بعد المأساة: ما ينبغي.. ومالا ينبغي! غازي القصيبي

بعد المأساة: ما ينبغي.. ومالا ينبغي!

"كتب- هـذا المقال في خريف سنـة 1990، في ذروة مأساة الاحتلال، وحالت الظروف دون نشره في ذلك الوقت ولعل ذكرى العدوان الثالثة هي أفضل المناسبات لنشره، كي لا ننسى.. وكي لا نشط ".

لا ينبغي للغزو الذي قام به مغامر واحد بحثا عن البترول والعظمة عبر ما تصوره نزهة عسكرية في بلد صغير، لا ينبغي لهذا الغزو أن يثير في أذهاننا، نحن أبناء الأسرة الخليجية، أسئلة مدمرة تقودنا إلى إجابات مدمرة في حلقة مفرغة من تساؤلات الضياع والدمار.

لا ينبغي لهذا الغزو، بادئ ذي بدء أن يقودنا إلى التساؤل عن حكمة موقفنا السابق في دعم العراق أثناء حربه مع إيران، ولا إلى عض بنان الندم على هذا الموقف. يقول لنا التاريخ إن الثورة تلجأ عادة، وخاصة في سنواتها الأولى، إلى "تصدير الثورة" كإجراء دفاعي ضد خطر حقيقي أو موهوم. ويقول لنا التاريخ إن جيران الدولة الثورية عادة ما يجتمعون ويتحالفون لدرء خطر الثورة المصدرة، حصل هذا مع الثورة الفرنسية، ومع الثورة الروسية،! ومع الثورة النازية، ومع الثورة المصرية، ومع الثورة الإيرانية. كانت المواقف الإيرانية في "تصدير الثورة" تتماشى مع القوانين السياسية للثورات، وكان رد الفعل الخليجي يتماشى مع القوانين نفسها. عبر التاريخ، كانت معظم الحروب، وأكاد أقول كلها، نزاعا بين طرف يريد تغيير الوضع الراهن وطرف يريد الحفاظ عليه، عندما كانت إيران هي الطرف الراكب في التغير الثوري، برزت العراق كدولة محافظة على الأوضاع القائمة. وكان من الطبيعي، لا بل كان من المحتوم، أن تنضوي دول الخليج تحت لواء الطرف الذي يقف مع الأوضاع القائمة، ذلك أن زوالها يهدد كيان هذه الدول بالزوال. وعندما انعكست الأوضاع، وتحولت العراق إلى دولة تريد نسف الأوضاع القائمة، وتحولت إيران إلى دولة راغبة في بقاء الأوضاع القائمة، كان لا بد أن تنعكس التحالفات. كان منطلقنا القديم نابعا من القوانين السياسية الحديدية، ومنطلقنا الجديد نابع من القوانين نفسها، وفي الحالين لا يوجد مبرر للحسرة أو الندم.

صدام وتبديد البلايين

ولا ينبغي للغزو أن يزج بنا في متاهات فكرية عن العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية التي نبع منها قرار الغزو، فقد كفانا الغزاة أنفسهم مئونة هذا العناء. قال سعدون حمادي أمام نظرائه من الوزراء العرب في القاهرة بُعيد الغزو إن الأزمة الاقتصادية الطاحنة في العراق كانت سبب الغزو. وقال طارق عزيز، بدوره، لوزراء الخارجية العرب إن "تقاعس" الخليج، والكويت بالذات، عن حل مشكلة العراق المالية كان السبب الذي دفع العراق إلى احتلال الكويت. وفي اجتماعه مع السفيرة الأمريكية في بغداد إبريل جلاسبي قبل الغزو بأيام ركز صدام حسين على مشاكله الاقتصادية.

