علاج الكرامة

علاج الكرامة

 في إطار الرعاية التلطيفية التي تقدم للمرضى في أيامهم الأخيرة، ابتدع الطبيب الكندي هارفي تشوشينفوف، نوعًا جديدًا من التدخل العلاجي النفسي، أطلق عليه علاج الكرامة، وهو في جزء منه عبارة عن مقابلات تجرى مع المرضى وتلقي الضوء على أهم إنجازاتهم في الحياة والوصايا التي يودون تركها للأجيال القادمة؛ وبعد تسجيل ما يقوله المرضى - بعد استئذانهم - يكتب المضمون ويراجع معهم ليضيفوا أو يحذفوا ما يريدون، لتتحول المقابلات في النهاية إلى وثائق قيِّمة تهدى لهم، ليتركوها بدورهم إلى أحبائهم كنوع من التذكار المحمل بالمشاعر والمعاني ودروس الحياة. وكثير من هذه الوثائق وضع بعد وفاة أصحابها على مواقع إلكترونية وعرض في حفلات زواج ومناسبات أخرى لإحياء ذكراهم.   

يرى تشوشينوف أن المرضى في المراحل المتقدمة يعانون ضعفًا عامًا وآلامًا مبرحة، ويفقدون السيطرة على حياتهم بفقدان القدرة على الحركة وممارسة الأنشطة اليومية الحميمية كالذهاب إلى دروة المياه والاستحمام وتغيير الملابس وربما تناول الطعام، فينتابهم شعور غير محبب بقلة الحيلة، وبأنهم قد أصبحوا عبئًا ثقيلًا على من حولهم. 
ويصابون من فرط حساسيتهم بالأسى والحزن والاكتئاب والشعور بعدم الجدوى والرغبة في الموت وسوى ذلك مما يهدد الكرامة، ذلك المصطلح المعقد متعدد الوجوه الذي يتضمن جوانب تقدير الذات واحترامها والاعتزاز بها. وأشارت دراسات إلى أن الشعور بفقدان الكرامة، والتضرر من الاعتماد على الآخرين مسؤول عن 57 و46 في المئة على التوالي من حالات الرغبة في الموت؛ بينما لا يكون الألم سببًا سوى بنسبة 5 في المئة. 
ولهذا كثيرًا ما ينجح هذا العلاج التلطيفي في التخفيف عن هؤلاء المرضى بصورة كبيرة ويساهم في رسم ابتسامات على وجوههم، وإشاعة نوع من الرضا والسرور والشعور بالفخر بتاريخ شخصي وسير ذاتية عاشوها بالفعل بكل ما فيها من تحديات، ثم كتبت ووثقت كما أرادوها بصورة تشرح محطات مهمة وأدوار حاسمة لعبوها وأثروا وتأثروا من خلالها، وكل ذلك يرد لهم اعتبارهم ويرسم شخصياتهم وصورهم الحقيقية التي طالما تمتعوا بها قبل أن تهاجمهم الأمراض وتنال منهم. 

