تمثلات النقد الثقافي في المسرح العربي

تمثلات النقد الثقافي  في المسرح العربي

تعزز المنجز النقدي العربي في مجال المسرح بسفر جديد للباحث المغربي الدكتور عادل القريب. يقع الكتاب الصادر حديثًا عن دائرة الثقافة والإعلام (الشارقة)، والمعنون بـ «تمثلات النقد الثقافي في المسرح العربي»، في 128 صفحة من القطع المتوسط، تتوزعه أربعة مباحث خصصت لقامات مسرحية عربية وغربية مديدة ساءلت الخطاب المسرحي من منظور النقد الثقافي، ومقدمة ضافية شملت تصور الكتاب، والاختيارات المنهجية المنتقاة، والجهاز المفهومي الموظف، علاوة على خاتمة احتوت على أهم الخلاصات المتوصل إليها.

يقف الباحث في هذا الكتاب عند المفاهيم والتصورات النظرية التي تسلح بها المسرحيون الغربيون، أمثال: «أرطو»، و«غروتوفسكي»، و«بريشت»، والمسرحيون العرب أمثال: رضوى عاشور، وخالد أمين، لتقويض المركزية الغربية التي اتخذت من الأشكال الأدبية عامة والمسرحية خاصة أداة لبسط مدها الإمبريالي على الشرق وغيره. لذلك بدا منافحًا عن الفعالية الإجرائية للنقد الثقافي، لاسيما في شقه ما بعد الاستعمار، لما أبان عنه من إمكانات تسعف في الكشف عن الدلالات الثاوية خلف الأنساق الجمالية المضمرة في الخطاب المسرحي نصًا وعرضًا.  
1 - في الحاجة إلى نقد المسرح ثقافيًا
يشكل الصرح النظري الذي بلوره «إدوارد سعيد» حول مفهوم الاستشراق أُسَّا حقيقيًا استند إليه الباحث لمساءلة التجارب النقدية المنتقاة، إذ ينطلق الكتاب في نظرنا من سؤال عام محموله: كيف تمثل النقد الغربي والعربي المسرح الشرقي ودراسته ثقافيًا؟ هكذا سيتوقف عند تجربة «أرطو»، الذي تنهض أطروحته على ضرورة تخليص المسرح من سلطة المكتوب، وإعطاء أهمية بالغة لجوانب أخرى غير اللغة، شكلت مصدر انجذاب عنده، ودفعته إلى دراسة المسرح الشرقي الذي كان في نظره دواءً لمرض غربي ظل يؤمن بالمركزية، ويُسوق لصورة مغلوطة عن الشرق. هذه الأفكار تركت آثارًا قوية لدى غيره ممن فكروا في إعادة الألق للمسرح، ومن بين هؤلاء «بريشت» و«غروتوفسكي».
إن لبنات النقد الثقافي عند «بريشت» تكمن في تقويض الأفكار والتصورات الأرسطية حول المسرح، وتقويض مفهوم البطولة التي مجدها المسرح الأرسطي. ولتحقيق هذه الأهداف نهل «بريشت» من روافد عدة، منها: المسرح الشرقي الذي اعتبره هو الآخر وسيلة لتحقيق عنصر المغايرة في الأشكال الفرجوية. وإذا كانت تصورات «أرطو» قد مهدت لتغريب «بريشت»، فإن «غروتوفسكي» في نظره قد عمل على تطوير ما يعرف بمسرح القسوة الذي بشر به «أرطو» نفسه، لاسيما أن «غروتوفسكي» ركز على الممثل وانتقد «أرطو» منهجيًا، وبهذا تكون منطلقات هؤلاء حسب الباحث قائمة على التكامل وليس القطيعة.
أما بالنسبة للنقاد العرب، فقد اختار مقاربة تجربتين مهمتين في مجال نقد المسرح ثقافيًا، يتعلق الأمر بـ«رضوى عاشور» و«خالد أمين». لم يزغ تصور رضوى عاشور عن تصورات الغربيين السابقين؛ لأنها حاولت هي الأخرى إبراز التعالي الغربي في مقابل انحطاط المسرح الشرقي متخذة من مسرحية «العاصفة» لشكسبير نموذجًا، وذلك من خلال الوقوف عند دلالة تسمية الشخصيات، والمقابلة بين الشخصيات الراقية والمنحطة، ولعل هذا ما يعرف عند الباحثة بالقراءة الطباقية القائمة على التقابل؛ وهي قراءة تسعف بدورها في الكشف عن النسق المضمر الثاوي خلف الجوانب الجمالية.
بعد هذا سينتقل إلى الحديث عن تجربة «خالد أمين» التي أعطاها أهمية أكثر، إذ وقف عند بعض مؤلفاته التي تعد مهمة في هذا المجال، وبيَّن كيف اعتبر المسرح فنًا عربيًا خالصًا، معللاً ذلك بوجود أشكال فرجوية موغلة في القدم (المسرح المصري الفرعوني أقدم من المسرح الإغريقي، التعزية، الحلقة...)، غير أن الباحث اختلف بشكل بَيِّنٍ مع أمين في هذا الطرح كما سنرى. لم يقف انتقاده لمشروعه عند سؤال تأصيل المسرح العربي وإرهاصاته فحسب، وإنما تعداه إلى مساءلة بعض المفاهيم، مثل مفهوم التناسج الذي يدعي خالد أمين أنه ابتكره ليستبدل به مفهوم الهجنة، محاولًا البحث عن تجليات التناسج في المسرح المغربي تحديدًا، خاصة في تجربة المسرحي المغربي «الطيب الصديقي» الذي غرف من روافد مسرحية عدة.