ومادام الدافع في أذهان مرتكبي الجريمة أنفسهم بهذا القدر من الوضوح.. والجلاء، فمن العبث أن نبحث عنه في آراء المفكرين ونظريات المثقفين. إن الحديث عن ديالكتيكية البادية/ المدينة حديث مفيد وشائق، ولكن لا علاقة له بهذا الغزو الذي تم لأن حاكما بدد البلايين في حرب مدمرة رأى من المناسب أن يسترجعها باحتلال سهل. مشكلة المثقف، عادة أنه يتجاهل السبب الواضح البسيط ويبحث عن أسباب خفية معقدة، لأنه يتصور أنه من العار أن يؤمن العالم المثقف بسبب بسيط شأنه شأن الأمي الجاهل.

ولا ينبغي للغزو أن يدفعنا إلى التساؤل عن "الأخطاء" التي ارتكبتها الكويت، وارتكبناها معها، فيما يخص "مطالب" العراق، ذلك لأنه، وبكل وضوح، لم يكن ثمة خطأ واحد من جانب الكويت، أو من جـانبنا. لم تكن الكويت مسئولة عن تبديد صدام حسين ثلاثمائة بليون دولار في حربه مع إيران، وهي الحرب ذاتها التي خاضتها إيران بملايينها الخمسين من دون أن تقترض دولارا واحدا، ولم تكن الكويت المسئولة عن انتشاله من ورطته. ولم يكن للعراق مطلب بترولي واحد عادل، ولو كان هناك مطلب كهذا لما تراخى العراق عشر سنين قبل ذكره. وليس من حق العراق أن يطالب الكويت بجزرها، وإلا لبدأنا سابقة خطيرة وهي مطالبة من لا جزر له بجزر الآخرين. إن النظام الذي ارتضاه المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأمم المتحدة يقوم على أساس أنه لا يجوز تغيير الحدود بين الدول بالقوة، وبانهيار هذا المبدأ تنهار الحضارة كما نعرفها اليوم. لا تكاد توجد دولة واحدة في العالم كله لا يوجد لديها نوع من الخلاف مع جاراتها على الحدود. كيف سوف يكون حال عالمنا لو سمحنا لكل دولة أن تغير حدودها على النحو الذي تريده، بالقوة العسكرية، من جانب واحد؟

وإذا كان الغزو الصدامي لا ينبغي أن يثير أسئلة مدمرة عن الماضي، فلا ينبغي، من باب أولى، أن يثير أسئلة مدمرة عن المستقبل. وأهم هذه الأسئلة يتعلق. بموقفنا من قضية فلسطين. هذا السؤال لا يستحق أن يسأل فضلا عن أن يجاب عنه. إن موقفنا من قضية فلسطين لم يكن من صنع صدام حسين لكي يدمره تصرف من صنع صدام حسين. وموقفنا من قضية فلسطين لم يكن من تدبير ياسر عرفات لتغيره سياسة جديدة من ياسر عرفات، موقفنا من قضية فلسطين مرتبط ارتباطا جذريا بحقيقة كوننا عربا مسلمين نؤمن بقيم الحق ونصرة المظلوم. إن غدر صدام حسين بالكويت ليس إذنا لأحد ليغدر بفلسطين. وإن انتهازية ياسر عرفات مع قضيتنا ليست تصريحا لأحد بأن يكون انتهازيا مع القضية الفلسطينية. وهذا الموقف من شعب فلسطين يجب أن يكون موقفنا نفسه من الشعوب التي وقف زعماؤها مع صدام حسين. "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، ونحن الذين نعتز بانتمائنا إلى الإسلام يجب أن نعتز بتطبيق هذا المبدأ. لقد كان القرآن الكريم أول من أعلن هذا المبدأ العظيم، ويجب أن نكون نحن آخر من يتخلى عنه.

