لماذا لم تتطور الثقافة في الوطن العربي؟

قبل الدخول في موضوع المقال، أود في البدء أن أشير إلى مقالة سابقة نشرتها في أكتوبر الماضي بمجلة العربي، بعنوان: «هل توجد ثقافة عربية بالمعنى الدقيق للمصطلح»، أشرت فيها إلى عدم وجود ثقافة عربية واحدة تجمع العرب من المحيط إلى الخليج، بل هناك ثقافات متعددة لم تنصهر في ثقافة واحدة. وعندما نتحدث في هذا المقال عن الثقافة في العالم العربي فالمقصود هنا مجمل الثقافات الدارجة فيه، وذلك لتشابه سماتها الأساسية بشكل عام.
وكما هو معروف بأن التطور مسألة شاملة وتتضمن عنصرين مهمين أساسيين، وهما التطور في البنية التحتية المادية والتطور الثقافي القيَمي للمجتمع، فالتطور الحقيقي يستلزم تزامن الاثنين معًا، أما إذا اقتصر التطور على الجانب المادي فقط من دون الثقافي فهذا التطور لن يؤتي ثماره المرجوّة منه، وإذا سبق التطور الثقافي المادي وحمل مضامين عصرية تحديثية فقد يؤدي ذلك في الأغلب إلى لحاق المادي بالثقافي.
تسييس الثقافة
لابد في البدء من الإشارة إلى أن العالَم العربي قد شهد نهضة ثقافية وحضارية امتدت لما يقارب من المائة عام، بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستمرت حتى ما بعد منتصف القرن العشرين بقليل. وقد بدأت النهضة بِروّاد الإصلاح الديني، ثم أكمل المثقفون التنويريون والمبدعون في النصف الأول من القرن العشرين المشوار. حقق هؤلاء جميعًا أفضل ما قُدّم من إبداعات وأفكار ومحاولات تحديثية للفكر والمجتمع العربي. وقد تحقق هذا التقدم في ظل هيمنة خارجية على العرب من طرفين، الأول الخلافة العثمانية والثاني الاستعمار الأوربي الذي كان تأثيره الثقافي واضحًا على مسيرة الثقافة في العالم العربي آنذاك. ولم تُكتب الاستمرارية للنهضة الثقافية لأسباب عدة، أبرزها أن النهضة لم تكن مؤسّسية بمعنى لم تحتضنها مؤسّسات المجتمع والدولة، بل اعتمدت على آراء ومحاولات أفراد وأخذت إلى حد كبير طابع المبادرة الشعبية، ومع مجيء العسكر إلى الحكم بعد التحرر من المستعمر الأوربي في النصف الثاني من القرن العشرين قضوا تدريجيًا على الأفكار التنويرية والإنجازات الثقافية الحرة التي جاءت بها النخبة المفكّرة، النخبة العربية المبدعة خلال قرن من الزمان. والنقطة الجديرة بالإشارة هنا أن النهضة الثقافية التي تمت كانت نهضة ثقافية بِحق، فلم تكن ذات طابع سياسي أو أيديولوجي، بل كان الاهتمام بالعلم والفكر والفنون والآداب كمعبّرات عن قيَم ثقافية اهتمامًا ثقافيًا خالصًا، واصطبغت الأفكار والمطالبات السياسية بِصبغة ثقافية، أي كانت الثقافة هي المحرك للسياسة لا العكس.
لكن مع مجيء الأنظمة الوطنية للحكم بعد رحيل المستعمر قامت تلك الأنظمة بتسييس الثقافة وجعلت الولاء لها معيارًا في التعامل مع المثقفين والمبدعين والمفكرين، وعما إذا كانت المادة والقيَم الثقافية تتماشى مع سياساتها وتصورها لكيفية سير الأمور في المجتمع والدولة. وتسييس الثقافة يعني تفريغها من محتواها الحقيقي ونزعتها الإنسانية الحضارية وإخضاعها لسلطة سياسية ذات طابع فكري معين، وتوجيهها وتطويعها قسرًا لمصلحة فئات معينة بغرض الهيمنة على قيَم المجتمع ومكوناته سواء من أفراد أو جماعات. ومتى ما تسيّست الثقافة والإبداعات الثقافية ستفقد تلقائيًا إمكانية تطوير مكوناتها الطبيعية ذاتيًا ويصيبها التشوّه وتختل منظومة القيَم فيها ويصعب تقديم تحليلات موضوعية ونقدية لها ومعالجة المشكلات وأوجه الخلل فيها من أجل تطويرها.
