درب الحياةِ
ومعي عزمي وصبري وثباتي
ذكرياتٌ يا لها من ذكرياتِ
منذ سال الخير من نبع الصحاري
نعمة تُسعد أهلي وجواري
فازدهى العمران في آفاق داري
صانه علمٌ وجيشٌ وحضارة
ومكانٌ، تعرف الدنيا اعتباره
ويدٌ، للعُرْبِ عزٌّ ومنارة
في حمى راعٍ أمينٍ ساهرِ
عهده عهد ربيع ناضرِ
خلّد الماضي بمجدٍ الحاضرِ
فرجالي إنّهم أُسْد العرين
وشبابي كنزنا عبر السنين
يجعلون العيد عيدا كل حين
عُمِّمَ النشيد على كل المدارس المتوسطة في الكويت، وعلت به أصوات الطلبة في طابور الصباح، يصاحبهم به فرقة الموسيقى المدرسية التي تمرنت على اللحن مرارًا وتكرارًا. وفي العام اللاحق 1968م، أنشد الطلبة نشيدا آخر للأستاذين نفسهما، تقول كلماته:
نال قلبي ما تمنى فتغنى
عازفا أحلى نشيدٍ في الوجود
بصباحٍ مجده حدّث عنّا
بحديثٍ للخلودِ يوم عيدي
يوم عيد الوطنية
للكويت العربية
عيدنا للشعب عيد
عيدنا للعُرْبِ عيد
عيدنا للمَجْدِ عيد
عيدنا للنصْر عيد
فرحة هزّت فؤادي
تملأ الأرجاء بِشْرًا
فرحة في كل وادي
منذ أن أصبحت حرّا
إنّه عيد بلادي
يزدهي بحرًا وبرًا
فصباح الروض نادِ
قد سرى في الكون عطرا
وصباح ذو الأيادي
لاح في الآفاق بدرًا
والدٌ للشعب هادٍ
زاده الرحمن نصرا
يا رفاقي أقبل العيد بأفراح الزمانِ
فاستعيدوا بهجة العيد وإشراق الزمان
وارفعوا الرايات للعلياء في أسمى مكان
انهضوا مثل الجدود كالأسود الضاريات
إنهم سادوا وشادوا وهُمو خير البناة
أسسوا عزّا منيعًا فارفعوه يا حُماتي
بهدى الراي وبالقوة تعتز حياتي
عندما لا ينفع المنطق في ردع الأعادي
أشعلوا نار الجهاد في الروابي، في الوهادِ
واكتبوا لي بدم الأحرار أمجاد بلادي
عطر الكلام
واستمرت الفرحة بالوطن، واستمرت الأناشيد، وصدح كبار المطربين بحب الكويت، من أمثال أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد، وغيرهم كثير، كل له أغنية في حب الكويت. ولم تَخْبُ الأناشيد الوطنية التي كتبها الشاعر أحمد العدواني، الذي ألّف النشيد الوطني لدولة الكويت، ولحنه الموسيقار الراحل إبراهيم الصولة (رحمهما الله)، ورحم الله الشاعر الدكتور عبدالله العتيبي الذي حمل على عاتقه استمرار حفلات العيد الوطني، فنسج قصائد من حرير الكلمات وتعطرت بصوت شادي الخليج الأســــتاذ عبدالعزيز المفرج ولحنها المبدع الأصيل الأستاذ غنَام الديكان.
عندما كنا صغارًا لم نكن نعبـــأ بالألم، فأثقل الألم كان بكسر أو جرح اليد أو القدم، أو ضياع الكتاب أو الدفتر أو القلم. وكبرنا وكبرت أحلامنا معنا، لكن مع الأسف، كبرت آلامنا، فبعد أن كانت الذات هي أقصى حدود الألم، وسِعَتْ حدود الجراح لتشمل آلام البلاد العربية وكوارث الإنسانية.
