عالية الفارسي في رواقها«العالي» لوحات الحنين إلى مختلف مستعاد بدفء الروح واللون

عالية الفارسي  في رواقها«العالي»  لوحات الحنين إلى مختلف مستعاد بدفء الروح واللون

على الطريق السريع الرابط بين مسقط وبقية المحافظات العمانية، تلوح المنطقة الصناعية الأكبر في هذه العاصمة التي تبدو هادئة وناعمة، كأنما لا تريد أن تكون سوى لوحة، منطقة الرسيل بمصانعها وحركتها خلف ما تبقّى من جبال خدش فطرتها الشارع الجديد، لكنه وضعها في تدرّجات تضيف إلى لوحة مسقط عمقًا أكبر.

ثمة ما يوقف عجلة العين وهي تركض في المسار الأسفلتي، هناك «رواق عالية»، خط جميل وضخم على ما يبدو مصنعًا أو مخزنًا، ويبدو السؤال متاحًا: هل هي ذاتها الفنانة التشكيلية عالية الفارسي، وقد راق لها المكان فاختزلت حلمها القديم لترفع أعمدته في هذا المكان «الصناعي»، كأنما الفن هو المعادل اللوني لصهيل الحديد وصليل الآلات داخل مثل هذه المباني، فتجمل الحياة في أعيننا، مهما تيسّر للفن أن يفعله؟!
عبر تفرعات الشوارع في المكان الذي يبدو رئة اقتصادية على مفارق طرق يمكن الدخول إلى «رواق عالية»، والبقعة فوق حدود التخيّل، حضر الفن وحده، في كل التفاصيل، مصنع فني حقيقي، تقف صاحبته في «علّية» تقع في زاوية تتيح لها نظرة شاملة على عرائسها، اللوحات بألوانها المتداخلة، والزوار الذين يأتون للدخول في قالب إبداعي يدهشهم بشكل مضاعف: المكان أن يكون بهكذا جمال، واللوحات التي تشكّل بتفاصيلها روح هذا الجسد الصناعي الضخم، مئات الأمتار تجمع عشرات اللوحات، بأحجام مختلفة، بينما مبدعتها تتأمل من شرفتها، في يدها فنجان قهوتها، وحولها مكتبة صغيرة تضم روايات وكتبًا أخرى في الفنون وغيرها.
في الواجهة هناك صورة، كأنها «عالية» في حضور الفنان وتجلّيه، في تخيّلاته وزهوه أمام روحه، أو أنها صورة الروح المنعكسة، شبيهه الذي يراه في عمقه، فيحاول أن يجد له صورة مجسّدة يراها أمام عينيه، يستعيدها أكثر من مرة في الوجوه الأخرى المنبعثة روحًا في أغلب اللوحات، لكلّ وجه فم يكاد ينطق به، شهرزادات عدّة يختبئن خلف تخوم الحكايا، لولا أنهن يخشين «السيّاف» أن يفصل الأعين عن أحلامها. 
في بعض اللوحات تزدحم الوجوه، رجالية أو نسائية، تشرح عمّا يمكنها أن تقوله، حينما هجست بها لحظة الإبداع، تساعدنا على الفهم كأنها تريد أن توصل لنا بعض الخيوط لنكمل الباقي، كأنها تشرح لنا حديث روحها حينما وضعت ريشتها على هذه الخامة المتشكلة أمامنا لوحة بعد أيام من معاناتها معها، عالية الفارسي، الإنسانة التي تبوح عن صمت اللوحة، إن روت أو توقفت عن «الكلام المباح»، كما يليق بشهرزاد حينما يأذن الديك بالصياح، دلالة على طلوع الصباح، وفي لوحات عالية أكثر من صبح ينهض من غفوته، وأكثر من ضوء يتسلل إلى أعين الواقفين أمام لوحاتها، في كل قلب منهم ما يراه من كلام قد يتحرك به لسانه، يستشعره وإن لم يقدر أن يقبض عليه تمامًا، فخلف المعنى يكمن معنى، وتسير بالزائر الخطى يكتشف الاختلافات، ويقارنها مع الأصل، إن كان ثمة أصل في انثيال الحكايات اللونية على مفارق عقله.

