الكثير من القليل مغزى تبسيط الحياة

الكثير من القليل مغزى تبسيط الحياة

 في مقابل ملايين الناس الذين يسعون يوميًا إلى مراكمة الممتلكات والأشياء، تعمل مجموعة من الأشخاص حول العالم من مختلف الأعمار على مناصرة حركة «المينيمالزم»، التي تدعو إلى التخلص من الأشياء غير الضرورية، بهدف العيش ببساطة وسلام وإيجاد مساحة للتركيز على الأمور المهمة في الحياة، والتفرغ لتحقيق الأهداف، والاهتمام بالذات وبالآخرين وبالوطن والأرض.
يقول أحد مشاهير الحركة المذكورة، مؤلف كتاب «الكثير من القليل»، جوشوا بيكر: لا يعني التخلص من الأشياء غير الضرورية أن تكون الجدران فارغة، أو الجلوس على الأرض من دون أثاث، أو حرمان، أو حياة مملة بلا ألوان، بل مساحة مفتوحة تحمل إمكانات جديدة؛ وإزاحة لأشياء لا طائل من ورائها، وتغيير إيجابي من دون شك. 

 من منطلق قناعته هذه، راح يساعد نفسه والآخرين على التخلي عن ممتلكات لم تعد مفيدة ولا تضيف شيئًا، وإبراز الأشياء الأهم والاحتفاء بها. وينتقد - في عديد من أحاديثه على «يوتيوب» - من يعملون ساعات طويلة ليجنوا مزيدًا من النقود لتلبية طلباتهم وطموحاتهم المادية التي تفوق إمكاناتهم الحقيقية، ليجدوا أنفسهم في متاهة القروض والديون.
 وفي النهاية تلتهم هذه العملية طاقاتهم وأوقاتهم ومواردهم ويعيشون تحت وطأة ضغوط لا نهاية لها، دون أن يستمتعوا بما امتلكوا كما ينبغي. وما يزيد الطين بلّة أن يستمر تراكم الأشياء مع الوقت حتى تمتلئ الخزائن والأدراج والرفوف وتختبئ الأشياء الثمينة والعزيزة وسط فوضى الأشياء وزحامها. 
من خلال تجربته - التي بدأت بتعليق من جارته على الأشياء الكثيرة المخزنة في جراج بيته، قالت له فيه «لا تحتاجون لكل هذه الأشياء!» - وتجارب الآخرين ممن ساعدهم على خوض «المغامرة»، وجد بيكر أن التخلص من الأشياء غير الضرورية جعل الناس أكثر كرمًا مع الآخرين، وحرّرهم من سيطرة الإعلانات وإغراءات مسوقي السلع، ومن عبودية السير وفقًا لما يريد الناس، وتخلص بعضهم من الديون، واستطاعوا تحقيق فائض نقدي. واعتادوا مع الوقت التخلص مما لا يحتاجون من دون معاناة، حتى لو كانوا قد أنفقوا على أشيائهم أموالًا ليست بسيطة. كما نجحوا من جانب آخر في تكوين رؤية جديدة لمستقبلهم. وتمكنوا من تحسين طرقهم في العيش بالقليل ومواجهة أسئلة مثل: هل أحتاج هذا الشيء فعلًا؟
 
أجيال مختلفة
  تتباين استجابة الأجيال المختلفة لتبسيط الحياة، ففي الوقت التي يرى جيل الأمر صعبًا، يراه جيل آخر أقل صعوبة. فعلى سبيل المثال، ترى سيدة خمسينية أن التخلص من الأشياء يبدو أكثر صعوبة لمن هم في فئتها العمرية مقارنة بالشباب؛ والسبب أن الأشياء قد تجمّعت لديهم عبر سنوات حياتهم المديدة، ومن بينها أشياء أولادهم التي تركوها وغادروا إلى بيوتهم الجديدة، وما ورثوه عن آبائهم من أغراض عزيزة تحمل شحنات عاطفية يصعب التفريط بها. وهذا إلى جانب أنهم قد تربّوا على افتراضات خاطئة تربط بين مستوى الإنفاق والسعادة وبين الامتلاك والإنجاز، حتى بات تراكم الأشياء دليلًا على النجاح.
  ولهذا هم يتعرضون لصراع شرس بين قيم تربوا عليها وقيم جديدة يؤمنون بها ويرون السعادة من خلالها. وتضيف أن من التحديات الأخرى التي تواجه فئتها العمرية، صعوبة إقناع الأنداد بالفكرة للحصول على مساندتهم. أما المميزات فهي أن التجارب والخبرات التي مر بها الخمسينيون تساعدهم اليوم على معرفة أنفسهم والوقوف على ما يحبون ويحتاجون على وجه التحديد، الأمر الذي يجعلهم يعرفون جيدًا ما يمكن التخلص منه، سواء بالبيع أو التبرع أو الرمي. 
وفي تحليل لسلوك الأجيال المختلفة يخبرنا بيكر أن مواليد فترة ما بين عامي 1928 و1944 عاصروا الحرب العالمية الثانية، وساهم ذلك في تفضيلهم شراء الأساسيات، وعندما شاخوا، بدأوا التخلص مما لا يحتاجون؛ في حين يجد جيل الانفجار السكاني التالي (مواليد الفترة ما بين عامي 1945 و1964، الذين هم اليوم في عمر التقاعد أو يقتربون منه) صعوبة في التخلص من الأشياء لأنهم عاشوا فترة ما بعد الحرب، وشهدوا توسعات المدن ونوعًا من الوفرة، غير أن بعضهم اقتنع بمغزى تبسيط الحياة ويحاول تطبيقه، كتلك السيدة الخمسينية. 

