الكلمة قبل الصورة أحيانًا معامل الترجمة عند أنيس عبيد
في ثقافتنا المعاصرة هناك ثلاثة رجال عملوا في مجال الترجمة، وربطوا بين الأدب والسينما وكتب الجيب، حيث تشابهت مسيرتهم بشكل واضح، وهم الثالث عمر عبدالعزيز أمين، المترجم المعروف الذي أسّس كتاب الجيب في عام 1936، ومن بعده مجلة «الاستديو»، والثاني حلمي مراد الذي أسس سلسلة «كتابي»، ثم «مطبوعات كتابي»، وهما من السلاسل التي وضعت حجر أساس المعرفة والثقافة الشعبية في العالم العربي.
أما الأول فهو أنيس عبيد، الذي صنع أهم مؤسسة عربية لترجــمة الأفلام الأجنبية، وجعل ملايين المشاهدين يرون الأفلام من أسفل، حيــث تطبـــــع التــــــرجمة الفورية للحوار على شريط الفيلم، مما ساعد ملايين البشر على فهم قصص الأفلام الأجنبية.
إنهم ثلاثة رجال عملوا بالترجمة على المستوى الشعبي، وأنشأوا المؤسسات الكبرى، اختفى بعضها، لكنهم - جميعًا - جمعوا في أعمالهم بين الأدب والسينما في المقام الأول.
هؤلاء الرجال لعبوا دورًا ثقافيًا عظيمًا، وأيضًا مارسوا أنشطتهم الكبرى من خلال مشروع كل منهم الخاص، ولايزال النور يسطع من هذه المؤسسات بقوة حتى الآن رغم رحيل أصحابها وتقلص نشاط المؤسسات نفسها.
وبالطبع، فإن أشهرهم عند الناس هو أنيس عبيد، الذي أخلص للسينما، لكن كل أصحاب الأسماء الأخرى كانت لهم ثقافتهم السينمائية، كمجال للمعرفة، فقد استوحى كتّاب السيناريو مئات الأفلام العربية المقتبسة من الأدب العالمي، المنشور في كتب الجيب، وأيضًا في ملخصات الروايات العالمية الموجودة في أكثر من مئة عدد من «كتابي»، بما يعني 1000 كتاب عالمي على الأقل.
فقد تابعت حلمي مراد عن قرب وهو يحضر فعاليات المهرجانات السينمائية، ورأيت كيف شغف بثقافة السينما والكلمة معًا، كما تابعت كيف ترك أنيس عبيد دراسته المتقدمة في علوم الهندسة، حين سافر إلى باريس أثناء الحرب العالمية الثانية، لأنه سرعان ما وقع في أسر السينما الساحرة.
نعم، مَن مِنا لم يقع في سحر السينما، وترك كافة ما تعلّمه ليعمل في خدمة الفن السابع؟ فالمهندس أنيس عبيد لم يعمل في السينما بشكل مباشر، لكنه واحد من رجال العالم القلائل الذين قاموا بتوصيل مفاهيم الأفلام إلى الملايين، يقرأون الترجمة،وهي صناعة بالغة الأهمية جعلت من السينما الناطقة فنًّا متاحًا لكل البشر، بعد أن انتهى عصر السينما الصامتة في الولايات المتحدة عام 1926، وكان الفيلم المصري الأول الناطق هو «أولاد الذوات» عام 1932.
الترجمان
في البداية، لم تكن هناك مشكلة، فالأفلام الناطقة المعروضة تذهب إلى الجمهور الذي يتكلم الإنجليزية، أو الفرنسية، ومن أجل جمهور سينما الدرجة الثانية والترسو، ظهر هناك من يسمى بالمرشد أو الترجمان، الذي يعلّق على المشاهد، وقد كان عمر هذه الظاهرة قصيرًا، ولابد من إيجاد الحل الحقيقي.
أنيس عبيد، المولود في القاهرة، ذهب إلى باريس لتحضير رسالة الماجستير في الهندسة، لكنه رأى التجربة المدهشة في استديوهات ومعامل الصوت والترجمة، فالأفلام المعروضة هناك قبل عام 1944، مترجمة إلى الفرنسية من لغات أخرى، أبرزها الإنجليزية والألمانية، وهنا استشف الشاب أن مستقبله يكمن في نقل التجربة إلى بلاده، وراح يتعلم على يدي واحد من الفرنسيين، تسلل إليه عن طريق لعب الشطرنج، وقرر أن يعلّمه المهنة، ونجح المهندس الشاب في ابتكار آلة بدائية تقوم بالعمل، وعن طريق الآلة الكاتبة صنع ابتكاره ليطبع باللغة العربية، إضافة إلى اللغات الأوربية.
