ما السر وراء رواج الوجبات السريعة؟

ما السر وراء رواج  الوجبات السريعة؟

على الرغم من التحذيرات المستمرة من مخاطر الوجبات السريعة، ومن أنها تؤدي إلى سوء التغذية، ورغم وجود عديد من الدراسات تؤكد ارتباط سوء التغذية بمشكلات القلب وارتفاع ضغط الدم ومجموعة كبيرة من الأمراض الصحية الأخرى، وعلى الرغم من الإدراك العام حديثًا بأن تناول الوجبات السريعة له علاقة أيضًا بزيادة الاكتئاب، فإننا ما زلنا نتناول تلك الوجبات باستمرار، ونساهم في رواجها في جميع أنحاء العالم، حيث أصبحت تطغى على كثير من الوجبات الصحية المحلية لكل بلد. 

لكن السؤال الذي يبرز هنا: ما هو السر وراء رواج أطعمة مثل الهامبورغر والبيتزا ورقائق البطاطا المقلية والحلويات الدسمة؟ ما الذي يعطيها هذه الشعبية الشاملة؟ وأين تكمن جاذبيتها التي لا تقاوَم؟ قد يعود الجواب جزئيًا إلى ضعف الإرادة لدى عديد من البشر وتكلفتها المنخفضة، مقارنة بالأطعمة الصحية الأخرى وسهولة توافرها، لكن، بالتأكيد هناك أسباب أعمق من ذلك بكثير.

جذور الميل إلى تناولها
من منظور تطوري، قد يكون هناك حيرة حول سبب رغبة البشر في اتّباع سلوك غير صحي، مثل تناول الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية والغنية بالسكر، خاصة أن معظم الناس يعرفون أنها تؤذي القلب والشرايين وسائر أعضاء الجسم.
وفي دراسة متأنية لتاريخنا التطوري يمكن العثور على إجابة قد تفسّر هذه الحيرة، فعلى الرغم من أن مسار التطور يقول إنه عادة ما يتم التخلص من السلوك غير الصحي بشكل عام عبر الوقت، لأن الناس الذين يتّبعون مثل هذا السلوك لا يعيشون طويلاً، ولا يتكاثرون بالطريقة نفسها كالناس الأصحاء، فإنه في مرحلة من مراحل التاريخ، كانت الوجبة ذات السعرات الحرارية العالية ضرورية لبقاء الإنسان ولتحقيقه النجاح. ويعود السبب وراء ذلك إلى أنه في وقت مبكر من تاريخ البشرية، كان على البشر أن يشقوا من أجل تأمين غذائهم، وأن يصطادوا الحيوانات بأدوات بدائية، وأن تنجب نساؤهم أطفالهم من دون تخدير للحفاظ على تكاثرهم، وأن يكونوا تحت عديد من حالات الإجهاد العالي، لذلك كان تناول كميات كبيرة من السعرات الحرارية يساعد البشر للحصول على طاقة إضافية لدعم كل هذه الأنشطة التي كانت تتطلب مجهودًا كبيرًا. 
من ناحية أخرى، يقول عالما الأنثروبولوجيا وليام ليونارد سنودغراس، ومارسيا روبرتسون، إنه «مقارنة بالحيوانات والثدييات الأخرى القريبة من الأحجام البشرية، يخصص البشر جزءًا كبيرًا من مخزونهم ​​اليومي للطاقة لتغذية أدمغتهم». ويضيفان أن الكمية الكبيرة غير المتناسبة من الطاقة التي تستخدمها أدمغتنا تؤثر على احتياجاتنا الغذائية، مما يؤدي إلى الحاجة إلى أغذية أكثر كثافة في الطاقة والدهون من سائر الحيوانات الأخرى. 
كما أن البشر مبرمجون لاختيار الأطعمة الأكثر حلاوة، لأنها تعزز احتياطيات الطاقة لديهم، إذ تزيد مادة الفركتوز من قدرتهم على تخزين الدهون. 
وعندما كان تواتر الوجبات غير متناسق - ومازال، في بعض أجزاء العالم - يوفّر هذا المخزون الاحتياطي من الدهون طبقة حماية للجسم البشري، خاصة في فصل الشتاء التي من دونها قد يتعرّض للموت في أيام البرد القارس. ومن وجهة نظر تطورية، قد يكون ذلك أسوأ شيء يمكن أن يحدث للإنسان، لذلك، مع مرور الوقت، ترسّخت في العقول معادلة بسيطة: الدهون والسكر = البقاء على قيد الحياة.
 