وقت مناسب
أما جيل إكس X (مواليد 1965 و1980) فهو جيل منطوٍ على نفسه، تربى مع آباء وأمهات عاملين ولا وقت لديهم ولا طاقة؛ وشهد ثورة تكنولوجية في بداية حياته - ولكن بدون حواسيب في المدارس - وعندما بلغوا اليوم منتصف العمر راحوا يعبّرون عن حبهم لأولادهم بالشراء؛ ولكن فيما يبدو أنهم قد عرفوا ما يعني تراكم الأشياء وأدركوا أن الوقت ليس متأخرًا ليتغيروا. 
ويعد جيل الألفية (المولود في الفترة ما بين 1981 و2000، والذي تخرّج في الجامعة ودخل سوق العمل وشهد محنًا اقتصادية) أول جيل يولد مع ثورة تكنولوجية غير مسبوقة ووسائل تواصل مكّنته من العمل من المقاهي ومن أي مكان. والأكثر وعيًا بمشكلات البيئة، وأفضل الأجيال تطبيقًا للعيش البسيط.
تتفاوت تعريفات وطرق تطبيق تبسيط الحياة وفقًا للأجيال والأشخاص، فهناك من يمضي بعيدًا في تحديد ممتلكاته، مثل ديفيد برونو، الذي حدد ممتلكاته بمئة شيء إبان عمله بجامعة ساندياغو؛ وألهم كثيرين حتى أصبح هناك من تجاوزه في تخفيض الممتلكات إلى 75 و50 شيئًا. وهناك من حمل كل ما يملك في حقيبة ظهر مثل كولين رايت، وانطلق مسافرًا إلى بلاد جديدة كل أربعة شهور، داعيًا متابعي موقعه للتصويت لاختيار وجهته التالية.
وآخرون عاشوا في بيوت صغيرة جدًا، ليتخلصوا من ديونهم العقارية، ثم ما لبثوا أن أحبوا هذا النمط من العيش، وواصلوا السير على هذا الدرب. ولا يخفى على أحد أن هؤلاء المناصرين لتبسيط الحياة هم أحفاد لجيل الرواد الذين ألهمتهم دعوات الأديان إلى التقشف، والزهد والعيش البسيط. 

تعريفات ونصائح مفيدة
  على أية حال، يقترح بيكر أن نبدأ العمل فورًا بالتخلص من الأشياء غير الضرورية، حتى ولو ببطء، ونطرح أسئلة مثل: ماذا سأفعل بالكتب والألعاب القديمة؟ وكيف سأتصرف مع أفراد الأسرة المعارضين للتخلص من هذه الأشياء؟ وينصحنا بعدم البدء بالأشياء التي يصعب التخلص منها، بل بما يعتبر غير مؤثر. وللمساعدة يقترح أن نضع في اعتبارنا قاعدة 20/80، التي تلخّص حقيقة أننا نستخدم 20 في المئة من أغراضنا 80 في المئة من الوقت؛ و80 في المئة منها 20 في المئة من الوقت. 
ومن النصائح الأخرى، البدء بالمناطق المستخدمة أكثر من غيرها كغرفة الجلوس وغرف النوم ودورات المياه، التي تعد أسهل نسبيًا من المطبخ، أو المكتب.
 وسيشجع العمل في غرفة على رؤية الفرق قبل وبعد، من حيث الشعور بالراحة والتقليل من الازدحام والتوتر المصاحب له. وبالتدريج يمكن غزو غرفة بعد أخرى وتصنيف محتوياتها ما بين أشياء ستبقى مكانها وأخرى سيتغير مكانها، وثالثة سيتم التخلص منها على نحو ما. 
ومن المفيد أيضًا التخلص من القطع المتشابهة في الوظيفة أولًا - مع ترك قطعة أو اثنتين احتياطيًا - والتخلص من الأجهزة القديمة، والكتب، والتسجيلات التي توجد لها بدائل إلكترونية، وكذلك التخلص من الأوراق والفواتير القديمة التي انتهى عهدها. كما يمكن حفظ الصور إلكترونيًا. 
أما القضايا الصعبة كتخفيض مساحة البيوت وعدد السيارات ونوعيتها، فتحتاج إلى مزيد من الجهد ورؤية فوائد التخفيض في صورة توفير تكاليف الشراء والصيانة، وسهولة البيع في المستقبل، وربما يساعد تجريب العيش بالقليل على حل الصراع، وتعزيز فكرة الاستغناء التي تعد مهارة استثنائية تتحسن بالممارسة. كما يمكن أن يساهم الاكتفاء بقطع محدودة من الملابس والتحف لفترة معينة على اعتياد العيش من دونها. وعزاء الفقد دائمًا في مكاسب أكبر تنتج من أحلام تموت وأخرى تولد في رحلة التحول والتغيير الإيجابي ■