مفكرة العمر 
في كل لوحة تقترب الفنانة عالية الفارسي أكثر من ذلك المختلف الذي تريد كتابته، لا الرجال هم ذاتهم الذين يكتبون أسماءهم على مفكرة العمر، وفي رأس كل منهم «شهريار» يطلب المزيد من الحكايات، ولا النساء هنّ النساء اللاتي تراهن كشهرزاد يمضغن الحكاية واحدة تلو الأخرى، كأنما المقصلة في الأعلى، تقف عليها الفنانة عالية الفارسي، ترمق شخصياتها من علوّ، وتتأمل زوار «الرواق»، رجال يبحثون في الوجوه عن ذواتهم، ونساء يتأمّلن في اللوحات كمرايا، تقول ولا تقول، تكاد تبوح ولا يخرج الصوت، ينثرن بقايا الحكاية على إطارات اللوحات، فيتساقط المطر من على الحواف، ويكاد يرين في الوجوه وجوههن، حتى في وجوه الرجال ثمة حضور لهن، ويثور السؤال: أي معنى يبقى في الألوان؟ وأي معنى آخر لا تدركه الألوان... وعلى الزائر أن يقبض عليه مما يقدر عليه من حروف لا تقولها الأعين، ولا ريشة عالية؟
تكشف عالية عن حلمها بهذا الرواق، تقول إنها سكبت خلال عامين ما في قلبها «من أفكار عميقة ومشاعر دفينة على أوراق بيضاء عملاقة، لوحة بعد لوحة، بدأت فكرة رواق عالية تكبر شيئًا فشيئًا، وكبرت معها أحجام الأعمال الفنية لتصل إلى 3 و4 أمتار، وامتنعت عن بيعها لأكثر من عام حتى تكدست»، مشيرة إلى أنها في عام 2017 دخلت عزلة فنية لا تعرف سوى الطريق بين المرسم والبيت، كراهب في صومعة ليتحقق حلم جاذبها أطراف روحها أكثر من عشر سنوات، وكلما ضعفت كان أبطال لوحاتها ينادونها لمنحهم المزيد من ضوء اللون، فينعكس ألقهم على روحها، بقوتهم كانت تقاوم ضعفها، تشعر بالتواضع أمام سطوة الحلم، فتمضي معه أكثر.

مختصر الحكاية
تشير إلى أغلفة روايات، من تصاميمها، وأعمال فنية أخرى ومنحوتات يدوية كأنها تكمل بقعة الإبداع، فيغدو الفن روحًا تحلّق في ذرات المساحة المتسعة، فتتأمل الفنانة مملكتها، كرسي عليه آثار ريشتها، تفاصيل صغيرة، ركن القهوة، وآخر للهدايا بمنتجات وضعت عليها لمساتها، كأنما بالمختصر تقول للزوار: «هذا مختصر الحكاية، حكاية اسمها عالية»، ترمق بطرف عينها زائرًا يدخل عبر باب الرواق، يشرق وجهها بفرح طفولي، كأنما كائن آخر يطل على روحها المحلّقة بجمال الفن، يسير بين أكثر من 120 عملًا فنيًا، كل واحد منها يمثّل حكاية تعرفها، قصة يمكنها أن ترويها، تود لو أنها تقول له «هذه أنا بأحلامي كصوفي يدخل عرفان التجلّي في حضرة معشوقه»، و«هذه وجوه قاسمتني كوابيسي، وهؤلاء نسوة اصطففن حولي حينما كنت أقرأ قصيدة لجلال الدين الرومي».
كان عدد من الزوار يتوزعون على أركان الرواق، يتأملون، هذا صحفي يحجز موعدًا لمقابلة، يدخل أجانب يبدون كسيّاح تسبقهم آلات التصوير المعلّقة على أعناقهم، يتوقفون أمام اللوحات بصبر طويل، وبتبتل مصلّ يكاد يهمس لروحه: ماذا يمكن أن تقول له هذه «اللوحات التجريدية» الواقفة كأرواح منتصبة بألوانها، شاخصة بأبصارها نحو فضاء بعيد، يقبضون عليه أو لا يقبضون؟ يفتشون فيما تضمّه الإطارات عن أشياء ملتقطة بحساسية أخرى، خارج فواصل المكان والتجربة، عن المرأة الراسمة، والمرأة المرسومة، والنظرة إلى هذا الكائن المسمى بالرجل في شرقيته، كيف تنظر إليه هذه «الشرقية» عبر لغة اللون، وهي تجرّده من أغلفته لتراه عبر منظورها الفني، تضعه على خارطة اللوحة مخلوق بشري تفتش في إنسانيته عمّا يمكن أن تراه لأول مرة؟ أو يغيب عنها فترتعش الريشة بفكرة ما، دالة على الضبابية، أو مزيج من الرمادية الحائرة بين لونين، هي العاشقة «للبرتقالي»، لكنها تعيد تشكيله كما يعرف الفنان وحده أين تكمن روح اللون ■