في البداية، لم يكن الأمر سهلًا، لأنه مرتبط بالربح المادي المضمون، فإن مجموعة الموزعين الأجانب الذين كانوا يتولون أمور توزيع الأفلام الأجنبية في مصر كانت تهمهم زيادة عدد المشاهدين، باعتبار أن السينما صارت المتعة الكبرى لدى أغلب طوائف الشعب في النصف الأول من القرن العشرين، وبدأت التجربة مع أفلام روائية قصيرة، خاصة أفلام الرسوم المتحركة التي كانت تنتجها شركة مترو جولدن مايير، وما لبث أن صار عبيد موظفًا في شركة أسسها الموزعون الأجانب لشركات؛ منها مترو، وفوكس، وبارماونت، وورنر بروس في الولايات المتحدة، وجومون في فرنسا، وغيرها بإيطاليا، وصار يطور آلاته، بعد أن اختار أفلامًا مهمة وذات شعبية، منها فيلم «روميو وجولييت» الذي قام ببطولته ليسلي هيوارد، وأيضًا النسخة الأبيض والأسود من «ذهب مع الريح»، وبالطبع فيلم «لص بغداد»، الذي قام ببطولته سابو.
تجربة موازية
في تلك الفترة كان المخرج أحمد كامل مرسي قد عمل تجربة موازية بالغة الأهمية، حين أخرج الدبلجة العربية لعديد من الأفلام، منها فيلم «الأميرة والأقزام السبعة»، وفيلم «قسمت»، وتبعه في التجربة المخرج محمد عبدالجواد، مما يعني أن التجارب والمحاولات تدفع بعضها البعض، في فترة لم تكن الأفلام الأمريكية هي وحدها التي تتسيّد الساحة، بل كانت هناك أفلام كثيرة موجودة في دور العرض من فرنسا، وإيطاليا، والهند، وبريطانيا وكانت التجربة المصرية بالغة الثراء، فالترجمة كانت تتم غالبًا بلغتين، أولاهما العربية، ثم الفرنسية إذا كان الفيلم ناطقًا باللغة الإنجليزية.
في تلك الفترة كانت المدن المصرية كوزبوليتانية، لأسباب عدة، وكان الأجانب الموجودون بها يقرأون إحدى اللغات الثلاث، وكانت الأفلام المترجمة عن طريق معامل أنيس عبيد تصدر إلى المدن العربية في بيروت، ودمشق، وبغداد، وذلك قبل أن يتم إنشاء شركة «تترا فيلم» في لبنان، التي لم تستطع بالمرة الدخول في المنافسة، فاختفت كي تستمر شركة عبيد التي اتسع نشاطها بقوة بعد تأسيس التلفزيون العربي في القاهرة، وصارت هناك قناة تعرض الأفلام المستوردة من الخارج، خاصة من أوربا، والولايات المتحدة، لكن لماذا هذا التفوق وذلك الاستمرار اللافت للنظر؟
السبب الأول - بالطبع - هو الحس الثقافي للمترجم، فنحن لم نتحدث عن المترجمين الثلاثة في أول المقال عبثًا، وإنما لأن كلًّا منهم كان لديه اهتمام شديد باللغة العربية وبالثقافة العالمية، وفي الواقع الأدبي فإن كلا من عمر أمين، وحلمي مراد يقومان بترجمة أرقى الأدب العالمي إلى العربية، لتكتب الترجمة بلغة بسيطة، أقرب إلى لغة الصحافة، وتخلو تمامًا من ألفاظ اللهجات العامية.
وفي رأيي أن أنيس عبيد ما كان عليه أي لوم لو ترجم الحوار في الأفلام إلى العامية المصرية، وذلك أسوة بالحوار في الأفلام المصرية، لكنه ترجم الأفلام القادمة من كل اللغات بلغة عربية سليمة للغاية تحترم مشاعر المتفرج، خاصة أنه على المدى الطويل بدأت الأفلام الأجنبية تمتلئ بالسباب، والألفاظ السوقية، والغريب أن عبيد لم يأبه إلا إلى صوت ضميره، وثقافته، وتعامل مع نفسه كأنه يستكمل رسالة عمر أمين، لكن في مجال الترجمات الفيلمية.
لغة واحدة
شهدت شركة أنيس عبيد مراحل من الترجمات، وتطور الآليات المصنوعة في مصر، وتصديرها إلى الدول العربية المجاورة، إضافة إلى أن القانون كان يحتم عمل الترجمة على الأفلام حسب القرار الذي صدر في عام 1964، أما المرحلة الأهم فهو أن مصر قلَّ بها عدد الأجانب المقيمين، خاصة بعد عدوان يونيو 1967، وعلى استحياء، وبدرجات بطيئة، صارت الترجمات تتم بلغة واحدة فقط، هي اللغة العربية، وقد تميّزت الترجمات بأنها تنشر في سطر واحد أسفل الفيلم، وهو أمر لم يتغير إلا بعد أن ظهرت الشركات الأخرى، فصارت الترجمة تنتقل إلى سطرين أو أكثر، وقد التزمت الأجهزة بوضع الترجمة في أسفل الشريط، حتى لو تم طبعها على عناوين أخرى، ويبدو أن هذا كان يطابق سير العمل، أو لقدرات آلات الطبع التي تقوم بالعملية.
