«وُلدنا لنكون سعداء» رواية للمصالحة مع الذات والآخر

«وُلدنا لنكون سعداء» رواية للمصالحة مع الذات والآخر

«هناك دائما كتاب يخلّصك من اليأس»... عبارة لا يمل من ترديدها الروائي الفرنسي ليونيل دوروي في جل أعماله الأدبية التي غالًبا ما يستقي مادتها من تاريخ عائلته المليء بالمآسي والصدمات.
فبعد روايتي «الحزن» و«الغائب» وحصد العديد من الجوائز الأدبية؛ أبرزها جائزة بانيول، وجائزة مورياك، يقدّم لنا المؤلف رواية جديدة عن المصالحة؛ «ولدنا لنكون سعداء»، وقد صدرت عام 2019 عن دار النشر جيليار. 

لما يقارب سبعين عامًا، يقوم ليونيل دوروي بالضغط على دواسة دراجته كل عصر متجولًا في شوارع مونت فينتوكس، إنها طريقته الخاصة في استلهام أفكار مشاريع كتبه. كتب متناثرة يعج بها منزله، وصور بالأبيض والأسود تؤثث مكتبه، كاشفة لمن يدقق النظر فيها عن طفولة مؤلمة. 
تظهر إحدى الصور مجموعة من الأطفال يرتدون ملابس البحارة، جالسين على الأريكة بين والديهم.
يقول معلقًا: «انظروا إلى رأس والدي، كان يعلم أنه لم يدفع الإيجار لفترة طويلة، وأنه سيتم طردنا، ومع ذلك يبتسم أمام العدسة، يجلس بفخر بجانب زوجته وهو على حافة الجنون». هكذا يتحدث عن توتو، الأب الذي عمل ممثل مبيعات أحمق وغير مسؤول. 
لقد انتظر العديد من القراء حتى سنة 2010 لاكتشاف قصة عائلة دوروي، من خلال قراءة رواية «الحزن»، وهي عبارة عن سيرة ذاتية ضخمة، والتي تعدّ أكبر نجاحات المؤلف حتى يومنا هذا، لكن بداية الحكاية كانت منذ 30 سنة خلت، وبشكل تدريجي من كتاب إلى آخر، مسلطًا الضوء على العديد من الأزمات القاسية والصدمات المأسوية التي عاشتها هذه العائلة، بما في ذلك الكثير من الكراهية والاستياء بين الإخوة والأخوات، والتي عصفت بالجميع لمدة طويلة في حالة من الوقاحة المخجلة.
وطوال هذه العقود الثلاثة، تمت محاكاة هذه الأزمات في أعمال روائية، وبأسماء مستعارة، لتكشف تاريخ عائلته وكارثة طفولته. إن موضوع رواياته خطوة لم يفهمها إخوته وأخواته، لدرجة عدم التحدث معهم لسنوات عديدة. 
منذ روايته الأولى، «صلوا من أجلنا» نلمح عودة بانتظام وقسوة إلى آثار طفولة كارثية على حياته كرجل، في شكل من أشكال إعادة الخجل والعار، والتي اضطرت معها عائلته أخيرًا إلى التغلب عليها.

مائدة للمصالحة 
بعد مخاض عسير من الاتصالات والتنازلات، يقرر بول دونواير (الشخصية المحورية في الرواية) الاتفاق مع إخوته لعقد لقاء يلمّ شمل العائلة في يوم مشمش من أيام شهر أكتوبر لتناول وجبة الغذاء؛ إخوته التسعة، وأطفالهم، وحتى زوجتيه السابقتين كلهم لبّوا النداء، الشخص الوحيد المفقود هو الأخ الأكبر، المصمم على عدم مسامحة التاريخ الحافل للعائلة. 
لقد كانت هذه الوجبة الفريدة من نوعها فرصة مكنت المؤلف من إعادة بناء جميع الفصول الأساسية في حياة هذا الرجل، بفضل عمقه النفسي المعتاد وأناقة أسلوبه، مقدمًا للقارئ سردًا نابضًا بالحقيقة عن الروابط غير القابلة للتدمير حول الطفولة والمرونة والسلام الذي عُثر عليه أخيرًا.
حول المائدة، سوف يعيد بول تجميع كل أجزاء حياته وتحقيق السلام والسكينة مع نفسه كما مع الآخرين، نظرًا لأن النهاية تقترب بلا هوادة، ولأن روابط الدم أقوى، ويجب إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
في البداية، هناك اعتزاز قليل بالطريقة التي يفخر بها هذا المضيف، المهتم والخيّر، بالحصول على استسلام عائلته، كما استسلم لضرورة الكتابة باعتبارها السبيل الوحيد لإنقاذ نفسه من الذكريات الموجعة التي تطوقه مهما كانت العواقب.
يصور المؤلف تفاصيل اللقاء تصويرًا عاطفيًا دقيقًا، راصدًا الوجوه المضطربة لكل الحاضرين، وآملًا أن يرسي معهم جسور التاريخ المقطوعة ومع أطفالهم الذين أصبحوا بالغين، لكنهم حُرموا من فرحة النمو معًا. يعرّفهم بول بأبنائه وحفدته، الذين تم إهمالهم أيضًا، فمنذ خمسة وعشرين عامًا كتب حتى الآن خمس عشرة رواية على الطابع الحيوي للمهنة الأدبية التي شجبتها العائلة.
تكشف أغلب المقاطع النصية عن صدمة اللقاء والشعور بالإحراج بعد عدم التعرف إلى أبناء الإخوة والأخوات، عودة مفعمة بالوقار، وتشوق لردود الأفعال.
يستقبل بول أحد إخوته قائلًا: «إنه لمن دواعي سروري أن أراك مرة أخرى... دعنا نغادر هذا الماضي... اجتماعنا اليوم هو مشروع احتفال عائلي كبير».