ولم يقف الأمر على ذلك إذ تم أيضًا تسييس التشكيلات الاجتماعية في المجتمع، وأصبح كيان الدول أو المجتمع مكونًا من تشكيلات اجتماعية ذات طابع عرقي أو ديني أو طائفي أو إثنيّ وغيرها، وضربت بعرض الحائط المساواة، والمواطنة العادلة من حيث الحقوق والواجبات، وأقامت نظامًا للمحاصصة تغيب عنه المعايير الحقيقية العادلة لاختيار الأشخاص في مختلف هيئات المجتمع ومؤسساته، ونتج عن ذلك تسييس ثقافة تلك التشكيلات الاجتماعية والإبقاء عليها وعدم تطويرها فظهرت أنماط من التعصب أو التطرف أحيانًا، للكيان الذي ينتمي إليه الأفراد، وأدى إلى تشظّي المجتمعات والخوض في صراعات جانبية ساهمت في تفتيت الدولة وسهولة انقسامها إلى كيانات أو دويلات جديدة ذات طابع عرقي أو ديني أو مذهبي. وتسييس التشكيلات الاجتماعية والإبقاء على ثقافاتها حال دون تحديث المجتمعات العربية ثقافيًا وانصهار مكوناتها في ثقافة مدنية حديثة تتجاوز الأشكال القديمة للثقافة التي كانت تعبّر عن واقع سابق، فتحوّلت المجتمعات العربية إلى مجتمعات، إن جاز التعبير، مشوّهة ثقافيًا، فهي حديثة في بنيتها التحتية لكنها تحمل ثقافات غير حديثة، وفقد الكثير منها صلاته مع واقعه الذي ظهر فيه، أي السابق على عملية التحديث. كما دفع الاعتماد على التشكيلات الاجتماعية والمذهبية إلى إحلالها بديلًا عن القوى المدنية والأحزاب السياسية الحديثة. فلو نظرنا مثلا للعراق سنجد أن الاحزاب الرئيسة التي تخوض الانتخابات تستند على الطابع العرقي والمذهبي وتكرّس ثقافات تقليدية فئوية لا يعبر الغالبية الساحقة من مضمونها عن روح العصر وقيَمه الحديثة والمعاصرة، بينما تقف الأحزاب والقوى المدنية التي تنطلق من أفكار تحديثية للمجتمع على الهامش تقريبًا وتواجه صعوبات جمّة في نشر قيَمها وأفكارها بين العامة.
القوى المعارضة للتغيير
هنالك أطراف عدة في المجتمعات العربية تقف ضد عملية التغيير الثقافي، وترى في ذلك تهديدًا للقَيم والهوية العربية التي يمكن أن تتحول إلى نسخة شبيهة بالمجتمعات الغربية أو غيرها، ويمكن الإشارة هنا إلى أبرز هذه الأطراف.
تقف القوى الأصولية في صدارة القوى التي تقف أمام أي عملية تغيير أو تحديث للثقافة في العالم العربي، فهي ترفض رفضًا مطلقًا الآخر ولا تتحاور معه ولا تعتبره نموذجًا يمكن الاستفادة منه للتطور. والرفض يمتد للعالم كله، خصوصًا الغربي، والحضارة المدنية الحديثة بكل ما جاءت به من إنجازات حضارية وإنسانية، وتعمل بكل قوتها، ليس للمحافظة على الواقع الثقافي الحالي في العالم العربي، بل العودة إلى الوراء والانغلاق على نفسها، ورفض كل ما هو حديث. ويشترك في ذلك جميع القوى الأصولية حتى تلك التي تريد أن تظهر نفسها بمظهر مختلف أو وسطي.
وهناك قوى أخرى في المجتمع العربي وهي «المحافظة» التي ترفض التغيير وترى وجوب التمسك بالقِيم المتوارثة التي سارت عليها منذ قرون أو حتى آلاف السنين رغم التحولات الجذرية التي حدثت في الواقع المادي. فهناك تمسك صارم عند هذه الفئات بالعادات والتقاليد والهرمية الاجتماعية والقِيم الثقافية للشريحة الاجتماعية التي تنتمي لها بطريقة تحولت في بعض الأحيان إلى عصبية، ويظهر ذلك بشكل واضح في الشرائح الاجتماعية الريفية والقبلية وغيرها.
ولا تقف المسألة عند تلك القوى، بل هناك بعض الأطراف التي تحمل بعض أفكار العصر الحديث، مثل فكرة «القومية» التي تقف ضد الثقافة المدنية الحديثة الناتجة عن التطورات الحضارية في أوربا والعالم الغربي بشكل عام. ويأتي هذا الموقف بسبب الإرث الاستعماري الغربي للمنطقة العربية ولعدم وجود تأصيل نظري يمكن تطبيقه لمفهوم القومية العربية يأخذ طابع تحديث المجتمع العربي عند الغالبية الساحقة من الذين نظّروا للقومية، ولتحوّل القومية بشكل عام لظاهرة سياسية وليست فكرية أو ثقافية خصوصًا عند الأنظمة ذات الطابع القومي، ولم ترَ تلك الأطراف غضاضة من الاستمرار بقيَم الثقافة التقليدية العشائرية المحافظة ورفض العديد من القيَم التي جاء بها العصر الحديث بحجة الحفاظ على الهوية العربية. ويكاد أن ينسحب الأمر أيضًا على القوى اليسارية العربية التي حملت أفكارًا من نتاج الفكر الغربي أيضًا، إلا أن الثقافة التي كانت تريد أن تنشرها ذات طابع أيديولوجي بحت ضمن نظرة أحادية وبفهم عقائدي جامد غيّب العقل وصادر حريته بمقولات تجريدية محدودة، سعت إلى تطبيق أفكار أيديولوجية تكاد تختفي أي صلة لها في الواقع العربي، فتحوّل خطابها إلى خطاب تنظيري غير واقعي حال دون فهم حقيقي للمشكلات الفعلية في الواقع وصياغة أسس لكيفية الخروج منها ومن الأزمة الثقافية بشكل عام. ولعل الخطأ الفادح الذي وقعت فيه أغلب إن لم يكن كل الأحزاب والقوى السياسية العربية ذات الأفكار الحديثة، أنها ركزت على السياسة فقط وأهملت مسألة الثقافة، ونظرت للمشكلات الثقافية كمشكلات سياسية أو عالجتها معالجة سياسية لا ثقافية، وهذا جاء بفعل عكسي عليها وعلى مستقبل الثقافة في العالم العربي.
تهميش دور العلم
لا شك بأن العلم هو العامل الجوهري الذي أحدث التغييرات والتطورات النوعية في مسيرة الحضارة الإنسانية، وآثاره الكبيرة التي خلفها على الإنسان والمجتمع لم تقتصر على الجوانب المادية فقط بل تجاوزتها، كما هو معروف، إلى الجوانب الفكرية والثقافية. فقد غير العلم طريقة حياة الإنسان وعلاقاته الاجتماعية وفهمه للعالم وتفسيره وفهمه لنفسه ووعيه لدوره في الحياة وإمكانياته والتخطيط لمستقبله... إلخ. هذه الموضوعات وغيرها لا أثر يذكر لها في الواقع الثقافي والفكري العربي على الرغم من مضيّ ما يقارب من قرن ونصف القرن على التعليم النظامي.
ويعود السبب الجوهري في تهميش دور العلم في المجتمعات العربية إلى مسألة أساسية تتلخص في كون هذه المجتمعات غير منتجة لمعظم حاجاتها الأساسية ويسود النمط الاستهلاكي فيها. وغياب الإنتاجية الاقتصادية والصناعية يعني غياب دور العلم في تشكيل المجتمع وتطوره. فلقد اقترن التطور الاقتصادي منذ العصر الحديث بارتباط العلم بالإنتاج الصناعي الذي تطور بشكل كبير منذ خمسة قرون تقريبًا، وساهم في إحداث نقلات نوعية في المجتمعات الغربية على وجه الخصوص، ومن ثم انتقلت حمّى التطور إلى البقاع الأخرى من العالم.
والعلم لم يأت بالصناعة والإنتاج فقط، بل جاء أيضًا بثقافة مدنية ناتجة عن تغيير طريقة الحياة السابقة على العصر الحديث، وبناء دول حديثة قائمة على الحريات الفردية والفكرية والسياسية، واحتوت هذه الثقافة على قيَم إنسانية وحضارية عامة خالية من الجوانب العقائدية والأيديولوجية، وتهدف إلى التعايش بين المكونات المختلفة للمجتمع، وتضع الأسس الثقافية والفكرية التي تساهم في تطور المجتمع في شتى جوانب الحياة. كما أن العلم كعامل جوهري يقوم عليه المجتمع وحياة الفرد مثل الدعامة التي يستند عليها أي مجتمع للتطور العلمي والاقتصادي والثقافي والفكري، وأينما وجد التطور العلمي تزامن مع ذلك التطور الفكري والثقافي.
لم يحدث ذلك في العالم العربي حتى الآن على الرغم من بعض المحاولات السابقة فلازلنا بعيدين عن الإنتاج الصناعي والعلمي، وانعكس ذلك على الإنتاج الفكري والثقافي، حيث يمثل الإنتاج العلمي الثقافي والفكري للدول العربية مجتمعة نتاج دولة مثل إسبانيا. ويفتقر الواقع العربي إلى طرق التفكير العلمية والواقعية والعقلانية التي تعد الرافعة الحقيقية للتقدم والقادرة على إنتاج المعرفة والثقافة والفكر. فطريقة التفكير هي المفتاح الذي يستطيع الفرد وحتى الأمم التعامل مع واقعها ومشكلاتها بطريقة نقدية وتطرح الحلول الأمثل لحلها، كما أنها تعبر عن عقلية متفتحة وقادرة على التفاعل مع ما يجري من حولها أو ما يجري في العالم. لكن ما هو سائد في الواقع العربي من طرق التفكير لا علاقة له على الإطلاق بما يجري في العالم المتقدم، فلا تزال الخرافة والغائية وطرق التفكير شبه الأسطورية والعصبيات والتطرف وغيرها تجد حضورًا قويًا عند الغالبية الساحقة من الشعب العربي، وتتميز طرق التفكير هذه بعدم الواقعية ولا تعبر عن الأسباب الفعلية للظواهر الطبيعية أو الاجتماعية، وتعطي تفسيرات غير حقيقية لما يجري في العالم، وتتميز بالذاتية المفرطة التي لا تستند على العقل أو العلم أو الواقع، بل على العاطفة والانفعال. وتتضمن أيضًا أصنافًا من الإقصاء وإلغاء الآخر وغياب مظاهر الاختلاف والتسامح والتعايش مع المختلف، علاوة على الانعزال والانغلاق واحتكار الحقيقة ورفض التعددية.
وهناك مسألة أخرى مهمّة تقف بالفعل عائقًا أمام إحداث تغيير فكري وثقافي نوعي في المجتمع العربي تتعلق بـ «اليقين». فاليقين السائد، والذي يحتضن أنماط التفكير السائدة في واقعنا، يقين «ذاتي» يعتمد على المعايير الذاتية والشخصية وهو لا يصلح على الإطلاق أن يكون أساسًا لبناء المعرفة واختبار الحقائق. فهو على العكس من اليقين الموضوعي الذي يقوم أساسًا على العلم والمدعم بالأدلة المادية والتجريبية والذي يتميز بإمكانية التطور أو الدحض في حال توافر أدلة تدعم ذلك. وإشكالية اليقين الذاتي أنه يقين لا يقوم على أدلة وبراهين فعلية يمكن الاعتماد عليها في دعم ما يعتقد بصحته، بل هو يقين ذاتي محض يؤمن بصحة أفكار الفرد أو الجماعة بناءً على توارث الأفكار، أو اليقين الجماعي بصحة أفكار تخص الجماعة أو المجتمع، خصوصًا إذا كانت قديمة، وتعكس قيَمها وقيمتها الاجتماعية، وتميزها عن غيرها من الجماعات أو الشرائح الأخرى.
واليقين الذاتي ذو امتداد أفقي لا رأسي، بمعنى أنه غير تراكمي لا يعمل على تراكم الحقائق والأفكار الإبداعية ليحدث تطورًا في الفكر والحقائق ومن ثم حياة وواقع الإنسان، والامتداد الأفقي هو ما يجعل من الثقافة ثقافة ذات طابع سكوني غير متطور، وبالتالي لا يوجد تجديد حقيقي وفعلي في المجتمع.
