عن كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»

احتفلت مصر في العام الماضي بمرور ثمانين عامًا على كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي أصدر كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» سنة 1938. وكانت مصر قد فرغت من توقيع معاهدة 1936 التي منحتها الاستقلال بوصفها دولة مستقلة ذات سيادة، وأكملت مصر ذلك بتوقيع معاهدة مونترو في 19 أبريل عام 1937، (وقد دخلت المعاهدة حيز التنفيذ يوم 15 أكتوبر1937) وكان أهم أثر لهذه المعاهدة إلغاء نظام الامتيازات الأجنبية. وكانت تلك خطوة مهمة في طريق الاستقلال الوطني، الأمر الذي أهَّل مصر للالتحاق بعصبة الأمم المتحدة.
كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» هو كتاب للتربية والتعليم بالدرجة الأولى، ولكن مع ذلك فإنه كتاب يضع قضية التعليم ضمن قضايا الثقافة والهوية الوطنية، وينطلق الكتاب في تخيل مستقبل الثقافة في مصر بعد أن تحررت وأصبحت دولة مستقلة تبحث لنفسها عن مستقبل يعد بالكثير من الإنجازات، وهو الأمر الذي استلزم رؤية ثقافية ثاقبة وعميقة وشمولية للمستقبل. وقد تكاثرت الأسئلة على طه حسين حول هذا الموضوع، خصوصًا أنه كان يشغل منصب المستشار الفني لوزارة المعارف العمومية، وهو الأمر الذي دفعه إلى أن يجيب عن أسئلة السائلين أكثر من مرة. ولكن إجاباته لم تكن تشبع رغبات السائلين، فانتظر إلى أن ذهب في رحلته الصيفية إلى أوربا وتفرّغ لإملاء كتابه في هدوء سفوح جبال الألب في منطقة تقع ما بين فرنسا وإيطاليا، وهناك أملَى كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي يفتتحه بأبيات أبي العلاء المعري الذي يقول فيها:
خُذِي رَأيي وَحَسبُكِ ذاكَ مِنّي
عَلى ما فِيَّ مِن عِوَجٍ وَأَمتِ
وَماذا يَبتَغي الجُلَساءُ عِندي
أَرادوا مَنطِقي وَأَرَدتُ صَمتي؟!
وَيوجَدُ بَينَنا أَمَدٌ قَصِيٌّ
فَأَمّوا سَمتَهُم وَأَمَمتُ سَمتي
هوة واسعة
والحق أن هذه الأبيات تمثل بلغة النقد الأدبي الحداثي «عتبة النص». وهي بالفعل عتبة دالة تشير إشارة مزدوجة إلى النص في ذاته أولًا، وإلى قائل هذا النص وعلاقته بمجتمعه ثانيًا. أما النص فهو تصور لمستقبل الثقافة في مصر كما يراه المؤلف الذي لا يصل إلى تصورات المستقبل إلا بعد أن يشبع الوضع القائم نقدًا جذريًّا وبعد تحليله – من حيث مثالبه - تحليلًا عميقًا. وهنا يبدو طه حسين كما لو كان يكشف الهوة الواسعة بين أفكاره النقدية الجذرية وبين الأوضاع التي كانت عليها الثقافة والتعليم في بلده أولًا، ويضيف إليها تطلعاته إلى مستقبل نقيض ومضيء ثانيًا، بعد أن أشبع مجتمعاته التقليدية نقدًا وصدامًا واختلافًا. ولذلك استعار أبيات أبي العلاء المعري ووضعها فاتحة للكتاب أو عتبة له، لكي يستعيد القارئ صدام طه حسين الدائم مع المجتمع التقليدي، كما يستعيد سعي طه حسين الدؤوب على أن يستبدل بالمجتمع التقليدي الذي عاش فيه مجتمعًا حديثًا، ترفرف فوقه أعلام التقدم والتحديث والاستنارة، فضلًا عن شعارات الحرية والعقلانية والعدل الاجتماعي، وكل معاني المواطنة التي تتناقض مع العادات والتقاليد البالية والأفكار الدينية القديمة الجامدة، وكل مؤسسات المجتمع التقليدي في رفضها التغير والتجديد. ومع ذلك فهي تسأل أمثال طه حسين عمّا يحركها من سكونها وما يدفعها صوب المستقبل. ولهذا تكاثرت الأسئلة على طه حسين وأمثاله، عن تصورهم لمستقبل الدولة المستقلة وآفاق حريتها وطموحها.