2- نقد النقد
لم يكتفِ مؤلف الكتاب بتوضيح تصورات النقاد الغربيين والعرب في مجال النقد الثقافي، ولم يكتفِ كذلك بإبراز قدرة المفاهيم التي نحتها رواد النقد الثقافي في الكشف عن الأنساق المضمرة، وتعرية ما اعترى الذات الغربية من أمراض جعلتها تنال من الشرق، بل تجاوز ذلك إلى مساءلة هذه التجارب نفسها، مبرزًا مكامن القصور والخلل فيها، خاصة عند «خالد أمين». فهو لا يشاطره الرأي في كون الأشكال الفرجوية ما قبل مسرحية وجدت عند العرب قبل الغرب، يقول: «على الرغم من كل الحجج التي يصوغها خالد أمين للقول بوجود دراما عربية قبل اللقاء بالغرب، إلا أننا نرى أن تلك الأشكال الدرامية لم تستطع أن تتطور بالطريقة التي تطورت بها الأشكال الدرامية الغربية».
أما فيما يخص مفهوم التناسج، فالباحث ينفي أن يكون خالد أمين أول من ابتكر هذا المفهوم، يقول في هذا الإطار: «وما يجب تأكيده هنا، هو أن مفهوم «تناسج ثقافات الفرجة» الذي بشر به خالد أمين في كتابه «المسرح ودراسات الفرجة» باعتباره مفهومًا جديدًا قد تم اجتراحه من لدن الناقد، إنما هو موجود لدى نقاد ما بعد الكولونيالية، خاصة هومي بابا، باسم «الضفيرة» وكذا «التناسج» نفسه، كما تناولته إريكا فيشر ليتشه بدقة أكبر، مركزة على الجانب المسرحي، ولاسيما الجانب الفرجوي منه، وهو ما يفند قول خالد أمين بأن «البحث المسرحي  لم ينتبه لهذا الجانب إطلاقًا». 
وبعد فحص دقيق لمشروع خالد أمين الذي يعد واحدًا من الذين طبقوا مفاهيم النقد الثقافي على الفن المسرحي في المغربي، يخلص الباحث إلى أنه مشروع يهيمن عليه الإطار النظري، ويرى أيضا أنه جمع بين نظريات ومفاهيم متعارضة من حيث منطلقاتها الفلسفية والابستمولوجية؛ وكل ذلك يشي بأن هذا المشروع لم يستنبت بعد مفاهيمه بالقدر الكافي في المنجز النقدي المعاصر.