لذا، يعد أنيس عبيد من قادة التنوير الاجتماعي والثقافي في القرن العشرين، يشارك أقرانه في عمل التنوير الجماعي أو الجماهيري، ويبدو هذا في اللغة التي استخدمها في أعمال الترجمة، حيث ظل على عهده طوال سنوات النشاط يستخدم المفردات اللغوية نفسها، والكتابة الراقية، السهلة التي يتعلمها التلميذ في الفصل، دون الانزلاق إلى استخدام اللهجات المحلية وخاصة في مصر، وهي الأكثر شيوعًا في الوطن العربي، وحوّل كل الصياغات بكل اللهجات في ترجمات الأفلام إلى لغة واحدة، وذلك مثلما يحدث في الأدب العالمي المترجم، حيث لم يترجم مترجم عربي، وفق معلوماتنا، رواية عالمية إلى أي لهجة محلية لمنطقة دون غيرها.
المصطلح الشعبي
عرَّب المترجمون لدى الشركة، الترجمة، وكم رأينا في أفلام عدة اللهجات المتعددة للأشخاص، لكن في الترجمة لدينا اللغة الكلاسيكية، التقليدية، ويبدو ذلك واضحًا في فيلم «قصة الحي الغربي»، الذي أخرجه روبرت وايز عام 1961، حيث ينتمي أبطال الفيلم من الشباب إلى قوميات عديدة، ولهجات كثيرة، مما يضطر المترجم إلى استخدام المصطلح الشعبي، إلا أن توحيد لغة الترجمة يقي من الوقوع في خطأ التشويش، فالمتفرج العادي ليس متخصصًا في اللهجات، وكل ما يهمه هو معرفة ما تقوله شخصيات الفيلم، من أجل فهم وقائع القصة.
وفي فيلم «إلى أستاذي مع حبي»، المعروف لدينا باسم «مدرسة المشاغبين»، فإن الطلاب ينتمون إلى بيئات شعبية مختلفة، وقد ترجم أنيس جميع الأعمال المأخوذة عن ويليام شكسبير، ومنها الصياغات المتعددة المأخوذة عن «روميو وجولييت»، وكان في الغالب يتبع أسلوبه هو، ففي الفيلم الذي تم إنتاجه عام 1954، كان عبيد أمام نص مبسط للمسرحية المكتوبة شعرًا، بلغة إنجليزية قديمة، أما في «روميو وجولييت» الذي أخرجه فرانكو زيفيريللي عام 1967، فإن الحوار كان «شكسبيريّ» المنطوق، وأعدّ المترجم نصه الخاص من الترجمة.
وفي عام 1996، كان هناك نص ملتزم بالحوار الشعبي في أحياء فيرونا، لكن، مع الأسف، فإن النص الذي تم تصديره إلى المدن العربية كان مطبوعًا في لبنان، باعتبار أن آلية توزيع الأفلام تغيرت، وكانت النسخ تأتي إلى القاهرة مترجمة في لبنان، أو دبي، بما يعني انتقال الترجمة إلى أماكن أخرى.
أدوات خاصة
هذه الترجمات التي تنطق بحروف مختلفة لم نعتد عليها من قبل، مثل كتابة حرف الـ «جي» على أنه غين، أو كاف، ولم تظهر في مصر شركات لها قدرة على المنافسة، كما أن التلفزيونات المحلية صارت لها أدوات خاصة للترجمة، وبذلك تقلصت ظاهرة أنيس عبيد، رغم أنه في فترة التقلص كان أمام الشركة الفرصة الذهبية المتاحة لإحداث المزيد من التنوير عن طريق ترجمة الأفلام.
وأمام ظاهرة الترجمة الإلكترونية الجاهزة للأفلام على مواقع اليوتيوب، دخل آلاف الهواة إلى الترجمة، وقرأ المشاهد الترجمات الحقيقية البذيئة التي عفّ أنيس عبيد عن استخدامها طوال حياته، في فترة نطق أبطال الأفلام بأبشع عبارات السباب، التي كانت الرقابة تحذفها، ونحن نعلم أن عبيد كان يستخدم عبارات عربية صحراوية بالغة التهذيب، منها «تبًّا لك»، مما جعل البعض يشكّون في قوة الترجمة السينمائية، وقد أثار الأمر النقاش في أكثر من محفل، فهل من حق المترجم أن يحوّر العبارة، أو هل تكفي جملة «تبًّا لك» للتعبير عن حقيقة الشتيمة البالغة القذارة المنطوقة على الشاشة؟
وكما نلاحظ، فإن قوة حضور أنيس اقترنت بقوة وجود شركات الإنتاج والتوزيع الهوليوودية في القاهرة، وأيضًا البنايات السينمائية التي كانت الشركات تمتلكها أو تستأجرها، لكن ما لبثت هذه الظاهرة أن تلاشت، وظهرت كيانات جديدة، وصارت الدور تعرض الأفلام المحلية. وكان على الشركات الجديدة التي تعرض أفلامها في قاعات المولات أن تسلك سلوكًا مغايرًا.