جذب الناس نحو الأطعمة السريعة 
لكن بعيدًا عن ذلك المنظور التطوري، هناك حقائق علمية تدور في الغالب حول كيفية تفاعل الدماغ البشري مع الوجبات السريعة. فقد قضى ستيفن ويثرلي، وهو عالم في مجال الأغذية، السنوات العشرين الماضية في دراسة عمّا يجعل أطعمة معيّنة أكثر لذة وإمتاعًا من غيرها.
واعتبرت أطروحته العميقة التي قدّمها، أول دراسة جدية في هذا الموضوع، بعد البحث الرائد الذي قام به المحامي الفرنسي، جان سافارين، في عام 1825، الذي كتب مقالة عن الطعام وفلسفته سميت بـ «فسيولوجية المذاق»، التي كانت تحتوي على أفكار وتأملات في معنى الذوق، ومتعة الطعام، وفن الطهي والقهوة والشوكولاتة، حتى أنها تضمنت أول وصف لمذاق «أومامي» أو (ما سمّي بـ osmazome)، الموجود في اللحوم والأسماك والخضراوات ومشتقات الحليب.  
ووفقًا لويثرلي، عندما نأكل الأطعمة الدهنية، أو المستحلبة، أو السكرية، تطلق أدمغتنا مادة الدوبامين، وهي مادة كيميائية في الدماغ متعلّقة بالتعلم والتجارب الجديدة، وإذا أحببنا ما نتذوقه يطلق دماغنا أيضًا مواد أفيونية وأخرى كيميائية تعطينا الشعور بالاستمتاع. وتعمل هذه المواد الكيميائية معًا لكي تدربنا أساسًا على تكرار هذه التجربة الممتعة.
هذا إضافة إلى أن هناك مجموعة من العوامل التي يستخدمها العلماء ومصنّعو الأغذية لجعل الطعام أكثر إدمانًا. أولاً، هناك ما يسمى بالتباين الديناميكي الذي يشير إلى اختبار مزيج من الأحاسيس المختلفة في تناول الطعام نفسه، فعلى حد تعبير ويثرلي، تحتوي الأطعمة ذات التباين الديناميكي على «قشرة طعام مقرمشة صالحة للأكل، تتبعها مادة ناعمة أو كريمية ومليئة بالمركبات التي تعطي مستويات عالية من المذاق وتضفي طعمًا مميزًا»، وتنطبق هذه القاعدة على مجموعة متنوعة من الأطعمة المفضلة لدينا، مثل شريحة من البيتزا أو البسكويت المحشو بالشوكولا، التي يجد الدماغ في مضغها تجربة مميزة ومثيرة للغاية.