و"دوافع" الذين أيدوا صدام حسين لا ينبغي أن تكون هاجسنا الوحيد وشغلنا الشاغل. من الواضح، لي على أية حال، أنه يمكن تقسيم أنصار صدام حسين إلى ثلاث فئات: "المتـواطئين" و"المنفعلين" و"المزايدين". أما عن "المتواطئين "، وجميعهم من الزعماء لا الشعوب، فقد أوضح الرئيس المصري حسني مبارك كل ما يمكن إيضاحه بشأنهم: ابتداء من مجلس "التآمر" العربي، وانتهاء بالدفعات النقدية التي حصل عليها كل متواطئ قبل الغزو بأيام قليلة. ومن الطبيعي أن أي حوار مع المتواطئين مضيعة للوقت الثمين. أما الفئة الثانية، "المنفعلون"، فتشمل أبناء الشارع الفلسطيني الذين دفعهم الإحباط إلى الوقوف مع "عدو عدوهم " ظالما كان أو مظلوما. وقبل أن نستغرب هذا الموقف من الأشقاء الفلسطينيين، يجب أن نتذكر النشوة الجامحة التي أصابت عددا من "المفكرين" في الخليج، عندما تحدث صدام حسين عن "حرق نصف إسرائيل". حاولت، عبثا، إقناع عدد من هؤلاء "المفكرين"، وقتها، أن صدام حسين لا يملك طاقة تدميرية كهذه، ولو كان يملكها لاستخدمها ضد إيران، ولا ينوي استخدامها ضد إسرائيل حتى لو كان يملكها لأنه يعرف أن رد الفعل سوف يكون "حرق كل العراق". وإذا كان من الصعب إقناع بعض "مفكري" الخليـج أن صدام حسين لم يكن يعني ما يقوله، فهل ثمة أمل في إقناع لاجئ فلسطيني. لاجئ فقد كل شيء، سوى ذلك الحلم الذي لا يموت، في الانتصار على عدوه؟ بقيت فئة "المزايدين" ، وهم زعماء الشارع "الأصولي" ، والمزايدون عليهم!، وكل هؤلاء لا يعنيهم من القضية سوى أنها ستقربهم إلى الحكم. لا يزال شجب "الامبريالية" شعارا يثر الحماسة ويلهب الجماهير، ولتذهب الكويت إلى مصيرها!

ولا ينبغي للغزو الصدامي أن يثير أي شبهة حول العلاقات الخليجية / الأمريكية. علاقة الخليج بالولايات المتحدة قائمة على عدد من المصالح المشتركة، أهمها وأقدمها المصلحة المتبادلة في اكتشاف النفط وإنتاجه وتوزيعه. عبر السنين، تجمعت عدة عوامل عمقت المصالح المشتركة. درس آلاف الطلبة الخليجيين في الولايات المتحدة، وجاء عشرات الآلات من الأمريكيين إلى الخليج عمالا فنيين وخبراء، وأقيمت مجتمعات صناعية عملاقة برءوس أموال خليجية أمريكية مشتركة، وكل هذا ينصب في نهر التقنية التي، تتيح لنا علاقتنا بالولايات المتحدة الحصول عليها. إلا أنه كانت هناك دائما نقطة توتر في العلاقات الخليجية الأمريكية وهي الدعم الأمريكي لإسرائيل. وصل التوتر، ذات يوم، حد الانفجار عندما أعلن الخليج الحظر البترولي على أمريكا (وقد كانت معركة لم يشترك فيها- ويـا لسخرية القدر- لا "العقيد" معمر القذافي ولا "المهيب" صدام حسين). لم تنكر دول الخليج يوما واحدا استياءها من الدعم الأمريكي لإسرائيل، ولم تكف يوما واحدا عن محاولة تغيير هذه السياسة. لم يكن هناك موقفان، موقف للاستهلاك المحلي، وموقف حقيقي وراء الكواليس.

لقد كان من قدري أن أحضر، بحكم العمل الرسمي، عددا من المباحثات التي أجراها الملك فهد ابن عبد العزيز مع الرئيس نيكسون، ومع الرئيس كارتر، وأن ألمّ بطرف من الاتصالات مع الرئيس ريجان. ليس من حقي أن أذيع ما ائتمنت عليه من أسرار. ولكني أحسب أنه من حقي أن أذيع أن عشر المباحثات كان يتعلق بالعلاقات الأمريكية السعودية الثنائية وتسعة أعشارها بمحاولات دائبة لإقناع الرؤساء الأمريكيين بعدالة القضية الفلسطينية. لقد أعلن أكثر من رئيس أمريكي أن موقف قادة المملكة من "الدولة الفلسطينية" في السر هو موقفهم في العلن، بخلاف عدد من زعماء الدول العربية. وما ينطبق على المملكة ينطبق على موقف شقيقاتها في مجلس التعاون.