بروتوكول صون الكرامة
تهدف الرعاية التلطيفية إلى صون كرامة المرضى وفقًا لنموذج علاجي خاص يضع في اعتباره الجوانب الجسدية، أي ما يعتري الجسد من وهن وألم؛ والجوانب المعنوية النفسية وما يحدث في نظام المعتقدات؛ والجوانب الاجتماعية المتعلقة بالمؤثرات الخارجية التي تنال من الكرامة. وعلى هذا، يراعي علاج الكرامة مستوى استقلالية المريض، ووعيه وقدراته المعرفية والوظيفية ومعاناته الجسدية والنفسية؛ ويحاول الحفاظ على استمرار شعوره بالذات، وتحديد دوره في الحياة، ومصادر شعوره بالفخر، والأمل والقدرة على اتخاذ القرار، ووجود الروح القتالية التي تساعده على تحمل الآلام والمعاناة. ويحاول المعالجون مساعدة المرضى على العيش في اللحظة الراهنة والبحث عن الراحة الروحية والدعم الاجتماعي.
وفي مقابلات علاج الكرامة يحرص الأطباء والمتطوعون على إظهار تعاطفهم مع المرضى إلى أقصى الحدود، ويهيئون لهم أجواء تحترم خصوصيتهم وتضمن لهم الراحة والأمان للحكي بحرية وبلا مقاطعة؛ كما يختارون الأوقات المناسبة وفقًا لما يحدده المرضى. ويتضمن بروتوكول المقابلة عديداً من الأسئلة، مثل: هل يمكن أن تخبرني بعض الشيء من تاريخ حياتك، ولاسيما تلك الأجزاء التي تتذكرها بصورة أوضح أو تعتقد أنها الأكثر أهمية بالنسبة لك؟ ومتى تشعر أنك حي بصورة أكبر؟ وهل هناك أمور تريد لعائلتك أن تعرفها عنك، وهل من أمور تريد أن يتذكروها؟ وما الأدوار المهمة التي لعبتها في الحياة، سواء على الصعيد العائلي أو المهني، أو على صعيد خدمة المجتمع، أو سوى ذلك؟ وما سبب أهميتها من وجهة نظرك؟ وما الذي أنجزته من خلال هذه الأدوار في اعتقادك؟ وما أهم إنجازاتك، وما الذي يشعرك بالفخر أكثر من سواه؟ وهل هناك أشياء تشعر بأنك لا تزال بحاجة إلى قولها لمن تحبك، أو أشياء تريد أن تستغرق وقتًا لتعيد قولها مرة أخرى؟ وما أمنياتك وأحلامك لمن تحب؟ وما الدروس التي تعلمتها من الحياة مما تحب أن تتركه للآخرين؟ وما النصيحة أو الوصية التي تتمنى أن تتركها للأشخاص المهمين في حياتك؛ أولاد، زوج، أم، أب، وآخرين؟ وهل هناك كلمات أو إرشادات تحب أن توجهها لعائلتك للمساعدة في إعدادهم للمستقبل؟ وهل هناك ما تود إضافته لهذا السجل؟ 
كما يوجد عديد من الاستبيانات التي تهدف لاستطلاع وضع المرضى من جميع الجوانب لعمل ما يمكن لتوفير الرعاية. ومن بين الأسئلة: هل هناك ما يمكن عمله لتشعر بالراحة؟ وهل أنت مرتاح؟ وكيف تتأقلم مع ما يحدث لك؟ وهل هناك ما تود معرفته بخصوص مرضك؟ وهل جعلك المرض معتمدًا على الآخرين؟ وهل أنت قادر على اتخاذ قراراتك الشخصية أو الطبية؟ وهل تجد صعوبة في التفكير؟ وما مدى قدرتك على الاعتماد على نفسك؟ 
وفي ضوء الإجابات يوجه مقدمو الرعاية البوصلة نحو إجراءات تصون الكرامة كأن يستأذنوا المريض قبل لمس جسده؛ ويعرفوا الأشخاص المقربين منه؛ ويسألوه عن المعاملة التي يمكن أن تنال من شعوره بفقدان الكرامة حتى يتجنبوها، ويبددوا شعوره بكونه عبئًا على الآخرين. وردًا على الأسئلة ينسج المرضى حكاياتهم المؤثرة بحلوها ومرها فيعبِّرون عن أنفسهم، ويؤدي هذا التعبير عن الذات إلى تحسن معنوياتهم، بينما يتعلم مقدمو الرعاية ومَن يجرون المقابلات دروسًا قيمة في الحياة، فيدركون بعمق نعمة الحياة ويتبينون كم هي قصيرة ويحرصون على عيش كل لحظة فيها برضا وشكران. فالحياة في نهاية المطاف - كما يصفها شوشينوف - كرحلة طيرن يبدأ الإقلاع بالميلاد، ولابد أن يأتي وقت للهبوط، ومهمتنا أن نجعل الهبوط آمنًا. 
وعلى الصعيد المهني، لابد أنهم يدركون مغزى مقولة أفلاطون الواردة في كتاب شوشينوف: «علاج الكرامة، كلمات أخيرة في أيام أخيرة» - الصادر عن جامعة أوكسفورد - الذي يقول فيه: «إن أكبر خطأ في علاج الأمراض أن يكون هناك طبيب للجسد، وطبيب للنفس، في الوقت الذي لا يمكن فيه فصل الجسد عن النفس».
 
العلاج للجميع
في تصوري، ينبغي ألا يقتصر علاج الكرامة على المرضى في آخر العمر؛ بل يعمم ليشمل جميع المرضى، وربما بعض الأصحاء جسديًا، لأن من بينهم سليم الجسد معتل النفس والكرامة. فيحتاج جميع المعرضين للإذلال والمهمشين والمعزولين ممن لا تتاح لهم فرص المشاركة في الحياة، مثلًا، إلى علاج كرامة.  
وحتى في حالات الشعور المؤقت بالذل أو الفشل أو الإحباط العابر الذي يمكن أن نمر به جميعًا، نحتاج لمداواة كرامتنا وعلاج أنفسنا بأنفسنا بأن نستعرض مسيرة الإنجازات التي مشيناها وكلمات التقدير والإعجاب التي سمعناها، ونتذكر أشخاصا يساندوننا ثم نكتب ذلك في ملف نحتفظ به ونعيد قراءته في حالات «الهبوط» المعنوي، وإذا جاء يوم مغادرتنا الحياة - بعد عمر طويل - يبقى ما كتبنا إرثًا يمكن أن يلهم قارئيه. 
وعلى أرض الواقع، يمكن أن يبدأ علاج الكرامة من تحالف دولي يتشكل يدعى جامعة الكرامة world dignity University بقيادة إيفيلين ليندنر (ألمانية مقيمة في النرويج وحاصلة على الدكتوراه في الطب وعلم النفس الاجتماعي ومعروفة باهتمامها بدراسات الكرامة الإنسانية والإذلال)، وذلك من خلال مبادرة أطلقت في مطلع عام 2011 بجامعة أوسلو. وتسعى ليندنر، التي عاشت في مصر في الثمانينيات وزارتها مؤخرًا، لكسب مناصرين من الباحثين والمعلمين والناشطين والمتخصصين في مختلف المجالات من جميع أنحاء العالم من أجل جلب مفهوم الكرامة للتعليم محليًا ودوليًا.

العلاج التلطيفي يساهم في رسم الابتسامة وإشاعة نوع من الرضا والسرور والشعور بالفخر بين المرضى