وهنا يعود طه حسين بذاكرته إلى السنوات القاسية من حياته. وهي السنوات التي وضع فيها المجتمع طه حسين موضع المحاكمة القضائية عقابًا له على ما أعلنه في كتابه «في الشعر الجاهلي» من منهج جديد يفضي إلى استقلال العلم عن الدين، وإلى تحكيم قواعد العلم في منهج الدرس الأدبي على نحو من التحرر الكامل من القيود المعرقلة لمجرى العلم في تطوره باسم دين يهدف إلى تحرير العقل وتحرير الإنسان في الوقت نفسه. ولذلك يتخيل طه حسين قبل أن يملي الكتاب، علاقته بمجتمعه الذي رفضه رفضًا قاسيًا عام 1926، عندما فرغ من إملاء كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي حورب حربًا قاسية لا تعرف الرحمة، فاضطر صاحبه أن يعيد كتابته واضعًا فصلًا أوليًّا يتحدث فيه عما ينبغي أن يتوافر لمناهج البحث العلمي من حرية واستقلال عن الأفكار السائدة. وبعد أن فرغت أزمة «في الشعر الجاهلي» سنة 1926 بصدور كتاب «في الأدب الجاهلي» سنة 1927 لم تتوقف الأزمات، فجاءت أزمة طه حسين مع البرلمان إبان وزارة حلمي عيسى باشا وزير المعارف الذي لم يهدأ إلا بعد أن فُصل طه حسين من الجامعة، فظل طه حسين خارج الجامعة طوال زمن حكومة إسماعيل صدقي باشا، ولم يعد إلى الجامعة إلا بعد سقوط وزارة إسماعيل صدقي باشا ومجيء وزارة محمد توفيق نسيم للمرة الثالثة في 14 نوفمبر 1934، وهي الوزارة التي أعادت طه حسين إلى الجامعة معززًا مكرمًا. فعاد إلى طلابه وإلى أبحاثه التي لم يتوقف عن إصدارها إلى أن نجحت مصر بعد عودته إلى الجامعة بعام واحد في توقيع معاهدة 1936 مع بريطانيا، واستكمالها بمعاهدة مونترو التي استكملت مصر بها الاستقلال والسيادة الذاتية. وعندئذ جاء الكثيرون يسألون طه حسين عن مستقبل التعليم والثقافة في مصر، فأجابهم بصراحته القاسية وبشجاعته وبجرأته المذهلة، غير آبهٍ بسخط الساخطين أو غضب الغاضبين أو نقمة الأزهريين على وجه التحديد. ولذلك يُحدِّث القارئين لكتابه بما يوجهه في شخص امرأة خيالية على لسان شعر أبي العلاء المعري الذي كان يشبه طه حسين من وجوه كثيرة، أولها عمى البصر وليس عمى البصيرة، وثانيها الاعتداد بالعقل الذي لا يأبه بالنقل أو التقليد، وثالثها الشجاعة في إبداء الرأي وعدم الاعتداد بسخط الساخطين.