وتعلمنا كيف نشارك الأخ والإنسان فرحه وأحزانه، حتى غشانا الطغيان وغشنا الشيطان يوم صدقنا بأنّ الجور لا يأتي من الجيران، كنّا نظن أنّ الإنسان لا يجازي الإحسان بالنكران، فكيف بالعدوان؟! لقد غَرّهم بالكويت الغرور، وبفضل من الله ومِنّه، تحررت البلاد وسعد العباد، يوم أجمعت كل الأمم والمجتمع الدولي على نصرة الكويت.
مواقف بطولية
وعلى هامش الذكريات، ذكريات الغزو والتحرير، سجّل التاريخ قائمة بأسماء الأبطال الذين ساهموا إسهامًا كبيرًا في مقاومة الطغيان، فاستشهد منهم من استشهد، وبقى كثيرون منهم من لا يرى في تضحياته أو بطولاته سوى واجب وطني يردّ فيه القليل من فضل الوطن عليه. لقد رأيت المواطنين والمقيمين المخلصين كيف تصرفوا بحكمة وصبر بعد إعلان العصيان المدني على نظام الطغيان والاستبداد، حيث تركوا أعمالهم الفعلية ليتكافلوا ويتعاونوا بأداء الأعمال التطوعية التي تخدم حاجات المجتمع والناس في تلك الفترة العصيبة. اشتغل المواطنون بكل الأعمال التي كانت تسيّر وتيسر سبل الحياة، خبّازون وحلاّقون وعمّال وسائقو حافلات النظافة وصهاريج المياه، وكهربائيون ومصلحو سيارات وبائعون ومحاسبون في الدكاكين وأسواق الجمعيات التعاونية. في الوقت نفسه، فتح التجار في الكويت مخازن متاجرهم لتوزيع الأغذية والأدوات الكهربائية والمستلزمات بأنواعها على المواطنين بأسعار أقل من رمزية، وأحيانًا تكون بالمجان. لقد آثر التجار توزيع بضائعهم على الناس خشية من أن يستولي على تلك البضائع الجيش الغازي الجائع الجشع، الذي سرق كل ما يمكن سرقته ونهبه من الكويت. كان نقل تلك البضائع الغذائية يتطلب سرعة فائقة وشجاعة من المواطنين، فكل الطرق تقريبا كانت تقطعها كثير من نقاط التفتيش العراقية، وكانت أصنام الجيش الغازي لا تتوانى بإلصاق أي تهمة بكويتي تودي به إلى الاعتقال، وأغلب الأحيان إلى الإعدام.
ورأيت بعيني كيف كان تجار الأغذية يضحون بأنفسهم ويفتحون صدورهم أمام الخطر عندما جعلوا من منازلهم الخاصة مكانا لتوزيع المؤن على المواطنين، وأذكر منهم عائلة الشوّاف بضاحية عبدالله السالم وعائلة الحرز بالمنصورية وعائلة الوزان التي كانت ولا تزال تملك أكبر مخازن الغذاء في الكويت. وعندما جمعتني الصدفة بكبير عائلة الشواف أثناء الاحتلال، رأيت كثيرا من الوافدين الضعفاء يتبضعون غذاءهم من دون أن يدفعوا أي مقابل، وكان هذا الرجل الطيّب يهز رأسه لهم بكل حب وتسامح وكرم، وكأنّ لسان حاله يقول بأن لا حرج عليهم أن يأخذوا حاجاتهم مجانًا. شكرت الرجل الشهم على تصرفه تجاه الناس، فقال: إنما آخذ من المقتدر، ولا آخذ ماله حسابًا، بل ليتسنى لي توفير شراء بضائع ضرورية أخرى ليست لدي ويحتاج إليها الناس. كان المجتمع الكويتي آنذاك مجتمعا أشبه ما يكون بخلية نحل، منظم ومنتج وكثير العطاء، يقدّم كل التضحيات في سبيل نجاة «الرمز»، الذي تمثل بالسلطة الشرعية للكويت.