المثقفون والدور الهامشي
هنالك أسباب دفعت لأن يكون دور المثقف دورًا هامشيًا منذ التحرر من الاستعمار وحتى اليوم تقريبًا، منها أسباب خارجة عن إرادته تتلخص في موقف الحكومات من المثقفين والحريات بشكل عام، وفي بعض الأحيان، إن جاز التعبير، وكلاء الحكومات أو من داروا في فلكهم من القوى السياسية المتمثلة في القوى الأصولية التي استهدفت المثقفين وأفكارهم بكافة الأساليب، وصل أساليب بعضها إلى التصفيات الجسدية. ولا شك بأن هذه الأسباب معروفة، يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي:
تحولت الثقافة والمثقفون، ومن سار في فلكهم، إلى مسألة نخبوية ولم يعد لها طابع شعبي يساهم في رفع الوعي الثقافي عند العامة، فقد وقع العديد من المثقفين والمبدعين العرب في شباك التقليد القادم من الغرب إذ أخذ الكثير منهم الأفكار الغربية على علاتها ولم يتناولها بطريقة نقدية يميز فيها بين ما يصلح وما لا يصلح لواقعه، وأصبحوا مرددين لتلك الأفكار والمفاهيم ويحاولون إلباسها للواقع العربي. أما المبدعون فقد أخذ الأغلبية الساحقة منهم بالنظريات والاتجاهات الفنية والأدبية المعاصرة، وقاموا أيضًا بتبنيها ومحاكاتها وهي أولًا تمثل إبداعات لمجتمعات تختلف عن مجتمعاتنا والغالبية الساحقة منها لا صلة لها في الواقع. وقد دفع ذلك إلى تحول الثقافة والإبداع إلى النخبوية، وأصبح المثقف والمبدع لا يخاطب رجل الشارع بلغته أو حتى مفاهيمه وقيَمه من أجل تطويرها.
وهناك أمران مهمان غابا بالفعل عن النخبة الثقافية والمبدعة إلى حد كبير، الأول يتعلق بالوجهة الفكرية التي من المفترض أن يسير عليها المثقفون والمبدعون وكذلك المفكرون من أجل إحداث تغير ثقافي نوعي في المجتمع العربي. والوجهة الفكرية يجب أن تصاغ بناءً على قضايا ومشكلات الإنسان والواقع العربي بحيث تأتي حلًا لها، وبذلك تكون نابعة من الواقع وتخاطب الإنسان العربي بمشكلاته وقضاياه اليومية وبلغة يفهمها لا بلغة أو إبداعات يسود فيها الإبهام والغموض. فالسياق التاريخي الذي يمر به العالم العربي الآن مرت به معظم الشعوب الغربية، ولعب المثقفون، الأدباء والفنانون، بأعمالهم وأفكارهم الواقعية دورًا أساسيًا في تغيير الواقع والمجتمع وثقافته وطرق تفكيره.
أما الأمر الثاني فيتعلق بمسألة الإبداع. والمقصود بذلك هو قيام المثقف والمبدع والمفكر بالاطّلاع على أفكار وثقافات وشعوب العالم والعمل على فهمها من جميع جوانبها، ومن ثم النظر في كيفية الاستفادة من بعض أفكارها ومناهجها وأساليبها في تطوير واقعه. ويستلزم ذلك بالطبع فهم الواقع الثقافي العربي بشكل محكم وتطويع بعض الأفكار بما يتلاءم معه واستخدام المناهج والأساليب بمضمون يعكس واقعنا، وتبسيط الأفكار وإيصالها بلغة تخاطب الإنسان العادي تعمل على تغيير أفكاره وجانب من قيَمه للأفضل، وتوجهه إلى قيَم الحضارة والمدنية المعاصرة بروح عربية متجددة، ويمكن أن يمثل ذلك نقطة انطلاق لتقديم تأصيل نظري يساهم في إبداع مدارس واتجاهات فكرية عربية تعمل على الخروج من الأزمة الثقافية الحالية السائدة في العالم العربي وتقود لإحداث تغيرات ثقافية فكرية يقوم بها العرب أنفسهم لا الآخرون .