عن كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»

عن كتاب  «مستقبل الثقافة في مصر»

احتفلت‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬بمرور‭ ‬ثمانين‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬لعميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬أصدر‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1938‭. ‬وكانت‭ ‬مصر‭ ‬قد‭ ‬فرغت‭ ‬من‭ ‬توقيع‭ ‬معاهدة‭ ‬1936‭ ‬التي‭ ‬منحتها‭ ‬الاستقلال‭ ‬بوصفها‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة‭ ‬ذات‭ ‬سيادة،‭ ‬وأكملت‭ ‬مصر‭ ‬ذلك‭ ‬بتوقيع‭ ‬معاهدة‭ ‬مونترو‭ ‬في‭ ‬19‭ ‬أبريل‭ ‬عام‭ ‬1937،‭ (‬وقد‭  ‬دخلت‭ ‬المعاهدة‭  ‬حيز‭ ‬التنفيذ‭ ‬يوم‭ ‬15‭ ‬أكتوبر1937‭) ‬وكان‭ ‬أهم‭ ‬أثر‭ ‬لهذه‭ ‬المعاهدة‭ ‬إلغاء‭ ‬نظام‭ ‬الامتيازات‭ ‬الأجنبية‭. ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬خطوة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الاستقلال‭ ‬الوطني،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أهَّل‭ ‬مصر‭ ‬للالتحاق‭ ‬بعصبة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭. ‬

كتاب‭ ‬‮«‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬للتربية‭ ‬والتعليم‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فإنه‭ ‬كتاب‭ ‬يضع‭ ‬قضية‭ ‬التعليم‭ ‬ضمن‭ ‬قضايا‭ ‬الثقافة‭ ‬والهوية‭ ‬الوطنية،‭ ‬وينطلق‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬تخيل‭ ‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحررت‭ ‬وأصبحت‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة‭ ‬تبحث‭ ‬لنفسها‭ ‬عن‭ ‬مستقبل‭ ‬يعد‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الإنجازات،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬استلزم‭ ‬رؤية‭ ‬ثقافية‭ ‬ثاقبة‭ ‬وعميقة‭ ‬وشمولية‭ ‬للمستقبل‭. ‬وقد‭ ‬تكاثرت‭ ‬الأسئلة‭ ‬على‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬المستشار‭ ‬الفني‭ ‬لوزارة‭ ‬المعارف‭ ‬العمومية،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يجيب‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬السائلين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭. ‬ولكن‭ ‬إجاباته‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تشبع‭ ‬رغبات‭ ‬السائلين،‭ ‬فانتظر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ذهب‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬الصيفية‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬وتفرّغ‭ ‬لإملاء‭ ‬كتابه‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬سفوح‭ ‬جبال‭ ‬الألب‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تقع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬وإيطاليا،‭ ‬وهناك‭ ‬أملَى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يفتتحه‭ ‬بأبيات‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

خُذِي‭ ‬رَأيي‭ ‬وَحَسبُكِ‭ ‬ذاكَ‭ ‬مِنّي

عَلى‭ ‬ما‭ ‬فِيَّ‭ ‬مِن‭ ‬عِوَجٍ‭ ‬وَأَمتِ

وَماذا‭ ‬يَبتَغي‭ ‬الجُلَساءُ‭ ‬عِندي

أَرادوا‭ ‬مَنطِقي‭ ‬وَأَرَدتُ‭ ‬صَمتي؟‭!‬

وَيوجَدُ‭ ‬بَينَنا‭ ‬أَمَدٌ‭ ‬قَصِيٌّ

فَأَمّوا‭ ‬سَمتَهُم‭ ‬وَأَمَمتُ‭ ‬سَمتي

 