مثال للبطولة
وعلى هامش الذكريات، التي لم يدونها تاريخ، قصة بطلين لم تذكرهما صحيفة ولا وثّق عملهما كتاب، ولا يزالان بيننا، وما كانا ليحبا سرد قصتيهما تواضعا منهما واحتسابًا، وربما كان ذلك ظنّا منهما أنّ مثل أعمالهما تلك هي في واقعها أمر طبيعي يقوم به كل مخلص لوطنه دون أن ينتظر أجرًا أو شكورًا. اثنان سجلا موقفًا لم يسجله في موقفهما رجل عسكري أو سياسي أو دبلوماسي، لأنهما بكل بساطة لم يكونا من هؤلاء، وكلاهما يمثل شريحة كبيرة من الكويتيين المخلصين، الذين عاهدوا أنفسهم ونذروا أرواحهم للوطن. كان أحدهما داخل الكويت وكان الثاني في الخارج أثناء الغزو والاحتلال الغاشم. كلاهما عانى، وكلاهما عمل وأخلص من أجل الوطن وعودة الشرعية إلى البلاد. في اليوم الأول من الغزو الغاشم سجّل عبدالعزيز جاسم الشمروخ اسمه ضمن قائمة الأسماء المدونة في مخفر شرطة ضاحية عبدالله السالم كأحد الرجال من ذوي الاستعداد لحمل السلاح ومقاومة الغزاة. تلك القائمة من أسماء المتطوعين، أُلحقت بأرقام هواتف وعناوين المتطوعين. ومهما يكن من أمر، فإنّ فكرة الحصول على السلاح لا تتعدى الدفاع عن النفس والأهل.
ولما تغلغل جيش الغزاة في جميع مناطق الكويت، وسيطر على كل المرافق الحيوية، ومن ضمنها مخافر الشرطة، أحسّ الجميع ممن سجّل اسمه في تلك القائمة أنّ الخطر صار قريبا منه جدًا، فساد التوتر.
استطاع عبدالعزيز قبيل الفجر أن يتسلل داخل المخفر، بعد أن نحت القضبان الحديدية للنافذة، ومن ثم فتحها، وقام بحرق جميع المستندات والأوراق في المكان نفسه. وبين فترة وأخرى نسمع عن هذا الرجل الشجاع بأنّه اشتغل مسعفًا، وقد قام بدفن جثث شهداء الكويت. كان مشاركا وشاهد عيان على كثير من جثث الشهداء التي كانت تدفن ليلاً بعيدًا عن أعين العدو. ثم سمعت عنه أنّه انخرط في فريق من فرق مساعدة العجزة والمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، ينتقل من مكان إلى مكان آخر دون خوف أو جزع، ليقدم ما يستطيع تقديمه للمحتاجين. وبعد مضي شهر من الاحتلال وأكثر، نراه يقود بعض قوافل النازحين إلى الحدود الكويتية السعودية، ليخرجهم بسلام، ثم يعود من حيث أتى، راجعًا لإكمال مهامه في مساعدة الناس داخل الكويت، يبث فيهم روح الصبر ويبشرهم بالتحرير. وهكذا ظلّ عبدالعزيز صامدًا أمام رياح الغدر العاتية الآتية من الشمال. تحية شكر واعتزاز وامتنان لكل من كانوا في تلك الفترة مثل عبدالعزيز، وهم كُثْرُ. سلام عزّ وفخر، سلام على عبدالعزيز.
حب الوطن لا يُشترى
وتأخذنا الذكرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان ناصر عباس الفودري يكمل دراسته التخصصية هناك. عندما سمع بخبر غزو الكويت، كان مثل الجميع، متفاجئا وغير مصدق من هول وقع الصدمة عليه. وظلّ فترة يتابع الأخبار عبر الصحف والمجلات والقنوات الفضائية العالمية، حتى ضاقت به الحال، فخرج يلتقي برؤساء الصحف والقنوات الإذاعية والتلفزيونية المحلية في مدينته، ويعمل على التعريف بدولة الكويت وطبيعة أهلها المحبين للخير والسلام العالمي في الشوارع والمدارس وأماكن التجمعات.