إن الصداقة الخليجية الأمريكية القائمة على المصالح المشتركة ليست فضيحة نخاف أن تنتشر، كما أن الخلاف العميق بين الخليج وأمريكا ليس سرا نخشى أن يكتشف. كل من الصداقة والخلاف حقيقة، يعرفها الكبير والصغير، والقاصي والداني، ولا ينبغي للأزمة القائمة أن تغير شيئا لا من طبيعة الصداقة، ولا من طبيعة الخلاف.. وإذا كان موقفنا من الولايات المتحدة لم يتغير، ولا ينبغي أن يتغير، فإن موقفنا من "القواعد" و"الأحلاف" لم يتغير، ولا ينبغي أن يتغير. كل القواعد الأمريكية، بدون أي استثناء، كانت قواعد موجهة ضد الاتحاد السوفييتي، وكل الأحلاف الأمريكية، بدون أي استثناء، كانت أحلافا لتطويق الاتحاد السوفييتي. أما الآن، بعد أن زالت الحرب الباردة، وبدأ عهد جديد تجاوز الوفاق إلى الصداقة والمشاركة، فلمن تبنى القواعد، وضد من تعقد الأحلاف؟ إن الحديث عن قواعد عسكرية دائمة في الخليج ينتمي، في جملته وتفصيله، إلى فترة ما قبل سقوط سور برلين العظيم.

شعوب بريئة وحكام مثقلون بالذنب

لقد أسهبنا في الحديث عما لا ينبغي، ونود أن ننتهي بالحديث قليلا عما ينبغي. لقد قلنا إن موقفنا من الشعوب، وهي بريئة من الذنب، لا ينبغي أن يتغير. أما موقفنا من الحكام المثقلين بالذنوب، فلا بد أن يتغير.. والتغير المطلوب ليس عنيفا ولا جذريا. يكفي أن تكون شعاراتنا من الآن فصاعدا: "لا مجاملة علي حساب المصلحة الوطنية"، "رضوخ للابتزاز"، و"لا خضوع للمزايدة". وينبغي لنا، لضمان بقائنا على المدى البعيد، أن نسرع بتحويل مجلس التعاون الخليجي إلى كيان وحدوي في مضمونه، لا مسماه فحسب، ينبغي أن ندفع للزملاء البيروقراطيين إلى الحركة السريعة وتجاوز المرحلة التي ضاعت في نقاش بيزنطي عما يجوز توحيده في الخليج ومالا يجوز. لقد آن الأوان لوضع جدول زمني صارم يجعل الخليج سوقا مشتركة واحدة، على النمط الأوربي، وأن نبني لهذه السوق المشتركة من القوة الرادعة، اقتصاديا وتقنيا وعسكريا، ما يجعلها شوكة في حلق كل الطامعين. وينبغي لنا أن نطور مؤسساتنا الاجتماعية والسياسية والدستورية بما يتماشى مع متغيرات العصر وتطلعات الشعوب. إلا أن هذا التطوير يجب أن ينبع عن ديناميكية التغيير في مجتمعاتنا، لا من آراء حكماء " الإيكونومست"، أو فلاسفة "الواشنطن بوست". إن أي قرار يهم مجتمعاتنا وحدها، يجب أن يكون من شأن مجتمعاتنا وحدها.

وبعد! لقد دخلنا الأزمة رجالا، ونخرج منها، بعون الله، أكثر رجولة. ودخلناها عربا، ونخرج منها، بفضل الله، أغنى عروبة. وخضنا نارها مؤمنين، ونخرج منها، بمنة الله، أصدق إيمانا.

 

غازي القصيبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات