مجلة العربي ... ثقافة وتنوير عربي

تعدّ مجلة العربي، التي صدرت ولا تزال تصدر من دولة الكويت، من أهم المجلات العربية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي على الإطلاق، فقد حافظت على صدورها منذ صدور عددها الأول عام 1958م في خدمة الثقافة العربية والإنسانية، وأصبحت في متناول يد القارئ المثقف والبسيط، الكبير والصغير بسعرها الرمزي، رغم فخامتها وما يُصرف عليها من مال وفير.
حظيت «العربي» بشهرة واسعة منذ افتتاحية رئيس تحريرها د. أحمد زكي في عددها الأول، فذاع صيتها في سماء الثقافة والإبداع، وفي تلك الافتتاحية قال:
«باسم الله نفتتح هذا الحديث الأول، وباسم العروبة خالصة بحتة محضة نخطّ أول سطر يقع عليه البصر من هذه المجلة الوليدة، وأسميناها العربي، وما كان اسم بوافٍ بتحقيق ما يجول في رؤوس رجال الوطن العربي كله ورؤوس نسائه من معانٍ، وما تستدفئ به قلوبهم من آمال وأماني، كاسم «العربي» في حسمه وإيجازه، ولئن كان جاز لـ «العربي» أن تتخذ لها منزلًا أي قطر من أقطار العروبة فبغداد جازت، وجازت القاهرة ودمشق، وجازت الخرطوم والرباط وتونس، جاز كل بلد له اللسان العربي لسانًا، والبيان العربي الناضح بعروبته بيانًا، ثم تشاء الأقدار أن يكون منزل العربي بلدًا من أصغر بلاد العرب حجمًا، وليس بأصغرها خطرًا، فكانت الكويت للعربي منزلًا، وخيرًا ما شاءت الأقدار، فالكويت لو أن بلاد العرب جمعاء قعدت إلى مائدة مستديرة، وكشفت بالحساب عمّا أدته للعروبة من خير، لتهلل وجه الكويت، على صغره، للذي صنع».
مع المعرفة وضد الجهل
وقال أيضًا: «والعربي للفكرة العربية خالصة، وهي لكل ما يتمخض عن الفكرة العربية من معانٍ، فهي ضد الجهل ومع المعرفة، في هذا الوطن العربي كله، وهي ضد المرض ومع الصحة، ومن الصحة صحة العقول، وهي ضد الفقر ومع الغنى تطلبه للفقير ليستغني، وتطلب له من أجل ذلك التعليم الطويل، والتثقيف الواسع والتدريب الصادق، ليعمل مخلصًا ويعيش من عمله عيشة راضية كريمة، وتطلب له مجالات العمل بعد ذلك بحسبان أن العمل حق من حقوق الإنسان على المجتمع الذي يعيش فيه، وأن التعطل، حتى في الثروة والاستغناء، مناقضة صارخة لقانون الطبيعة، قانون الحياة والأحياء، وهو مُزرٍ بكرامة الإنسان، محطّم لكبريائه».
مشروع ثقافي تنويري
لقد آثرت المجلة الوفاء للغة العربية وجمالها وعبقريتها في الفنون الإبداعية المختلفة، إذ كانت ولا تزال منبرًا لاحتضان الأدباء من الروائيين والقصاصين والشعراء والنقاد والمفكرين والدارسين من العرب والمستشرقين في مختلف بقاع العالم.
إنها مشروع ثقافي تنويري للإنسان العربي ولطفله الصغير بمجلته «العربي الصغير»، كما أنها منتدى فكري لكل المثقفين العرب، فقد كانت ولا تزال ميدانًا حرًّا للحوار والتنوير الفكري بين المثقفين العرب، كما ساهمت بإثراء الفكر العربي في شتى الميادين، وهي نافذة يطلّ منها القارئ العربي على ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى من خلال الاستطلاعات المنوعة لمختلف البلدان عبر صفحاتها، وهي تمثّل بحقّ جزءًا من المشروع الثقافي الكويتي في إطار خطة التنمية الثقافية العربية الشاملة، وقد ساهمت في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وفي توسيع مدى انتشار لغة الضاد في أركان العالم بأسره، إذ تنقل الحرف العربي وصورته وروحه إلى الشعوب والأمم الأخرى، والمرآة العاكسة للواقع العربي والمتخيل والمنشود والمصبو إليه، التي ردمت الهوّة بين الإنسان العربي وبين المعرفة والثقافة، وقد أدركت المجلة أهمية القومية التي تجلّت في اللسان العربي والعقيدة الإسلامية، فتعالقتا مع التراث، مما جعلها تُعنى بدائرة الحضارة العربية في استطلاعاتها في قارات آسيا وإفريقيا ومدن إسبانية، لأن المجلة أسست تأسيسًا عقلانيًّا مستنيرًا.
متعة جمالية ذهنية
قارئ مجلة العربي يجد متعة جمالية للعين التي ترتاح إلى جماليات الإخراج والصورة واللوحات المرسومة بها، إلى جانب المتعة الذهنية له في القراءة، فجسدت عهد الصورة الذي يعتمد على البصر والبصيرة.
لقد سايرت المجلة التطورات المختلفة، فحافظت على رزانتها وتبويبها وخطها المتوازن عندما جمعت بين الأصالة والتجديد، والتراث والمعاصرة للانطلاق إلى عالم استشرافي من خلال قضايا التنمية الثقافية والعولمة والهوية الوطنية، إنها شاهدة على مرحلة من أخطر التحولات العربية التي من أهمّها رحيل الاستعمار بدخول الكويت عهد النهضة والدستور والدولة المدنية، فقد عاصرت هذه المرحلة بالقلم والصورة والاستطلاع في مرحلة بناء دولة الكويت الحديثة، وقد نشرت في صفحاتها تشكيل أول مجلس للوزراء في الكويت، وانتخاب المجلس التأسيسي لوضع الدستور في الخامس والعشرين من شهر فبراير عام 1961م، عهد المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح، عندما تولّى حكم البلاد.
وقد اهتمت مجلة العربي اهتمامًا بالغًا بالمرأة الكويتية وتعليمها في استطلاعات مثّلت مراحل تطورها في المدارس المختلفة من تعليم متوسط إلى ثانوي، وقد شهدت المجلة رحلة بناء الدولة العصرية في جوانبها السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والفنية، وبالمسرح تحديدًا.
حاملة الحلم العربي
إن «العربي الصغير» أول مجلة للطفل العربي تصدر عن وزارة أو مؤسسة أو هيئة حكومية على مستوى العالم العربي كله، أما «كتاب العربي» فهو ثمرة من ثمرات مجلة العربي.
وقد أطلق عليها عديد من المفكرين والمثقفين «حاملة الحلم العربي»، وذلك لدورها التثقيفي والتنويري، فقد كانت الشعلة المضيئة في سماء الثقافة العربية، وعندما احتل العراق دولة الكويت تعطلت المجلة عن الصدور إثر العدوان الغاشم عليها، وكان الغزو العراقي انتكاسة للقومية العربية هددت الحلم العربي في وحدة ثقافتهم.
وقد جسّد المفكر العربي د. فؤاد زكريا ذلك بقوله «ما من إنسان محب للثقافة إلا ويحتفظ في قلبه بمكانة عزيزة لما يصدر عن الكويت من كتب ومجلات ودوريات رفيعة المستوى زهيدة السعر، وما من مثقف عربي ذي شأن إلا ويحمل ذكرى غالية لمؤتمر أو ندوة أو مهرجان عقد في الكويت».
وبعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي لها وعودة مجلة العربي للصدور، أنشد الشاعر الكويتي عبدالرزاق العدساني قصيدة يجسّد فيها فرحته بقوله:
عـــــــربــــــــــيّ فـــــــــي مـــعــــــــالــــيــــــــه ســــــــمــــــــــا
فـــــي ســـــمـــــاء الـــــفكـــــر يَســـــري كالبريـــــــــق
بـــــــــعـــــــــــد أن طـــــــالـــــــــت بـــــــنــــــــــــــا غـــــــــيبــتـــــــه
والــــتـــــام الـــــجــــــرح مــــــــن طـــــعــــــن الـــــرفيــــــــق
إن مجلة العربي بتاريخها ودورها المتميز في الثقافة العربية أكدت أن الكويت تستقبل الثقافة العربية بالمجلة لتصدّرها لكل الدول العربية.
وبعد هذا التاريخ الطويل، ألا يحق لـ «العربي» أن يكون لها كيان مستقل تستظل فيه تحت مظلة مجلس الوزراء، كما هي الحال مع مركز البحوث والدراسات الكويتية؟ لا أن تكون تحت مظلة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كما يُراد لها، وإن كان لابد من ذلك، فالأجدى أن تكون ذات كيان إداري وفني وعلمي وثقافي خاص، مثل دار الآثار الإسلامية.
لقد أصبحت «العربي» تحتل ركنًا بارزًا في المكتبة العربية، ومرجعًا مهمًّا للبحوث والدراسات في الصحافة العربية، وحلّت بكل منزل في أرجاء الوطن العربي .
صاحب السمو الأمير في مطبعة الحكومة عام 1958