لماذا لم تتطور الثقافة في الوطن العربي؟

لماذا لم تتطور الثقافة في الوطن العربي؟

قبل‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬المقال،‭ ‬أود‭ ‬في‭ ‬البدء‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬مقالة‭ ‬سابقة‭ ‬نشرتها‭ ‬في‭ ‬أكتوبر‭ ‬الماضي‭ ‬بمجلة‭ ‬العربي،‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬هل‭ ‬توجد‭ ‬ثقافة‭ ‬عربية‭ ‬بالمعنى‭ ‬الدقيق‭ ‬للمصطلح‮»‬،‭ ‬أشرت‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬ثقافة‭ ‬عربية‭ ‬واحدة‭ ‬تجمع‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬ثقافات‭ ‬متعددة‭ ‬لم‭ ‬تنصهر‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬واحدة‭. ‬وعندما‭ ‬نتحدث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬فالمقصود‭ ‬هنا‭ ‬مجمل‭ ‬الثقافات‭ ‬الدارجة‭ ‬فيه،‭ ‬وذلك‭ ‬لتشابه‭ ‬سماتها‭ ‬الأساسية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭.‬

‭ ‬وكما‭ ‬هو‭ ‬معروف‭ ‬بأن‭ ‬التطور‭ ‬مسألة‭ ‬شاملة‭ ‬وتتضمن‭ ‬عنصرين‭ ‬مهمين‭ ‬أساسيين،‭ ‬وهما‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬المادية‭ ‬والتطور‭ ‬الثقافي‭ ‬القيَمي‭ ‬للمجتمع،‭ ‬فالتطور‭ ‬الحقيقي‭ ‬يستلزم‭ ‬تزامن‭ ‬الاثنين‭ ‬معًا،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬اقتصر‭ ‬التطور‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬المادي‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الثقافي‭ ‬فهذا‭ ‬التطور‭ ‬لن‭ ‬يؤتي‭ ‬ثماره‭ ‬المرجوّة‭ ‬منه،‭ ‬وإذا‭ ‬سبق‭ ‬التطور‭ ‬الثقافي‭ ‬المادي‭ ‬وحمل‭ ‬مضامين‭ ‬عصرية‭ ‬تحديثية‭ ‬فقد‭ ‬يؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬إلى‭ ‬لحاق‭ ‬المادي‭ ‬بالثقافي‭.‬

 

تسييس‭ ‬الثقافة

لابد‭ ‬في‭ ‬البدء‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العالَم‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬شهد‭ ‬نهضة‭ ‬ثقافية‭ ‬وحضارية‭ ‬امتدت‭ ‬لما‭ ‬يقارب‭ ‬من‭ ‬المائة‭ ‬عام،‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬واستمرت‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بقليل‭. ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬النهضة‭ ‬بِروّاد‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني،‭ ‬ثم‭ ‬أكمل‭ ‬المثقفون‭ ‬التنويريون‭ ‬والمبدعون‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬المشوار‭. ‬حقق‭ ‬هؤلاء‭ ‬جميعًا‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬قُدّم‭ ‬من‭ ‬إبداعات‭ ‬وأفكار‭ ‬ومحاولات‭ ‬تحديثية‭ ‬للفكر‭ ‬والمجتمع‭ ‬العربي‭. ‬وقد‭ ‬تحقق‭ ‬هذا‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هيمنة‭ ‬خارجية‭ ‬على‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬طرفين،‭ ‬الأول‭ ‬الخلافة‭ ‬العثمانية‭ ‬والثاني‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأوربي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬تأثيره‭ ‬الثقافي‭ ‬واضحًا‭ ‬على‭ ‬مسيرة‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬آنذاك‭. ‬ولم‭ ‬تُكتب‭ ‬الاستمرارية‭ ‬للنهضة‭ ‬الثقافية‭ ‬لأسباب‭ ‬عدة،‭ ‬أبرزها‭ ‬أن‭ ‬النهضة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مؤسّسية‭ ‬بمعنى‭ ‬لم‭ ‬تحتضنها‭ ‬مؤسّسات‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة،‭ ‬بل‭ ‬اعتمدت‭ ‬على‭ ‬آراء‭ ‬ومحاولات‭ ‬أفراد‭ ‬وأخذت‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬طابع‭ ‬المبادرة‭ ‬الشعبية،‭ ‬ومع‭ ‬مجيء‭ ‬العسكر‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬بعد‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬المستعمر‭ ‬الأوربي‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬قضوا‭ ‬تدريجيًا‭ ‬على‭ ‬الأفكار‭ ‬التنويرية‭ ‬والإنجازات‭ ‬الثقافية‭ ‬الحرة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بها‭ ‬النخبة‭ ‬المفكّرة،‭ ‬النخبة‭ ‬العربية‭ ‬المبدعة‭ ‬خلال‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمان‭. ‬والنقطة‭ ‬الجديرة‭ ‬بالإشارة‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬النهضة‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬كانت‭ ‬نهضة‭ ‬ثقافية‭ ‬بِحق،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬أيديولوجي،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالعلم‭ ‬والفكر‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب‭ ‬كمعبّرات‭ ‬عن‭ ‬قيَم‭ ‬ثقافية‭ ‬اهتمامًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬خالصًا،‭ ‬واصطبغت‭ ‬الأفكار‭ ‬والمطالبات‭ ‬السياسية‭ ‬بِصبغة‭ ‬ثقافية،‭ ‬أي‭ ‬كانت‭ ‬الثقافة‭ ‬هي‭ ‬المحرك‭ ‬للسياسة‭ ‬لا‭ ‬العكس‭. ‬

‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬مجيء‭ ‬الأنظمة‭ ‬الوطنية‭ ‬للحكم‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬المستعمر‭ ‬قامت‭ ‬تلك‭ ‬الأنظمة‭ ‬بتسييس‭ ‬الثقافة‭ ‬وجعلت‭ ‬الولاء‭ ‬لها‭ ‬معيارًا‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المثقفين‭ ‬والمبدعين‭ ‬والمفكرين،‭ ‬وعما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬المادة‭ ‬والقيَم‭ ‬الثقافية‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬سياساتها‭ ‬وتصورها‭ ‬لكيفية‭ ‬سير‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة‭. ‬وتسييس‭ ‬الثقافة‭ ‬يعني‭ ‬تفريغها‭ ‬من‭ ‬محتواها‭ ‬الحقيقي‭ ‬ونزعتها‭ ‬الإنسانية‭ ‬الحضارية‭ ‬وإخضاعها‭ ‬لسلطة‭ ‬سياسية‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬فكري‭ ‬معين،‭ ‬وتوجيهها‭ ‬وتطويعها‭ ‬قسرًا‭ ‬لمصلحة‭ ‬فئات‭ ‬معينة‭ ‬بغرض‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬قيَم‭ ‬المجتمع‭ ‬ومكوناته‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬أو‭ ‬جماعات‭. ‬ومتى‭ ‬ما‭ ‬تسيّست‭ ‬الثقافة‭ ‬والإبداعات‭ ‬الثقافية‭ ‬ستفقد‭ ‬تلقائيًا‭ ‬إمكانية‭ ‬تطوير‭ ‬مكوناتها‭ ‬الطبيعية‭ ‬ذاتيًا‭ ‬ويصيبها‭ ‬التشوّه‭ ‬وتختل‭ ‬منظومة‭ ‬القيَم‭ ‬فيها‭ ‬ويصعب‭ ‬تقديم‭ ‬تحليلات‭ ‬موضوعية‭ ‬ونقدية‭ ‬لها‭ ‬ومعالجة‭ ‬المشكلات‭ ‬وأوجه‭ ‬الخلل‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تطويرها‭.‬