دفن الأحقاد
إذا كان الخلاف قد نشب مبكرًا بدءًا بصراع بين طيش الأب وجنون الأم، ومرورًا بخلاف محتدم بينهما وبين الأبناء، وأخيرًا خصام بين الإخوة أنفسهم، فإن الوقت قد حان لدفن الماضي ودفن الأحقاد.
ففي السبعين من العمر، يكتشف دوروي (عالم الحفريات في الأحزان) السعادةَ في «وُلدنا لنكون سعداء»، حيث يروي كيف قام بتنسيق لمّ شمله مع إخوته وأخواته، على أمل أن يُدفن، تحت أشجار الزيتون، الأحقاد.
الكل يتأسف لما وقع وما ارتُكب من أخطاء فادحة وأعمال انتقامية، يُعرب الكل عن ندمهم لحرب دامت ثلاثين عامًا، مطالبين الصفح وبداية صفحة جديدة؛ «إننا الآن سعداء لما حققناه».
لقد اختبر في رؤيتهم عاطفة استيقظت من العطاء والألم في ذاكرتهم، لقد فعل الدهر فعلته. إنها روابط الدم الغامضة التي توحد وتفرّق في الآن نفسه. لقد كانت لبول حياته الخاصة، وأسرة صغيرة، وأسباب أخرى جعلته بعيدًا، والآن يفكر في جزء منه، في ذكريات الطفولة، في القصص القديمة، في دفن الأحقاد بمعية الجميع.
بول، هو واحد من الكتاب الذين شعروا بالحاجة إلى طرد الحقائق الثقيلة جدًا والتعبير عنها كتابة، طفولة أثقلتها هموم العائلة ومآسيها. فعند صدور روايته الأولى، شعر بقيود تكبّله، بيد أن الكتابة على مدار هذه السنوات ستسمح له بإفراغ معاناة هذا التخلي الجماعي وسوء الفهم وخيبة الأمل والحقد، وربما ستسمح له ببساطة بالبقاء على قيد الحياة، حتى يكون قادرًا على قلب بضع صفحات. 
يقول الكاتب على لسان بول: «نظمت حياتي حول الكتابة، أستطيع أن أقول اليوم إنني مصنوع من كتبي، إنهم أبنائي، إنهم أنقذوني؛ عندما كنت في العشرين من عمري لم أرَ لنفسي أي مستقبل، لقد قُضي عليّ قبل أن أبدأ بالعيش... فأي رجل سأكون اليوم لو أنني تخلّيت عن نشر رسالتي الأولى؟ وبأثر رجعي، أرى أن كل ما عندي من كتب يمثل صدى لحياتي ونفسي».
لقد سعى دوروي من خلال هذه الرواية إلى استعادة أدق التفاصيل وأصغرها؛ ضحك الأطفال، قسمات الوجوه، قصاصات من المحادثات... وقد سعى جاهدًا إلى القبض على هذه التفاصيل بوصفها مفاتيح قد تصلح ما أفسده الدهر ومعها سنستعيد سعادتنا المفقودة.
فبقلمه الرقيق يأخذنا إلى طاولة مأدبة من بين شخصياته، ويعطيها مكانًا كاملًا ويصبح بدوره متفرجًا ومستمعًا لمحاولة فهم الأسباب التي كانت لدى كل منهم. 
إنه بذلك يريد مرة أخرى إعادة تأليف رواية عائلية مرتبطة، يقول إن هذه الرواية أزعجته مرة أخرى، فعلى الرغم من أنها تندرج ضمن الكتابة التلقائية، فإنها أرهقته كثيرًا وهو بصدد إعادة ترتيب الأحداث من جديد، وإعادة بناء المعنى وفهمه. 
«لقد مكنني فعل الكتابة إلى تأكيد حقيقة وجودي، وأن أصالح نفسي، وأن أفك بعضًا من عُقدي التي لازمتني مدّة من الزمن، لقد وجدت هذه الطريقة ملائمة لإصلاح الروابط المكسورة، وهي بذلك تستحق كل هذا الإرهاق والانزعاج». 
يقدم دوروي، في هذه الرواية الحساسة والمثيرة للعواطف، قوة الروابط العائلية ومعها قوة الكتابة، التي تمتزج فيها العديد من العواطف: الكراهية والحقد والغيرة والاستياء والحب والسعادة والتسامح. إنها رواية مصالحة مع الذات ومع الآخر، كما تحمل في طياتها أفكارًا فلسفية وتصورات صوفية، وعمقًا في سبر أغوار النفس البشرية، وإعلاءً للقيم الإنسانية ■