معارك وصدامات
لذلك لم يجد طه حسين أفضل من أبيات أبي العلاء المعري ليجعلها مفتتحًا لهذا الكتاب، مؤكدًا أنه مطالب بإبداء الرأي وهو لا يمانع في أن يبديه رغم قسوته، ورغم معرفته بأن مجتمعه لن يتحمل شجاعة هذا الرأي أو جذريته. وماذا يفعل المسؤول إلا إجابة السؤال؟ وماذا يملك السائل سوى أن يقنع بالإجابة. وحسبه في ذلك من المسؤول رغم كل ما بينهما من خلاف وعدم توافق؟ وليس على المسؤول سوى أن يقول للسائل ما عنده رغم علمه بأن ما يقوله نسبيا ككل شيء في هذه الحياة، وإن إجابته لن تخلو من عوج أو نقص، فما على السائل إلا أن يسأل وما على المسؤول إلا أن يجيب.
ويأتي البيت الثاني مشيرًا إلى الخلاف الذي يؤكد الهوة بين السائل الذي يبدو مفردًا في صيغة الجمع، وبين المسؤول الذي يظل فردًا له تميزه بكل ما يعنيه هذا التميز من شجاعة وعدم تردد في خوض المعارك والصدام. هكذا تبدو العلاقة بين السائل والمسؤول علاقة طريفة، فهي علاقة تَباعد أكثر منها علاقة تقارب، ولكن الوضع الجديد يدفع السائل إلى أن يسأل ويفرض على المسؤول أن يجيب رغم تباعد ما بين الطرفين اللذين يمر كلاهما بموقف حاسم من مواقف التحول في حياة الأمة، وفي حال من التحول الذي يفرض على الجميع استبدال الذي هو خير بالذي هو أدنى، أو استبدال العلم بالجهل، أو التخلف بالتقدم. وعلى هذا الأساس لا يتردد المسؤول في الإجابة معددًا كل السلبيات التي يراها على مستوى موضوع السؤال، وهو التعليم والثقافة. فيتحدث عن تكدس الفصول بالطلاب في التعليم، وعن انقسام هذا التعليم إلى قسمين متباعدين أولهما الديني، والثاني المدني. ولا ينسى التنبيه على خطورة ذلك، خصوصًا أن الثنائية الضدية لا تتوقف على الهوة الفاصلة ما بين التعليم المدني والديني فحسب، بل تمتد إلى تعدد هويات التعليم المدني الخاص وتعدد جنسياته ولغاته ومُلّاكه بما يؤكد احتمال الخطر على الهوية الوطنية للطالب التي يمكن أن تنقسم وتتعدد أو تتجزأ ما بين هويات متصارعة.
وإذا انتقلنا من هذه الثنائية الضدية التي تُقارب بقدر ما تُباعد بين السائل والمسؤول، فإننا يمكن أن نتحدث بالقدر نفسه عن ثنائيات ضدية أخرى، موازية للثنائيات الأولى. أعني الثنائية بين الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الحديثة، والدولة الاستبدادية التي تعتمد على استخدام فقهاء السلطان الذين يعملون على امتداحها واستبقائها دون اعتبار لفسادها أو لظلمها لجماهير الأمة في سبيل مصالحها ومغانمها التي تغدق منها على فقهاء السلطان هؤلاء. وإذا انتقل القارئ من عتبة النص – حيث أبيات أبي العلاء المعري - إلى داخل النص، واجهته ثنائيات أخرى متضادة بين ماض آفل وحاضر يندفع إلى الأمام، وبين نزعة دينية محافظة وجامدة في مقابل نزعة عقلانية منفتحة ومتطلعة إلى المستقبل، وواجهته أيضًا ثنائية موازية بين تعليم يراد منه تكريس النقل والتقليد، وتعليم نقيض يراد منه تطوير العقل وتعليمه كيف يكون عقلًا نقديًّا ووعيًا خلاقًا للمساءلة، وفي الوقت نفسه يجد ثنائية ضدية مقابلة بين ثقافة منغلقة على نفسها، منكفئة على ماضيها، مقابل ثقافة أخرى منفتحة على الدنيا من حولها، متطلعة إلى أن يكون لها مكان في العالم المتحرك إلى الأمام، العالم الذي لا يتوقف عن التقدم.