لم يكن ناصر صاحب دخل مالي ثابت، إلا من قليل من الدولارات تأتيه من السفارة الكويتية من أجل دراسته. ولم تجعله قلة المال ينحني أو يحيد عن هدفه الذي رسمه لنفسه في تصعيد صوت الجماهير الأمريكية لشجب الغزو العراقي على الكويت. ولعل أغرب حادثة حصلت له هي تلك المحاضرة التي ألقاها في الأبريشية الإنجيلية البروتستانتية. وتعتبر هذه الكنيسة من أكبر الكنائس في مدينته التي كانت تضم طائفة كبيرة من المتدينين التابعين لهذه الكنيسة. وبعد انتهاء ناصر من محاضرته، أحس جميع الحضور بالظلم الواقع على الكويت، فتعاطفوا وقدروا ذاك الانفعال الذي أبكى الكثيرين حسرة ورحمة بما آلت إليه النِعم.
اجتمع القس الأكبر للكنيسة بناصر بعد انتهاء المحاضرة يشكره على ما قدمه من حقائق ومعلومات عن الكويت ووضعها الراهن، وبأن جميع الحقائق التي أوردها ما كان ليعلمها الحاضرون لولا شفافية الحديث ودقة الشرح. شكر ناصر القس على كلماته، وقبل أن يمضي ناصر في سبيله، قدم له القس ظرفا مغلقا مختوما. ظنّ ناصر بأنّ ما تسلمه رسالة شكر أو شهادة تقدير، فوضع الظرف في جيبه حتى وصل إلى شقته. وعند الصباح فتح ناصر الظرف، فإذ بداخله شيكًا مصرفيًا باسم ناصر عباس الفودري وبقيمة ثمانين ألف دولار. تعجب ناصر من هذا المبلغ وأسبابه، فاتصل بالقس طالبًا منه مقابلته. وعندما التقى الاثنان، سأل ناصر عن سبب هذا الشيك؟ فأتاه الجواب بأنّ هذا الشيك عبارة عن مجموعة التبرعات التي قدمها المؤمنون بقضية الكويت ممن كانوا في المحاضرة.
وبكل أدب واحترام، ردّ ناصر الشيك قائلاً: إنّ الكويت ليست بحاجة إلا إلى المساندة والتعاطف مع حقها باسترداد أرضها. لم تكن هناك مؤسسة أو جهة رسمية أو حكومية تدعم ناصر وعمله، فرغم حاجته المالية وانقطاعه، لم يقبل المال، عزًّا وكرامة، ليعكس صورة المواطن الكويتي المحب المخلص، ويصيح عاليًا بمن طغى وتكبر، بأن حب الوطن لا يُشترى بثمن. سلام على ناصر ومن مثله من الذين قضوا نحبهم وممن هم لا يزالون معنا.
واليوم، وعلى الرغم من مرور ثلاثة عقود إلا قليلاً، لا يزال الألم من جرح الخيانة مؤلمًا، ولا تزال الذكرى الأليمة تعكّر صفو الفرحة. دخان أسود مظلم شديد الأذى، غطى سماء الكويت، حجب الرؤية، لوّث الأجواء، خنق النفوس، من جرّاء حرق آبار النفط، وأثبت هذا العبث عن كم الحقد والكره والحسد على النعمة التي أنعم الله بها على الكويت وشعبها المسالم. كانت المعاناة تشتد مع قلة الماء، وأحيانًا ندرته، وقد زاد الطين بلة تلك الألغام التي زُرعت بأرض الكويت، فاشتدت المصيبة بازدياد الخوف والحذر. لم نكن في وقتها نفكر إلا بأبنائنا وبناتنا، ولكننا لم نمنعهم من رفع علم الكويت والمشاركة بمسيرة استقبال الفاتحين من جيوش مجلس التعاون والدول الصديقة التي ساهمت بتحرير الكويت. كان هناك مجموعة من المندسين من جيش العدو والطابور الخامس تحاول جاهدة خلخلة أمن البلاد وتخويف المواطنين، ولكن عادت الحياة جميلة إلى الأرض الجميلة .