ولم‭ ‬يقف‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬إذ‭ ‬تم‭ ‬أيضًا‭ ‬تسييس‭ ‬التشكيلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وأصبح‭ ‬كيان‭ ‬الدول‭ ‬أو‭ ‬المجتمع‭ ‬مكونًا‭ ‬من‭ ‬تشكيلات‭ ‬اجتماعية‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬عرقي‭ ‬أو‭ ‬ديني‭ ‬أو‭ ‬طائفي‭ ‬أو‭ ‬إثنيّ‭ ‬وغيرها،‭ ‬وضربت‭ ‬بعرض‭ ‬الحائط‭ ‬المساواة،‭ ‬والمواطنة‭ ‬العادلة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات،‭ ‬وأقامت‭ ‬نظامًا‭ ‬للمحاصصة‭ ‬تغيب‭ ‬عنه‭ ‬المعايير‭ ‬الحقيقية‭ ‬العادلة‭ ‬لاختيار‭ ‬الأشخاص‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬هيئات‭ ‬المجتمع‭ ‬ومؤسساته،‭ ‬ونتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬تسييس‭ ‬ثقافة‭ ‬تلك‭ ‬التشكيلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والإبقاء‭ ‬عليها‭ ‬وعدم‭ ‬تطويرها‭ ‬فظهرت‭ ‬أنماط‭ ‬من‭ ‬التعصب‭ ‬أو‭ ‬التطرف‭ ‬أحيانًا،‭ ‬للكيان‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه‭ ‬الأفراد،‭ ‬وأدى‭ ‬إلى‭ ‬تشظّي‭ ‬المجتمعات‭ ‬والخوض‭ ‬في‭ ‬صراعات‭ ‬جانبية‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تفتيت‭ ‬الدولة‭ ‬وسهولة‭ ‬انقسامها‭ ‬إلى‭ ‬كيانات‭ ‬أو‭ ‬دويلات‭ ‬جديدة‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬عرقي‭ ‬أو‭ ‬ديني‭ ‬أو‭ ‬مذهبي‭. ‬وتسييس‭ ‬التشكيلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والإبقاء‭ ‬على‭ ‬ثقافاتها‭ ‬حال‭ ‬دون‭ ‬تحديث‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬ثقافيًا‭ ‬وانصهار‭ ‬مكوناتها‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬مدنية‭ ‬حديثة‭ ‬تتجاوز‭ ‬الأشكال‭ ‬القديمة‭ ‬للثقافة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬سابق،‭ ‬فتحوّلت‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬مجتمعات،‭ ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬التعبير،‭ ‬مشوّهة‭ ‬ثقافيًا،‭ ‬فهي‭ ‬حديثة‭ ‬في‭ ‬بنيتها‭ ‬التحتية‭ ‬لكنها‭ ‬تحمل‭ ‬ثقافات‭ ‬غير‭ ‬حديثة،‭ ‬وفقد‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬صلاته‭ ‬مع‭ ‬واقعه‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬فيه،‭ ‬أي‭ ‬السابق‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬التحديث‭. ‬كما‭ ‬دفع‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬التشكيلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمذهبية‭ ‬إلى‭ ‬إحلالها‭ ‬بديلًا‭ ‬عن‭ ‬القوى‭ ‬المدنية‭ ‬والأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬الحديثة‭. ‬فلو‭ ‬نظرنا‭ ‬مثلا‭ ‬للعراق‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬الاحزاب‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬تخوض‭ ‬الانتخابات‭ ‬تستند‭ ‬على‭ ‬الطابع‭ ‬العرقي‭ ‬والمذهبي‭ ‬وتكرّس‭ ‬ثقافات‭ ‬تقليدية‭ ‬فئوية‭ ‬لا‭ ‬يعبر‭ ‬الغالبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬مضمونها‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬العصر‭ ‬وقيَمه‭ ‬الحديثة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬بينما‭ ‬تقف‭ ‬الأحزاب‭ ‬والقوى‭ ‬المدنية‭ ‬التي‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬تحديثية‭ ‬للمجتمع‭ ‬على‭ ‬الهامش‭ ‬تقريبًا‭ ‬وتواجه‭ ‬صعوبات‭ ‬جمّة‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬قيَمها‭ ‬وأفكارها‭ ‬بين‭ ‬العامة‭.‬

 

القوى‭ ‬المعارضة‭ ‬للتغيير

هنالك‭ ‬أطراف‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬تقف‭ ‬ضد‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭ ‬الثقافي،‭ ‬وترى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تهديدًا‭ ‬للقَيم‭ ‬والهوية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬نسخة‭ ‬شبيهة‭ ‬بالمجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬أو‭ ‬غيرها،‭ ‬ويمكن‭ ‬الإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬الأطراف‭. ‬

‭ ‬تقف‭ ‬القوى‭ ‬الأصولية‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬أمام‭ ‬أي‭ ‬عملية‭ ‬تغيير‭ ‬أو‭ ‬تحديث‭ ‬للثقافة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬فهي‭ ‬ترفض‭ ‬رفضًا‭ ‬مطلقًا‭ ‬الآخر‭ ‬ولا‭ ‬تتحاور‭ ‬معه‭ ‬ولا‭ ‬تعتبره‭ ‬نموذجًا‭ ‬يمكن‭ ‬الاستفادة‭ ‬منه‭ ‬للتطور‭. ‬والرفض‭ ‬يمتد‭ ‬للعالم‭ ‬كله،‭ ‬خصوصًا‭ ‬الغربي،‭ ‬والحضارة‭ ‬المدنية‭ ‬الحديثة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬جاءت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭ ‬حضارية‭ ‬وإنسانية،‭ ‬وتعمل‭ ‬بكل‭ ‬قوتها،‭ ‬ليس‭ ‬للمحافظة‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬الثقافي‭ ‬الحالي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬بل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬والانغلاق‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬ورفض‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حديث‭. ‬ويشترك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬جميع‭ ‬القوى‭ ‬الأصولية‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬نفسها‭ ‬بمظهر‭ ‬مختلف‭ ‬أو‭ ‬وسطي‭.‬

وهناك‭ ‬قوى‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬المحافظة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترفض‭ ‬التغيير‭ ‬وترى‭ ‬وجوب‭ ‬التمسك‭ ‬بالقِيم‭ ‬المتوارثة‭ ‬التي‭ ‬سارت‭ ‬عليها‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭ ‬رغم‭ ‬التحولات‭ ‬الجذرية‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬المادي‭. ‬فهناك‭ ‬تمسك‭ ‬صارم‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬الفئات‭ ‬بالعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والهرمية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والقِيم‭ ‬الثقافية‭ ‬للشريحة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬لها‭ ‬بطريقة‭ ‬تحولت‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬إلى‭ ‬عصبية،‭ ‬ويظهر‭ ‬ذلك‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬الشرائح‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الريفية‭ ‬والقبلية‭ ‬وغيرها‭.‬

ولا‭ ‬تقف‭ ‬المسألة‭ ‬عند‭ ‬تلك‭ ‬القوى،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬الأطراف‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬بعض‭ ‬أفكار‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬مثل‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬القومية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬ضد‭ ‬الثقافة‭ ‬المدنية‭ ‬الحديثة‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬التطورات‭ ‬الحضارية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬والعالم‭ ‬الغربي‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬ويأتي‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬بسبب‭ ‬الإرث‭ ‬الاستعماري‭ ‬الغربي‭ ‬للمنطقة‭ ‬العربية‭ ‬ولعدم‭ ‬وجود‭ ‬تأصيل‭ ‬نظري‭ ‬يمكن‭ ‬تطبيقه‭ ‬لمفهوم‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬يأخذ‭ ‬طابع‭ ‬تحديث‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬عند‭ ‬الغالبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬نظّروا‭ ‬للقومية،‭ ‬ولتحوّل‭ ‬القومية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬لظاهرة‭ ‬سياسية‭ ‬وليست‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬ثقافية‭ ‬خصوصًا‭ ‬عند‭ ‬الأنظمة‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬القومي،‭ ‬ولم‭ ‬ترَ‭ ‬تلك‭ ‬الأطراف‭ ‬غضاضة‭ ‬من‭ ‬الاستمرار‭ ‬بقيَم‭ ‬الثقافة‭ ‬التقليدية‭ ‬العشائرية‭ ‬المحافظة‭ ‬ورفض‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القيَم‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬بحجة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‭. ‬ويكاد‭ ‬أن‭ ‬ينسحب‭ ‬الأمر‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬القوى‭ ‬اليسارية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬أفكارًا‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬أيضًا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تنشرها‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬أيديولوجي‭ ‬بحت‭ ‬ضمن‭ ‬نظرة‭ ‬أحادية‭ ‬وبفهم‭ ‬عقائدي‭ ‬جامد‭ ‬غيّب‭ ‬العقل‭ ‬وصادر‭ ‬حريته‭ ‬بمقولات‭ ‬تجريدية‭ ‬محدودة،‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬تطبيق‭ ‬أفكار‭ ‬أيديولوجية‭ ‬تكاد‭ ‬تختفي‭ ‬أي‭ ‬صلة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬العربي،‭ ‬فتحوّل‭ ‬خطابها‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬تنظيري‭ ‬غير‭ ‬واقعي‭ ‬حال‭ ‬دون‭ ‬فهم‭ ‬حقيقي‭ ‬للمشكلات‭ ‬الفعلية‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وصياغة‭ ‬أسس‭ ‬لكيفية‭ ‬الخروج‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬الأزمة‭ ‬الثقافية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬ولعل‭ ‬الخطأ‭ ‬الفادح‭ ‬الذي‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬أغلب‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كل‭ ‬الأحزاب‭ ‬والقوى‭ ‬السياسية‭ ‬العربية‭ ‬ذات‭ ‬الأفكار‭ ‬الحديثة،‭ ‬أنها‭ ‬ركزت‭ ‬على‭ ‬السياسة‭ ‬فقط‭ ‬وأهملت‭ ‬مسألة‭ ‬الثقافة،‭ ‬ونظرت‭ ‬للمشكلات‭ ‬الثقافية‭ ‬كمشكلات‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬عالجتها‭ ‬معالجة‭ ‬سياسية‭ ‬لا‭ ‬ثقافية،‭ ‬وهذا‭ ‬جاء‭ ‬بفعل‭ ‬عكسي‭ ‬عليها‭ ‬وعلى‭ ‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬

 

تهميش‭ ‬دور‭ ‬العلم

لا‭ ‬شك‭ ‬بأن‭ ‬العلم‭ ‬هو‭ ‬العامل‭ ‬الجوهري‭ ‬الذي‭ ‬أحدث‭ ‬التغييرات‭ ‬والتطورات‭ ‬النوعية‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وآثاره‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬خلفها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬والمجتمع‭ ‬لم‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬الجوانب‭ ‬المادية‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬تجاوزتها،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬إلى‭ ‬الجوانب‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭. ‬فقد‭ ‬غير‭ ‬العلم‭ ‬طريقة‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬وعلاقاته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وفهمه‭ ‬للعالم‭ ‬وتفسيره‭ ‬وفهمه‭ ‬لنفسه‭ ‬ووعيه‭ ‬لدوره‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬وإمكانياته‭ ‬والتخطيط‭ ‬لمستقبله‭... ‬إلخ‭. ‬هذه‭ ‬الموضوعات‭ ‬وغيرها‭ ‬لا‭ ‬أثر‭ ‬يذكر‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مضيّ‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭ ‬القرن‭ ‬على‭ ‬التعليم‭ ‬النظامي‭.‬

ويعود‭ ‬السبب‭ ‬الجوهري‭ ‬في‭ ‬تهميش‭ ‬دور‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬أساسية‭ ‬تتلخص‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬غير‭ ‬منتجة‭ ‬لمعظم‭ ‬حاجاتها‭ ‬الأساسية‭ ‬ويسود‭ ‬النمط‭ ‬الاستهلاكي‭ ‬فيها‭. ‬وغياب‭ ‬الإنتاجية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والصناعية‭ ‬يعني‭ ‬غياب‭ ‬دور‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬المجتمع‭ ‬وتطوره‭. ‬فلقد‭ ‬اقترن‭ ‬التطور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬منذ‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬بارتباط‭ ‬العلم‭ ‬بالإنتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬الذي‭ ‬تطور‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬منذ‭ ‬خمسة‭ ‬قرون‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وساهم‭ ‬في‭ ‬إحداث‭ ‬نقلات‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬انتقلت‭ ‬حمّى‭ ‬التطور‭ ‬إلى‭ ‬البقاع‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬العالم‭. ‬

والعلم‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬بالصناعة‭ ‬والإنتاج‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬جاء‭ ‬أيضًا‭ ‬بثقافة‭ ‬مدنية‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬تغيير‭ ‬طريقة‭ ‬الحياة‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وبناء‭ ‬دول‭ ‬حديثة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الحريات‭ ‬الفردية‭ ‬والفكرية‭ ‬والسياسية،‭ ‬واحتوت‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬على‭ ‬قيَم‭ ‬إنسانية‭ ‬وحضارية‭ ‬عامة‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الجوانب‭ ‬العقائدية‭ ‬والأيديولوجية،‭ ‬وتهدف‭ ‬إلى‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬المكونات‭ ‬المختلفة‭ ‬للمجتمع،‭ ‬وتضع‭ ‬الأسس‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية‭ ‬التي‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬جوانب‭ ‬الحياة‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬كعامل‭ ‬جوهري‭ ‬يقوم‭ ‬عليه‭ ‬المجتمع‭ ‬وحياة‭ ‬الفرد‭ ‬مثل‭ ‬الدعامة‭ ‬التي‭ ‬يستند‭ ‬عليها‭ ‬أي‭ ‬مجتمع‭ ‬للتطور‭ ‬العلمي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والثقافي‭ ‬والفكري،‭ ‬وأينما‭ ‬وجد‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬تزامن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬التطور‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭.‬

