التمويت الرقمي

التمويت الرقمي

 

الفكرة‭ ‬نفسها،‭ ‬وهي‭ ‬محاولة‭ ‬محاصرة‭ ‬انتشار‭ ‬الأخبار‭ ‬الكاذبة،‭ ‬تم‭ ‬اتخاذها‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬واتس‭ ‬أب‮»‬،‭ ‬عبر‭ ‬تقليص‭ ‬عدد‭ ‬المستهدفين‭ ‬في‭ ‬خاصية‭ ‬إعادة‭ ‬التوجيه‭ ‬التي‭ ‬تمكّن‭ ‬المستخدم‭ ‬من‭ ‬إرسال‭ ‬أو‭ ‬إعادة‭ ‬إرسال‭ ‬الرسالة‭ ‬نفسها‭ ‬لعشرات‭ ‬الأشخاص‭ ‬بضغطة‭ ‬زر‭ ‬واحدة‭.‬

هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬المتخذة‭ ‬في‭ ‬أشهر‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬لن‭ ‬تخرج‭ - ‬برأيي‭ ‬الشخصي‭ - ‬عن‭ ‬محاولة‭ ‬امتصاص‭ ‬غضب‭ ‬بعض‭ ‬المستخدمين‭ ‬الذين‭ ‬يحمّلون‭ ‬تلك‭ ‬المواقع‭ ‬وحدها‭ ‬مسؤولية‭ ‬الآثار‭ ‬السلبية‭ ‬المباشرة‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬الأخبار‭ ‬المزيفة‭ ‬وتمدّدها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحالات،‭ ‬لتتحول‭ ‬إلى‭ ‬أعمال‭ ‬عنف‭ ‬يقع‭ ‬ضحيتها‭ ‬الأبرياء‭ - ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬مثلًا‭ -‬،‭ ‬تلك‭ ‬المحاولة‭ ‬اليائسة‭ ‬لن‭ ‬تعالج‭ ‬جذور‭ ‬الأزمة‭ ‬العميقة،‭ ‬لكنها‭ - ‬على‭ ‬الأقل‭ - ‬ستضمن‭ ‬عدم‭ ‬حظر‭ ‬استخدام‭ ‬تلك‭ ‬التطبيقات‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬يصل‭ ‬تعداد‭ ‬سكانها‭ ‬إلى‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭.‬

إن‭ ‬عمق‭ ‬الأزمة‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬خبر‭ ‬صيغ‭ ‬بطريقة‭ ‬خبيثة،‭ ‬أو‭ ‬مقطع‭ ‬فيديو‭ ‬تم‭ ‬العبث‭ ‬فيه‭ ‬بحرفية‭ ‬عالية،‭ ‬لأنها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير،‭ ‬وذات‭ ‬أبعاد‭ ‬أخلاقية‭ ‬وثقافية‭ ‬وتعليمية‭... ‬إلخ،‭ ‬ولو‭ ‬تمعّنا‭ ‬فيها‭ ‬قليلاً‭ ‬لاكتشفنا‭ - ‬مثلًا‭ - ‬أن‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬مجرد‭ ‬فضاء‭ ‬رقمي‭ ‬فُتح‭ ‬للناس،‭ ‬وكلٌّ‭ ‬في‭ ‬إنائه‭ ‬يكتب،‭ ‬بعكس‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬التقليدية‭ (‬صحف‭ ‬ورقية،‭ ‬قنوات‭ ‬تلفزيونية‭) ‬التي‭ ‬تنقل‭/ ‬تصنع‭ ‬الأخبار‭ ‬وتنشرها‭ ‬وفق‭ ‬سياستها‭ ‬التحريرية‭ ‬الخاصة‭. ‬‮ ‬

من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬المستخدم‭ ‬لا‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يكتب‭ ‬فيه،‭ ‬وبعض‭ ‬الوقائع‭ ‬المتكررة‭ ‬تثبت‭ ‬ذلك،‭ ‬فمثلا‭ ‬تتكرّر‭ ‬الأخبار‭ ‬المزيفة‭ ‬نفسها،‭ ‬وردود‭ ‬الأفعال‭ ‬نفسها‭ ‬عشرات‭ ‬المرات،‭ ‬دون‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬نهايتها‭.‬

وأكثر‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬نظري‭ ‬هو‭ ‬تمويت‭ ‬المشاهير‭ ‬والشخصيات‭ ‬العامة‭ ‬رقميًّا‭ ‬رغمًا‭ ‬عنهم،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬مصدر‭ ‬القوة‭ ‬الخفية‭ ‬التي‭ ‬تُبقي‭ ‬خبر‭ ‬الوفاة‭ ‬المزعوم‭ ‬رائجًا،‭ ‬رغم‭ ‬تأكيد‭ ‬المرحوم‭ ‬الرقمي‭ ‬وجوده‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬الفعلية؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬رغبة‭ ‬متأججة‭ ‬للتصديق‭ ‬والعيش‭ ‬في‭ ‬وهْم‭ ‬الخبر‭ (‬الحصري‭ ‬والعاجل‭)‬،‭ ‬وسط‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬المهووسين‭ ‬بهذا‭ ‬الخبر‭ (‬الحصري‭ ‬والعاجل‭)‬؟

إن‭ ‬صلابة‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأخبار‭ ‬الكاذبة‭ ‬تعتمد،‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬على‭ ‬حيوية‭ ‬العقلية‭ ‬الناقدة،‭ ‬المتفحصة،‭ ‬المتأنية،‭ ‬وهذه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬البيئات‭ ‬الشفّافة،‭ ‬المنفتحة،‭ ‬الناضجة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬فيه‭ ‬اتخاذ‭ ‬بعض‭ ‬الإجراءات‭ ‬المقيّدة‭ ‬لانتشار‭ ‬الأخبار‭ ‬المزيفة،‭ ‬علينا‭ ‬التفكير‭ ‬جديًّا‭ ‬في‭ ‬تحصين‭ ‬عقولنا‭ ‬منها،‭ ‬لنكون‭ ‬نحن‭ ‬مَن‭ ‬يقتلها‭ ‬في‭ ‬مهدها،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬لا‭ ‬نمرّرها‭ ‬لغيرنا‭ ‬‭.