استجابة اللعاب
ثانيًا، هناك الإحساس بتناول الطعام، وهذا يشمل مذاقه مثل (مالح، حلو، مر... إلخ)، ورائحته وكيف يكون ملمسه داخل الفم، حيث يمكن أن يكون هذا الإحساس الأخير - المعروف باسم orosensation - ذا أهمية خاصة، لا سيما لدى شركات الأغذية التي تنفق ملايين الدولارات لاكتشاف المستوى الأعلى من القرمشة في رقائق البطاطس، أو الدرجة الأنسب من الفوران في المشروبات الغازية، مثلاً.
وثالثًا، هناك استجابة اللعاب الذي هو جزء مهم من تجربة تناول الطعام، حيث إنه كلما ساهم الطعام في إسالة اللعاب، غطى حليمات التذوق أو المستقبلات الذوقية على اللسان، وبالتالي زاد الإحساس والاستمتاع به داخل الفم. 
فعلى سبيل المثال، تعمل الأطعمة المستحلبة، مثل الزبدة والشوكولاتة وصلصة السلطة والآيس كريم والمايونيز، على تعزيز استجابة اللعاب التي تساعد على تلميع حليمات التذوق، وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل كثيرًا من الناس يستمتعون بالأطعمة التي تحتوي على الصلصات أو التزجيج عليها. والنتيجة هي أن الأطعمة التي تعزز إفراز اللعاب تفعّل الدماغ وحاسة التذوق بطريقة إيجابية أفضل من تلك التي لا تقوم بذلك.  أما رابعًا، فهناك أمر يؤدي إلى الانجذاب السريع للأغذية، وهو تلاشي كثافة السعرات الحرارية، أي أن الأطعمة التي تتلاشى بسرعة أو «تذوب في الفم» تعطي إشارة إلى العقل أن الشخص لا يأكل بقدر ما يتناوله في الواقع.
بعبارة أخرى، هذه الأطعمة تخبر العقل حرفيًا بأن الشخص الذي يتناول هذه الأطعمة غير ممتلئ، حتى وإن كان يتناول الكثير من السعرات الحرارية، وبذلك تكون النتيجة الميل إلى الإفراط في تناول الطعام. 

نقطة النعيم
أخيرًا، يسعى مصنّعو الأغذية إلى التوصل إلى تحقيق ما يسمى بـ «نقطة النعيم»، وتقول أستاذة علوم الأغذية في ولاية يوتاه، كارين ألن: «إن نقطة النعيم هي النقطة الوحيدة التي نجد فيها التوازن الصحيح بين المكونات الثلاثة الأساسية التي تتشوق إليها أجسامنا». 
بمعنى آخر، إنها نسبة دقيقة، أو تركيبة، أو تركيز بعض العناصر الغذائية التي يكون الجسم مبرمجًا للبحث عنها، وهي الدهون والملح والسكر، (والتي كانت أساسية للبقاء في أوقات ما قبل التاريخ)، والتي إذا ما اجتمعت معًا في طعام واحد وبطريقة معيّنة تعمل معًا بشكل تآزري، حيث تجعل الطعام أكثر إمتاعًا، وكما يقول البعض، أكثر إدمانًا من أي واحد من العناصر الغذائية وحدها.
يحتوي كل من براعم التذوق الفردية التي يبلغ عددها 10000 على مستقبلات خاصة للدهون والملح والسكر التي ترتبط بمنطقة متعة الدماغ، وترسل لنا إشارات، مثل: «هذا جيد! أنا بحاجة إليه! تناول المزيد منه!». 
مع كل هذه الحقائق عن عالم تصنيع الأغذية وجيوش علماء الأغذية الذين يعملون كل ما في وسعهم للتوصل إلى أفضل النكهات وأجمل الألوان وأفضل ملمس للأطعمة التي تخلق  أكبر قدر من الرغبة الشديدة والانجذاب اليها، إضافة إلى النوايا المتعمدة لتكتلات الأغذية الكبيرة لإنتاج أطعمة غير صحية، مسببة الإدمان عليها من أجل تحقيق مكاسب مالية أكبر، بغضّ النظر عن العواقب الصحية للمستهلكين، يبقى علينا نحن كمستهلكين أن ننقل أنفسنا من «نقطة النعيم»، التي فرضت علينا في الوجبات السريعة غير الصحية، إلى «نقطة التحرر» منها، والتوجه نحو تناول أطـعـمـة صـحيّة أكثر.