هوة‭ ‬واسعة

والحق‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬تمثل‭ ‬بلغة‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الحداثي‭ ‬‮«‬عتبة‭ ‬النص‮»‬‭. ‬وهي‭ ‬بالفعل‭ ‬عتبة‭ ‬دالة‭ ‬تشير‭ ‬إشارة‭ ‬مزدوجة‭ ‬إلى‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬أولًا،‭ ‬وإلى‭ ‬قائل‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬وعلاقته‭ ‬بمجتمعه‭ ‬ثانيًا‭. ‬أما‭ ‬النص‭ ‬فهو‭ ‬تصور‭ ‬لمستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬المؤلف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬تصورات‭ ‬المستقبل‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يشبع‭ ‬الوضع‭ ‬القائم‭ ‬نقدًا‭ ‬جذريًّا‭ ‬وبعد‭ ‬تحليله‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬مثالبه‭ - ‬تحليلًا‭ ‬عميقًا‭. ‬وهنا‭ ‬يبدو‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يكشف‭ ‬الهوة‭ ‬الواسعة‭ ‬بين‭ ‬أفكاره‭ ‬النقدية‭ ‬الجذرية‭ ‬وبين‭ ‬الأوضاع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عليها‭ ‬الثقافة‭ ‬والتعليم‭ ‬في‭ ‬بلده‭ ‬أولًا،‭ ‬ويضيف‭ ‬إليها‭ ‬تطلعاته‭ ‬إلى‭ ‬مستقبل‭ ‬نقيض‭ ‬ومضيء‭ ‬ثانيًا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أشبع‭ ‬مجتمعاته‭ ‬التقليدية‭ ‬نقدًا‭ ‬وصدامًا‭ ‬واختلافًا‭. ‬ولذلك‭ ‬استعار‭ ‬أبيات‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬ووضعها‭ ‬فاتحة‭ ‬للكتاب‭ ‬أو‭ ‬عتبة‭ ‬له،‭ ‬لكي‭ ‬يستعيد‭ ‬القارئ‭ ‬صدام‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الدائم‭ ‬مع‭ ‬المجتمع‭ ‬التقليدي،‭ ‬كما‭ ‬يستعيد‭ ‬سعي‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الدؤوب‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يستبدل‭ ‬بالمجتمع‭ ‬التقليدي‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭ ‬مجتمعًا‭ ‬حديثًا،‭ ‬ترفرف‭ ‬فوقه‭ ‬أعلام‭ ‬التقدم‭ ‬والتحديث‭ ‬والاستنارة،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬شعارات‭ ‬الحرية‭ ‬والعقلانية‭ ‬والعدل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وكل‭ ‬معاني‭ ‬المواطنة‭ ‬التي‭ ‬تتناقض‭ ‬مع‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬البالية‭ ‬والأفكار‭ ‬الدينية‭ ‬القديمة‭ ‬الجامدة،‭ ‬وكل‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬التقليدي‭ ‬في‭ ‬رفضها‭ ‬التغير‭ ‬والتجديد‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فهي‭ ‬تسأل‭ ‬أمثال‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬عمّا‭ ‬يحركها‭ ‬من‭ ‬سكونها‭ ‬وما‭ ‬يدفعها‭ ‬صوب‭ ‬المستقبل‭. ‬ولهذا‭ ‬تكاثرت‭ ‬الأسئلة‭ ‬على‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وأمثاله،‭ ‬عن‭ ‬تصورهم‭ ‬لمستقبل‭ ‬الدولة‭ ‬المستقلة‭ ‬وآفاق‭ ‬حريتها‭ ‬وطموحها‭.‬

وهنا‭ ‬يعود‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بذاكرته‭ ‬إلى‭ ‬السنوات‭ ‬القاسية‭ ‬من‭ ‬حياته‭. ‬وهي‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬وضع‭ ‬فيها‭ ‬المجتمع‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬موضع‭ ‬المحاكمة‭ ‬القضائية‭ ‬عقابًا‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أعلنه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‮»‬‭ ‬من‭ ‬منهج‭ ‬جديد‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬استقلال‭ ‬العلم‭ ‬عن‭ ‬الدين،‭ ‬وإلى‭ ‬تحكيم‭ ‬قواعد‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬منهج‭ ‬الدرس‭ ‬الأدبي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬من‭ ‬التحرر‭ ‬الكامل‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬المعرقلة‭ ‬لمجرى‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬تطوره‭ ‬باسم‭ ‬دين‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬تحرير‭ ‬العقل‭ ‬وتحرير‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬ولذلك‭ ‬يتخيل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يملي‭ ‬الكتاب،‭ ‬علاقته‭ ‬بمجتمعه‭ ‬الذي‭ ‬رفضه‭ ‬رفضًا‭ ‬قاسيًا‭ ‬عام‭ ‬1926،‭ ‬عندما‭ ‬فرغ‭ ‬من‭ ‬إملاء‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬حورب‭ ‬حربًا‭ ‬قاسية‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الرحمة،‭ ‬فاضطر‭ ‬صاحبه‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬كتابته‭ ‬واضعًا‭ ‬فصلًا‭ ‬أوليًّا‭ ‬يتحدث‭ ‬فيه‭ ‬عما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتوافر‭ ‬لمناهج‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬واستقلال‭ ‬عن‭ ‬الأفكار‭ ‬السائدة‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬فرغت‭ ‬أزمة‭ ‬‮«‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1926‭ ‬بصدور‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الجاهلي‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1927‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬الأزمات،‭ ‬فجاءت‭ ‬أزمة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬مع‭ ‬البرلمان‭ ‬إبان‭ ‬وزارة‭ ‬حلمي‭ ‬عيسى‭ ‬باشا‭ ‬وزير‭ ‬المعارف‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يهدأ‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فُصل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬الجامعة،‭ ‬فظل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬خارج‭ ‬الجامعة‭ ‬طوال‭ ‬زمن‭ ‬حكومة‭ ‬إسماعيل‭ ‬صدقي‭ ‬باشا،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬وزارة‭ ‬إسماعيل‭ ‬صدقي‭ ‬باشا‭ ‬ومجيء‭ ‬وزارة‭ ‬محمد‭ ‬توفيق‭ ‬نسيم‭ ‬للمرة‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬14‭ ‬نوفمبر‭ ‬1934،‭ ‬وهي‭ ‬الوزارة‭ ‬التي‭ ‬أعادت‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬معززًا‭ ‬مكرمًا‭. ‬فعاد‭ ‬إلى‭ ‬طلابه‭ ‬وإلى‭ ‬أبحاثه‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬إصدارها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نجحت‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬بعام‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬توقيع‭ ‬معاهدة‭ ‬1936‭ ‬مع‭ ‬بريطانيا،‭ ‬واستكمالها‭ ‬بمعاهدة‭ ‬مونترو‭ ‬التي‭ ‬استكملت‭ ‬مصر‭ ‬بها‭ ‬الاستقلال‭ ‬والسيادة‭ ‬الذاتية‭. ‬وعندئذ‭ ‬جاء‭ ‬الكثيرون‭ ‬يسألون‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬عن‭ ‬مستقبل‭ ‬التعليم‭ ‬والثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬فأجابهم‭ ‬بصراحته‭ ‬القاسية‭ ‬وبشجاعته‭ ‬وبجرأته‭ ‬المذهلة،‭ ‬غير‭ ‬آبهٍ‭ ‬بسخط‭ ‬الساخطين‭ ‬أو‭ ‬غضب‭ ‬الغاضبين‭ ‬أو‭ ‬نقمة‭ ‬الأزهريين‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭. ‬ولذلك‭ ‬يُحدِّث‭ ‬القارئين‭ ‬لكتابه‭ ‬بما‭ ‬يوجهه‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬امرأة‭ ‬خيالية‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشبه‭  ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬كثيرة،‭ ‬أولها‭ ‬عمى‭ ‬البصر‭ ‬وليس‭ ‬عمى‭ ‬البصيرة،‭ ‬وثانيها‭ ‬الاعتداد‭ ‬بالعقل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يأبه‭ ‬بالنقل‭ ‬أو‭ ‬التقليد،‭ ‬وثالثها‭ ‬الشجاعة‭ ‬في‭ ‬إبداء‭ ‬الرأي‭ ‬وعدم‭ ‬الاعتداد‭ ‬بسخط‭ ‬الساخطين‭. ‬

 

معارك‭ ‬وصدامات

لذلك‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬أبيات‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬ليجعلها‭ ‬مفتتحًا‭ ‬لهذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أنه‭ ‬مطالب‭ ‬بإبداء‭ ‬الرأي‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يمانع‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يبديه‭ ‬رغم‭ ‬قسوته،‭ ‬ورغم‭ ‬معرفته‭ ‬بأن‭ ‬مجتمعه‭ ‬لن‭ ‬يتحمل‭ ‬شجاعة‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬أو‭ ‬جذريته‭. ‬وماذا‭ ‬يفعل‭ ‬المسؤول‭ ‬إلا‭ ‬إجابة‭ ‬السؤال؟‭ ‬وماذا‭ ‬يملك‭ ‬السائل‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يقنع‭ ‬بالإجابة‭. ‬وحسبه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المسؤول‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬خلاف‭ ‬وعدم‭ ‬توافق؟‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬المسؤول‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬للسائل‭ ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬رغم‭ ‬علمه‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬نسبيا‭ ‬ككل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬وإن‭ ‬إجابته‭ ‬لن‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬عوج‭ ‬أو‭ ‬نقص،‭ ‬فما‭ ‬على‭ ‬السائل‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يسأل‭ ‬وما‭ ‬على‭ ‬المسؤول‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يجيب‭.‬

ويأتي‭ ‬البيت‭ ‬الثاني‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬الخلاف‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬الهوة‭ ‬بين‭ ‬السائل‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬مفردًا‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬الجمع،‭ ‬وبين‭ ‬المسؤول‭ ‬الذي‭ ‬يظل‭ ‬فردًا‭ ‬له‭ ‬تميزه‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬هذا‭ ‬التميز‭ ‬من‭ ‬شجاعة‭ ‬وعدم‭ ‬تردد‭ ‬في‭ ‬خوض‭ ‬المعارك‭ ‬والصدام‭. ‬هكذا‭ ‬تبدو‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السائل‭ ‬والمسؤول‭ ‬علاقة‭ ‬طريفة،‭ ‬فهي‭ ‬علاقة‭ ‬تَباعد‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬علاقة‭ ‬تقارب،‭ ‬ولكن‭ ‬الوضع‭ ‬الجديد‭ ‬يدفع‭ ‬السائل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يسأل‭ ‬ويفرض‭ ‬على‭ ‬المسؤول‭ ‬أن‭ ‬يجيب‭ ‬رغم‭ ‬تباعد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬اللذين‭ ‬يمر‭ ‬كلاهما‭ ‬بموقف‭ ‬حاسم‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الأمة،‭ ‬وفي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬التحول‭ ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬استبدال‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬خير‭ ‬بالذي‭ ‬هو‭ ‬أدنى،‭ ‬أو‭ ‬استبدال‭ ‬العلم‭ ‬بالجهل،‭ ‬أو‭ ‬التخلف‭ ‬بالتقدم‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬المسؤول‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬معددًا‭ ‬كل‭ ‬السلبيات‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬موضوع‭ ‬السؤال،‭ ‬وهو‭ ‬التعليم‭ ‬والثقافة‭. ‬فيتحدث‭ ‬عن‭ ‬تكدس‭ ‬الفصول‭ ‬بالطلاب‭ ‬في‭ ‬التعليم،‭ ‬وعن‭ ‬انقسام‭ ‬هذا‭ ‬التعليم‭ ‬إلى‭ ‬قسمين‭ ‬متباعدين‭ ‬أولهما‭ ‬الديني،‭ ‬والثاني‭ ‬المدني‭. ‬ولا‭ ‬ينسى‭ ‬التنبيه‭ ‬على‭ ‬خطورة‭ ‬ذلك،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬الثنائية‭ ‬الضدية‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬على‭ ‬الهوة‭ ‬الفاصلة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬التعليم‭ ‬المدني‭ ‬والديني‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬تعدد‭ ‬هويات‭ ‬التعليم‭ ‬المدني‭ ‬الخاص‭ ‬وتعدد‭ ‬جنسياته‭ ‬ولغاته‭ ‬ومُلّاكه‭ ‬بما‭ ‬يؤكد‭ ‬احتمال‭ ‬الخطر‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬للطالب‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنقسم‭ ‬وتتعدد‭ ‬أو‭ ‬تتجزأ‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬هويات‭ ‬متصارعة‭.‬

وإذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬الضدية‭ ‬التي‭ ‬تُقارب‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تُباعد‭ ‬بين‭ ‬السائل‭ ‬والمسؤول،‭ ‬فإننا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬بالقدر‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬ثنائيات‭ ‬ضدية‭ ‬أخرى،‭ ‬موازية‭ ‬للثنائيات‭ ‬الأولى‭. ‬أعني‭ ‬الثنائية‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬المدنية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الحديثة،‭ ‬والدولة‭ ‬الاستبدادية‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬فقهاء‭ ‬السلطان‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬على‭ ‬امتداحها‭ ‬واستبقائها‭ ‬دون‭ ‬اعتبار‭ ‬لفسادها‭ ‬أو‭ ‬لظلمها‭ ‬لجماهير‭ ‬الأمة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬مصالحها‭ ‬ومغانمها‭ ‬التي‭ ‬تغدق‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬فقهاء‭ ‬السلطان‭ ‬هؤلاء‭. ‬وإذا‭ ‬انتقل‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬عتبة‭ ‬النص‭ ‬–‭ ‬حيث‭ ‬أبيات‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ - ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬النص،‭ ‬واجهته‭ ‬ثنائيات‭ ‬أخرى‭ ‬متضادة‭ ‬بين‭ ‬ماض‭ ‬آفل‭ ‬وحاضر‭ ‬يندفع‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬وبين‭ ‬نزعة‭ ‬دينية‭ ‬محافظة‭ ‬وجامدة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬نزعة‭ ‬عقلانية‭ ‬منفتحة‭ ‬ومتطلعة‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬وواجهته‭ ‬أيضًا‭ ‬ثنائية‭ ‬موازية‭ ‬بين‭ ‬تعليم‭ ‬يراد‭ ‬منه‭ ‬تكريس‭ ‬النقل‭ ‬والتقليد،‭ ‬وتعليم‭ ‬نقيض‭ ‬يراد‭ ‬منه‭ ‬تطوير‭ ‬العقل‭ ‬وتعليمه‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬عقلًا‭ ‬نقديًّا‭ ‬ووعيًا‭ ‬خلاقًا‭ ‬للمساءلة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يجد‭ ‬ثنائية‭ ‬ضدية‭ ‬مقابلة‭ ‬بين‭ ‬ثقافة‭ ‬منغلقة‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬منكفئة‭ ‬على‭ ‬ماضيها،‭ ‬مقابل‭ ‬ثقافة‭ ‬أخرى‭ ‬منفتحة‭ ‬على‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬متطلعة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المتحرك‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬التقدم‭. ‬

وهنا‭ ‬يدرك‭ ‬القارئ‭ ‬للكتاب‭ ‬الفارق‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ثقافة‭ ‬الاستبداد‭ ‬وثقافة‭ ‬الحرية،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الثقافة‭ ‬الدينية‭ ‬بجمودها‭ ‬النقلي‭ ‬والثقافة‭ ‬المدنية‭ ‬بانفتاحها‭ ‬العقلاني،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الإبداع‭ ‬والابتداع‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬ولا‭ ‬يتوقف‭ ‬متن‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب،‭ ‬فهو‭ ‬ينتقل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الجوانب‭ ‬المحلية‭ ‬والوطنية‭ ‬للثقافة‭ ‬والجوانب‭ ‬القومية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬فيفهم‭ ‬معنى‭ ‬إيمان‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بأن‭ ‬الثقافة‭ ‬المصرية‭ ‬وطنية‭ ‬محلية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬عهد‭ ‬الفراعنة‭ ‬ولا‭ ‬تنتهي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الراهن‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬كونها‭ ‬ثقافة‭ ‬عربية‭ ‬قومية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬جميعًا،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬هي‭ ‬ثقافة‭ ‬إنسانية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬بني‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬–‭ ‬بفعل‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬الحديثة‭ ‬وثورة‭ ‬تكنولوﭽياتها‭- ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬كونية‭ ‬صغيرة‭ ‬يتبادل‭ ‬أبناؤها‭ ‬معرفة‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الثواني‭ ‬لا‭ ‬الدقائق‭. ‬

 

كتاب‭ ‬مستقبلي

والحق‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬مستقبلي‭ ‬بكل‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة‭. ‬ولا‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها‭ ‬منذ‭ ‬ثمانين‭ ‬عامًا‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬هي‭ ‬المشكلات‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تعانيها‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬ثمانين‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬صدور‭ ‬الكتاب‭. ‬وليس‭ ‬لهذا‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬سوى‭ ‬أننا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬التجدد‭ ‬والتطور‭ ‬والتغير،‭ ‬فكل‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬تحدَّث‭ ‬عنها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬والثقافة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬موجودة‭ ‬كما‭ ‬هى،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬الوضع‭ ‬أسوأ،‭ ‬فها‭ ‬نحن‭ ‬نعاني‭ ‬تزايد‭ ‬الأمية،‭ ‬وضعف‭ ‬التعليم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يلازمه‭ ‬من‭ ‬تكدس‭ ‬الفصول‭ ‬المكتظة‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُحتمل‭ ‬من‭ ‬أعداد‭ ‬الطلاب‭. ‬كما‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نزال‭ ‬نفتقد‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬الفكرية،‭ ‬ونعاني‭ ‬مخاطر‭ ‬الاستبداد‭ ‬وتأثيراته‭ ‬السلبية‭ ‬والمدمرة‭ ‬لمجتمعاتنا‭ ‬العربية،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يوحدنا‭ ‬في‭ ‬الهم‭ ‬والظلم‭ ‬وغياب‭ ‬العدالة‭ ‬بكل‭ ‬أنواعها‭ ‬مع‭ ‬غياب‭ ‬الحرية‭ ‬بكل‭ ‬مستوياتها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مليء‭ ‬بالأخطاء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال‭ ‬واهتمام‭.‬

ولذلك‭ ‬كله‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬إنه‭ ‬كتاب‭ ‬معاصر‭ ‬بكل‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة،‭ ‬وإن‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬منذ‭ ‬ثمانين‭ ‬عامًا‭ ‬عن‭ ‬أوضاع‭ ‬الثقافة‭ ‬والتعليم‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يصف‭ ‬أحوال‭ ‬التعليم‭ ‬المعاصرة‭ ‬والثقافة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كله،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬فوارق‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬العرب،‭ ‬ولكنها‭ ‬فوارق‭ ‬كمية‭ ‬وليست‭ ‬كيفية،‭ ‬فكلنا‭ ‬في‭ ‬الهم‭ ‬شرق‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬فرغ‭ ‬من‭ ‬إملائه‭ ‬منذ‭ ‬ثمانين‭ ‬عامًا‭ ‬صالحًا‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬كتابًا‭ ‬معاصرًا‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬مشكلاتنا‭ ‬نحن‭ ‬العرب‭ ‬الفقراء‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والسودان‭ ‬وأمثالهما‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأعوام،‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬به‭ ‬صالحًا‭ ‬لعام‭ ‬1938‭ ‬الذي‭ ‬كُتب‭ ‬فيه‭.‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬فهو‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬فقد‭ ‬البصر،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يفقد‭ ‬البصيرة‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يرى‭ ‬أبعد‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬يراه‭ ‬معاصروه‭ ‬أو‭ ‬مُجايلوه،‭ ‬فقد‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كتابًا‭ ‬لمستقبل‭ ‬ثقافتنا‭ ‬نحن‭ ‬العرب‭ ‬المعاصرين‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يتحرروا‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬المشكلات‭ ‬والعقبات‭ ‬والأمراض‭ ‬وأنواع‭ ‬التخلف‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يعانون‭ ‬منها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬مصر‭ ‬منذ‭ ‬ثمانين‭ ‬عامًا‭ .