وهنا يدرك القارئ للكتاب الفارق ما بين ثقافة الاستبداد وثقافة الحرية، أو ما بين الثقافة الدينية بجمودها النقلي والثقافة المدنية بانفتاحها العقلاني، أو ما بين الإبداع والابتداع على السواء. ولا يتوقف متن الكتاب على ذلك فحسب، فهو ينتقل ما بين الجوانب المحلية والوطنية للثقافة والجوانب القومية والإنسانية، فيفهم معنى إيمان طه حسين بأن الثقافة المصرية وطنية محلية تبدأ من عهد الفراعنة ولا تنتهي في العصر الراهن إلى جانب كونها ثقافة عربية قومية تجمع بين العرب جميعًا، وأخيرًا هي ثقافة إنسانية تجمع بين بني الإنسان في الكرة الأرضية التي تحولت – بفعل وسائل الاتصال الحديثة وثورة تكنولوﭽياتها- إلى قرية كونية صغيرة يتبادل أبناؤها معرفة الأحداث في أقل عدد من الثواني لا الدقائق.
كتاب مستقبلي
والحق أن كتاب طه حسين بهذا المعنى، هو كتاب مستقبلي بكل معنى الكلمة. ولا أدل على ذلك من أن المشكلات التي كان يتحدث عنها منذ ثمانين عامًا لا تزال هي المشكلات نفسها التي تعانيها مصر بعد ثمانين عامًا على صدور الكتاب. وليس لهذا من معنى سوى أننا نعيش في بلد يتوقف عن التجدد والتطور والتغير، فكل المشكلات التي تحدَّث عنها طه حسين في التعليم والثقافة لا تزال موجودة كما هى، بل ربما كان الوضع أسوأ، فها نحن نعاني تزايد الأمية، وضعف التعليم بكل ما يلازمه من تكدس الفصول المكتظة بما لا يُحتمل من أعداد الطلاب. كما أننا لا نزال نفتقد إلى الحرية الفكرية، ونعاني مخاطر الاستبداد وتأثيراته السلبية والمدمرة لمجتمعاتنا العربية، وذلك على نحو يوحدنا في الهم والظلم وغياب العدالة بكل أنواعها مع غياب الحرية بكل مستوياتها في عالم مليء بالأخطاء في كل مجال واهتمام.
ولذلك كله نستطيع أن نقول عن كتاب طه حسين، إنه كتاب معاصر بكل معنى الكلمة، وإن ما قاله منذ ثمانين عامًا عن أوضاع الثقافة والتعليم في العالم العربي لا يزال يصف أحوال التعليم المعاصرة والثقافة القائمة على امتداد العالم العربي كله، قد تكون هناك فوارق بين هذا البلد أو ذاك من بلدان العرب، ولكنها فوارق كمية وليست كيفية، فكلنا في الهم شرق. وهذا ما يجعل من كتاب طه حسين الذي فرغ من إملائه منذ ثمانين عامًا صالحًا لأن يكون كتابًا معاصرًا يتحدث عن مشكلاتنا نحن العرب الفقراء في مصر والسودان وأمثالهما في المغرب العربي في هذه الأعوام، بالقدر الذي كان به صالحًا لعام 1938 الذي كُتب فيه.
رحم الله طه حسين، فهو إن كان قد فقد البصر، فإنه لم يفقد البصيرة التي جعلته يرى أبعد مما كان يراه معاصروه أو مُجايلوه، فقد ترك لنا كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وهو كتاب لا يزال يستحق أن يكون كتابًا لمستقبل ثقافتنا نحن العرب المعاصرين الذين لم يتحرروا بعد من كل المشكلات والعقبات والأمراض وأنواع التخلف التي كانوا يعانون منها، خصوصًا مصر منذ ثمانين عامًا .