لم‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬المحاولات‭ ‬السابقة‭ ‬فلازلنا‭ ‬بعيدين‭ ‬عن‭ ‬الإنتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬والعلمي،‭ ‬وانعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي،‭ ‬حيث‭ ‬يمثل‭ ‬الإنتاج‭ ‬العلمي‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭ ‬للدول‭ ‬العربية‭ ‬مجتمعة‭ ‬نتاج‭ ‬دولة‭ ‬مثل‭ ‬إسبانيا‭. ‬ويفتقر‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬طرق‭ ‬التفكير‭ ‬العلمية‭ ‬والواقعية‭ ‬والعقلانية‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬الرافعة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للتقدم‭ ‬والقادرة‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬المعرفة‭ ‬والثقافة‭ ‬والفكر‭. ‬فطريقة‭ ‬التفكير‭ ‬هي‭ ‬المفتاح‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬الفرد‭ ‬وحتى‭ ‬الأمم‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬واقعها‭ ‬ومشكلاتها‭ ‬بطريقة‭ ‬نقدية‭ ‬وتطرح‭ ‬الحلول‭ ‬الأمثل‭ ‬لحلها،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬عقلية‭ ‬متفتحة‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سائد‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬طرق‭ ‬التفكير‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬بما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم،‭ ‬فلا‭ ‬تزال‭ ‬الخرافة‭ ‬والغائية‭ ‬وطرق‭ ‬التفكير‭ ‬شبه‭ ‬الأسطورية‭ ‬والعصبيات‭ ‬والتطرف‭ ‬وغيرها‭ ‬تجد‭ ‬حضورًا‭ ‬قويًا‭ ‬عند‭ ‬الغالبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬العربي،‭ ‬وتتميز‭ ‬طرق‭ ‬التفكير‭ ‬هذه‭ ‬بعدم‭ ‬الواقعية‭ ‬ولا‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬الأسباب‭ ‬الفعلية‭ ‬للظواهر‭ ‬الطبيعية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وتعطي‭ ‬تفسيرات‭ ‬غير‭ ‬حقيقية‭ ‬لما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وتتميز‭ ‬بالذاتية‭ ‬المفرطة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستند‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬أو‭ ‬العلم‭ ‬أو‭ ‬الواقع،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العاطفة‭ ‬والانفعال‭. ‬وتتضمن‭ ‬أيضًا‭ ‬أصنافًا‭ ‬من‭ ‬الإقصاء‭ ‬وإلغاء‭ ‬الآخر‭ ‬وغياب‭ ‬مظاهر‭ ‬الاختلاف‭ ‬والتسامح‭ ‬والتعايش‭ ‬مع‭ ‬المختلف،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬الانعزال‭ ‬والانغلاق‭ ‬واحتكار‭ ‬الحقيقة‭ ‬ورفض‭ ‬التعددية‭. ‬