3- نقدُ نَقدِ النقد
نلمس في هذا الكتاب إضافات نوعية متميزة، وإصغاءً متأنيًا لمختلف النظريات المسرحية التي ساءلها الباحث بنوع من التمحيص، بعيدًا عن النزعة الوثوقية التي تقدس الأشخاص، ولعل ما أشرنا إليه في المحور السابق لخير دليل. ومع ذلك، فإن «القريب» نفسه في نظرنا لم يسلم هو الآخر من بعض التناقضات التي وقع فيها من ذلك، مثلاً تأكيده على أن النقد الثقافي جاء «بديلاً عن البنيوية، ونظريات ما بعد البنيوية في تحليل الخطاب الأدبي»، ويقصد بنظريات ما بعد البنيوية: التفكيك، والتلقي، والتأويلية. يظهر من هذا الكلام أن الناقدَ ينافح أكثر من اللازم عن مشروع النقد الثقافي. فزمنيًا لا يمكن الجزم بأن النقد الثقافي جاء بديلاً للتفكيك، والتلقي، والتأويلية؛ لأن هذه النظريات ظهرت تقريبًا في العالم العربي بشكل متزامن مع النقد الثقافي خلال ثمانينيات القرن الماضي، ثم إن النقد الثقافي يستند في بعض مفاهيمه، وأدواته الإجرائية إلى العدة النظرية التي بلورها رواد هذه النظريات، خاصة ما يتصل بالكشف عن العناصر الصغرى / الدنيوية والبحث عن مقابل لها. صحيح أنه وضح بنوع من الدقة اللَّبس الحاصل بين النقد الثقافي والسوسيولجيا والماركسية نظرًا لما بينهما من تخوم، لكنه لم يوضح بالقدر الكافي اللبس الحاصل بين النقد الثقافي نفسه والنظريات المذكورة آنفًا.
إضافة إلى ذلك بدا لنا أنه يؤكد على وجود تكامل بين النظريات النقدية والمدارس المسرحية التي تطرق لها حينا، وينفي هذا الأمر حينا آخر. ففي مقدمة الكتاب يشير إلى أن النقد الثقافي جاء بديلا للبنيوية ولنظريات ما بعد البنيوية، لكن في ثنايا الكتاب نلمس أنه يدافع عن التكامل، إذ نرى معه أن: أرطو، وبريشت، وغروتوفسكي، كل واحد منهم انطلق من حيث انتهى الآخر ليطور مشروعه أو ينتقده. لذلك نرى أن الحديث عن مفهوم القطيعة الإبستمولوجية في مجال العلوم الإنسانية مستبعد.
أما فيما يخص الأشكال الفرجوية التقليدية التي انتقد فيها «خالد أمين»، فنحن نذهب إلى أن الباحثين معا لم يقدموا جديدًا في هذا الموضوع، إذ يكفي الرجوع إلى مؤلف المفكر المغربي عبدالله العروي «الأيديولوجية العربية المعاصرة»، خاصة في الشق الأخير من الكتاب للاطلاع على هذه الآراء بنوع من التفصيل، إذ حاول أن يبين الأسباب الحقيقية التي كانت عائقًا في  تطوير بعض إرهاصات المسرح لتصير فنا مسرحيًا متكامل الأركان. لقد عرف العرب أحداثًا مأساوية حول الخلافة خاصة في عهد الخلفاء الراشدين تشكل مادة دسمة لظهور المسرح الذي ارتبط لدى الإغريق بالمأساة، إلا أن هذه المأساة تم طمسها في نظر  «العروي» بشكل مقصود «لكي لا يتولد عن هذه الأحداث الدموية المؤلمة وعي مأساوي». لذلك تساءل في كتابه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» الذي أحدث ضجة كبيرة في ستينيات القرن الماضي أثناء حديثه عن المسرح والقصة والرواية، باعتبارها أجناسًا أدبية، قائلاً: «هل يمكن أن نكتب مأساة حقيقية في مجتمع لا يعرف، أو يحارب، الوعي المأساوي؟».

«راجع-ع-فلسطين» من المسرح الفلسطيني