وهناك‭ ‬مسألة‭ ‬أخرى‭ ‬مهمّة‭ ‬تقف‭ ‬بالفعل‭ ‬عائقًا‭ ‬أمام‭ ‬إحداث‭ ‬تغيير‭ ‬فكري‭ ‬وثقافي‭ ‬نوعي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬تتعلق‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬اليقين‮»‬‭. ‬فاليقين‭ ‬السائد،‭ ‬والذي‭ ‬يحتضن‭ ‬أنماط‭ ‬التفكير‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬واقعنا،‭ ‬يقين‭ ‬‮«‬ذاتي‮»‬‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬المعايير‭ ‬الذاتية‭ ‬والشخصية‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يصلح‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أساسًا‭ ‬لبناء‭ ‬المعرفة‭ ‬واختبار‭ ‬الحقائق‭. ‬فهو‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬اليقين‭ ‬الموضوعي‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬والمدعم‭ ‬بالأدلة‭ ‬المادية‭ ‬والتجريبية‭ ‬والذي‭ ‬يتميز‭ ‬بإمكانية‭ ‬التطور‭ ‬أو‭ ‬الدحض‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬توافر‭ ‬أدلة‭ ‬تدعم‭ ‬ذلك‭. ‬وإشكالية‭ ‬اليقين‭ ‬الذاتي‭ ‬أنه‭ ‬يقين‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬أدلة‭ ‬وبراهين‭ ‬فعلية‭ ‬يمكن‭ ‬الاعتماد‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬ما‭ ‬يعتقد‭ ‬بصحته،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬يقين‭ ‬ذاتي‭ ‬محض‭ ‬يؤمن‭ ‬بصحة‭ ‬أفكار‭ ‬الفرد‭ ‬أو‭ ‬الجماعة‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬توارث‭ ‬الأفكار،‭ ‬أو‭ ‬اليقين‭ ‬الجماعي‭ ‬بصحة‭ ‬أفكار‭ ‬تخص‭ ‬الجماعة‭ ‬أو‭ ‬المجتمع،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬قديمة،‭ ‬وتعكس‭ ‬قيَمها‭ ‬وقيمتها‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وتميزها‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الجماعات‭ ‬أو‭ ‬الشرائح‭ ‬الأخرى‭. ‬
واليقين‭ ‬الذاتي‭ ‬ذو‭ ‬امتداد‭ ‬أفقي‭ ‬لا‭ ‬رأسي،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬تراكمي‭ ‬لا‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬تراكم‭ ‬الحقائق‭ ‬والأفكار‭ ‬الإبداعية‭ ‬ليحدث‭ ‬تطورًا‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والحقائق‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬حياة‭ ‬وواقع‭ ‬الإنسان،‭ ‬والامتداد‭ ‬الأفقي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬ثقافة‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬سكوني‭ ‬غير‭ ‬متطور،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬تجديد‭ ‬حقيقي‭ ‬وفعلي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭.‬

 

المثقفون‭ ‬والدور‭ ‬الهامشي

هنالك‭ ‬أسباب‭ ‬دفعت‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬دور‭ ‬المثقف‭ ‬دورًا‭ ‬هامشيًا‭ ‬منذ‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭ ‬تقريبًا،‭ ‬منها‭ ‬أسباب‭ ‬خارجة‭ ‬عن‭ ‬إرادته‭ ‬تتلخص‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬الحكومات‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬والحريات‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬التعبير،‭ ‬وكلاء‭ ‬الحكومات‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬داروا‭ ‬في‭ ‬فلكهم‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬القوى‭ ‬الأصولية‭ ‬التي‭ ‬استهدفت‭ ‬المثقفين‭ ‬وأفكارهم‭ ‬بكافة‭ ‬الأساليب،‭ ‬وصل‭ ‬أساليب‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬التصفيات‭ ‬الجسدية‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬معروفة،‭ ‬يمكن‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬فيما‭ ‬يلي‭:‬

‭ ‬تحولت‭ ‬الثقافة‭ ‬والمثقفون،‭ ‬ومن‭ ‬سار‭ ‬في‭ ‬فلكهم،‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬نخبوية‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬لها‭ ‬طابع‭ ‬شعبي‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬الوعي‭ ‬الثقافي‭ ‬عند‭ ‬العامة،‭ ‬فقد‭ ‬وقع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬والمبدعين‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬شباك‭ ‬التقليد‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬إذ‭ ‬أخذ‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬الأفكار‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬علاتها‭ ‬ولم‭ ‬يتناولها‭ ‬بطريقة‭ ‬نقدية‭ ‬يميز‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يصلح‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يصلح‭ ‬لواقعه،‭ ‬وأصبحوا‭ ‬مرددين‭ ‬لتلك‭ ‬الأفكار‭ ‬والمفاهيم‭ ‬ويحاولون‭ ‬إلباسها‭ ‬للواقع‭ ‬العربي‭. ‬أما‭ ‬المبدعون‭ ‬فقد‭ ‬أخذ‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬منهم‭ ‬بالنظريات‭ ‬والاتجاهات‭ ‬الفنية‭ ‬والأدبية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬وقاموا‭ ‬أيضًا‭ ‬بتبنيها‭ ‬ومحاكاتها‭ ‬وهي‭ ‬أولًا‭ ‬تمثل‭ ‬إبداعات‭ ‬لمجتمعات‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬والغالبية‭ ‬الساحقة‭ ‬منها‭ ‬لا‭ ‬صلة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭. ‬وقد‭ ‬دفع‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تحول‭ ‬الثقافة‭ ‬والإبداع‭ ‬إلى‭ ‬النخبوية،‭ ‬وأصبح‭ ‬المثقف‭ ‬والمبدع‭ ‬لا‭ ‬يخاطب‭ ‬رجل‭ ‬الشارع‭ ‬بلغته‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬مفاهيمه‭ ‬وقيَمه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تطويرها‭.‬

وهناك‭ ‬أمران‭ ‬مهمان‭ ‬غابا‭ ‬بالفعل‭ ‬عن‭ ‬النخبة‭ ‬الثقافية‭ ‬والمبدعة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬الأول‭ ‬يتعلق‭ ‬بالوجهة‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬عليها‭ ‬المثقفون‭ ‬والمبدعون‭ ‬وكذلك‭ ‬المفكرون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إحداث‭ ‬تغير‭ ‬ثقافي‭ ‬نوعي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭. ‬والوجهة‭ ‬الفكرية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تصاغ‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬قضايا‭ ‬ومشكلات‭ ‬الإنسان‭ ‬والواقع‭ ‬العربي‭ ‬بحيث‭ ‬تأتي‭ ‬حلًا‭ ‬لها،‭ ‬وبذلك‭ ‬تكون‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬وتخاطب‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬بمشكلاته‭ ‬وقضاياه‭ ‬اليومية‭ ‬وبلغة‭ ‬يفهمها‭ ‬لا‭ ‬بلغة‭ ‬أو‭ ‬إبداعات‭ ‬يسود‭ ‬فيها‭ ‬الإبهام‭ ‬والغموض‭. ‬فالسياق‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الآن‭ ‬مرت‭ ‬به‭ ‬معظم‭ ‬الشعوب‭ ‬الغربية،‭ ‬ولعب‭ ‬المثقفون،‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانون،‭ ‬بأعمالهم‭ ‬وأفكارهم‭ ‬الواقعية‭ ‬دورًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬الواقع‭ ‬والمجتمع‭ ‬وثقافته‭ ‬وطرق‭ ‬تفكيره‭.‬

أما‭ ‬الأمر‭ ‬الثاني‭ ‬فيتعلق‭ ‬بمسألة‭ ‬الإبداع‭. ‬والمقصود‭ ‬بذلك‭ ‬هو‭ ‬قيام‭ ‬المثقف‭ ‬والمبدع‭ ‬والمفكر‭ ‬بالاطّلاع‭ ‬على‭ ‬أفكار‭ ‬وثقافات‭ ‬وشعوب‭ ‬العالم‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬فهمها‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬جوانبها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬أفكارها‭ ‬ومناهجها‭ ‬وأساليبها‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬واقعه‭. ‬ويستلزم‭ ‬ذلك‭ ‬بالطبع‭ ‬فهم‭ ‬الواقع‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬بشكل‭ ‬محكم‭ ‬وتطويع‭ ‬بعض‭ ‬الأفكار‭ ‬بما‭ ‬يتلاءم‭ ‬معه‭ ‬واستخدام‭ ‬المناهج‭ ‬والأساليب‭ ‬بمضمون‭ ‬يعكس‭ ‬واقعنا،‭ ‬وتبسيط‭ ‬الأفكار‭ ‬وإيصالها‭ ‬بلغة‭ ‬تخاطب‭ ‬الإنسان‭ ‬العادي‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬أفكاره‭ ‬وجانب‭ ‬من‭ ‬قيَمه‭ ‬للأفضل،‭ ‬وتوجهه‭ ‬إلى‭ ‬قيَم‭ ‬الحضارة‭ ‬والمدنية‭ ‬المعاصرة‭ ‬بروح‭ ‬عربية‭ ‬متجددة،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يمثل‭ ‬ذلك‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬لتقديم‭ ‬تأصيل‭ ‬نظري‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬مدارس‭ ‬واتجاهات‭ ‬فكرية‭ ‬عربية‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الأزمة‭ ‬الثقافية‭ ‬الحالية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وتقود‭ ‬لإحداث‭ ‬تغيرات‭ ‬ثقافية‭ ‬فكرية‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬العرب‭ ‬أنفسهم‭ ‬لا‭ ‬الآخرون‭ .