العرب.. ودروس آب عامر ذياب التميمي

العرب.. ودروس آب

مرت ثلاث سنوات منذ أن قامت جحافل النظام العراقي باحتلال الكويت في ذلك اليوم الصيفي القاحل دون أن نلمس أن العرب قد تعلموا شيئا من ذلك الاحتلال البغيض.. المثقفون لم يجددوا من منطلقاتهم الفكرية ولا الجماهير هجرت الأصنام التي تعبدهـا.. وما زال الكثير من المثقفين والملايين من الجماهير يعتقدون أن المؤامرة العالمية تستهدفهم وتستهدف ثرواتهم ومقدراتهم..

العجيب في الأمر أن هناك العديد من المثقفين ومدعي الفكر من العرب، ومن بينهم كويتيون، يعتقدون جازمين أن ما حدث في الثاني من أغسطس (آب) 1990 ما هو إلا تنفيذ لمؤامرة عالمية نفذها النظام العراقي حسب ما خططت وبالحرف، ويستشهد هؤلاء بمجموعة من الأحداث المتفرقة والتي يرون فيها أنها سلسلة في سياق واحد يهدف للاستفادة من احتلال الكويت لضرب مصالح الأمة العربية وتحطيم قدراتها عن طريق ضرب القوة العسكرية العراقية وضرب الكيان الاقتصادي في العراق، وعندما يذكرون، بين ما يذكرون، مقابلة صدام حسين في أواخر يوليو (تموز) 1990 مع إبريل غلاسبي سفيرة الولايات المتحدة، يحسون بالنشوة والنصر وكأنهم أفحموك بدليل قاطع لا لبس فيه، وهنا يقولون إن ذلك اللقاء كان الضوء الأخضر لصدام حسين ليصدر أوامره لاحتلال الكويت، ويقولون: " ألم تذكر تلك السفيرة لصدام أن الولايات المتحدة لا تتدخل في الخلافات بين الدول العربية؟"، "أليس ذلك دليلا على التواطؤ والتحفيز على تنفيذ مشروع ضم الكويت، حتى يقع النظام العراقي بالفخ المنصوب ثم تكون هناك مبررات لضربه؟".

أوهام مستمرة

هؤلاء تخيلوا أن النظام العراقي قد بلغ في ذلك الصيف اللاهب من عام 1990 أوج قوته وأصبح يهدد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ومن ثم لا بد من مواجهته والقضاء عليه من خلال توريطه بمؤامرة احتلال الكويت، ولم يخطر على بال أي منهم أن العراق بعد حرب السنوات الثماني مع إيران قد أصبح منهكا اقتصاديا وتدهورت فيه الأحوال المعيشية وتراكمت فيه الديون حتى بلغت ثمانين بليون دولار أمريكي لا يستطيع مواجهة التزامات خدمتها نتيجة لعدم كفاية موارده المالية المتأتية من النفط مصدره الوحيد للعملة الصعبة. كذلك فإن الظروف الاقتصادية الناتجة عن تلك الحرب الطويلة قد أدت إلى تراجع القدرات والعجز عن استيعاب ذلك الكم الهائل من الأفراد والضباط الذين انخرطوا- مجبرين- في صفوف القوات المسلحة، في قنوات اقتصاد مدني متنام، وأمام تلك الوضعية المأزومة تخيل النظام العراقي أن الحل لن يأتي إلا من خلال احتلال الكويت وتسخير مواردها النفطية، وأصولها المالية من أجل حل الأزمة الاقتصادية ومواجهة جميع التبعات المتأتية منها.

يعود المفكرون العرب، أو من يحسبون أنفسهم كذلك، لطرح قضية أخرى، هي: "لماذا لم تقم القوات الحليفة بقيادة الولايات المتحدة بإزاحة نظام صدام حسين عن السلطة بعد تحرير الكويت؟ أليس ذلك استمرارا للمؤامرة التي تهدف إلى تركيع العراق واستنزاف الثروات العربية من خلال جعل ذلك النظام فزاعة لترهيب الأنظمة الخليجية به ودفعها لاقتناء الأسلحة والمعدات العسكرية من مصانع السلاح الغريبة التي تعاني من الركود إثر انتهاء الحرب الباردة؟ " ومن عجائب الأمور أن هؤلاء الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها إبان الاحتلال العراقي للكويت، احتجاجا على الوجود الأجنبي في الجزيرة العربية وعلى التدخل الغربي في الشئون العربية يطالبون بالتدخل في العراق لإسقاط نظام صدام حسين ويتباكون على مصالح الشعب العراقي، وعندما يقال لهم إن هؤلاء الحلفاء نفذوا ما أنيط بهم حسب قرارات مجلس الأمن الدولي والتي حددت مهامهم بتحرير الكويت من القوات العراقية، لا يقتنعون ويظلون مستمرين في قناعاتهم بأن الأمر لا يعدو أن يكون سوى مؤامرة كبرى، وفي اعتقادي فإنه لو قامت قوات التحالف بغزو بغداد وإسقاط النظام وإقامة نظام سياسي بديل لخرجوا صارخين متباكين على النظام وحولوا أقطابه إلى شهداء

الأزمة والاقتصاد

ويبدو أن سياق التفكير العربي ليس محاكمة الأخطاء ونقد الذات، ولكن توجيه اللوم في كل ما حدث للآخرين، هروبا من مواجهة المساءلة التاريخية عما آلت إليه أوضاع الأمة العربية، ومن المؤكد أن هذا المنهج من التفكير مريح ولا يتطلب محاكمة الذات ولا يحدد أنظمة عربية يجب أن تحاكم وتعزل عن المسرح السياسي، كذلك ليس هناك من داع لإعادة النظر في طريقة معالجة القضايا والأمور في الوطن العربي، حيث إنه لا مبرر لاستبدال الأنظمة الشمولية بأنظمة ديمقراطية، وليس هناك من ضرورة لمناقشة الأحداث والمسائل بشفافية وعلانية حتى تتمكن الشعوب العربية من فرز الغي من الحق، ولا بد من انصياع الجميع لأولي الأمر مهما أخطأوا وارتكبوا من خطايا بحق شعوب الأمة العربية، كذلك فإن معضلات الاقتصاد العربي التي تدفع الأنظمة السياسية إلى حافة الهاوية ليست، كما يقول هؤلاء المفكرون العرب، نتاج أخطـاء الإدارات الاقتصادية، ولكنها مؤامرة استعمارية ونحن مغلوبون على أمرنا، حيث إن إنفاق أموال النفط على شراء الأسلحة وعسكرة المجتمعات والهدر في الإمكانات المالية ليس سوى مؤامرة لصالح الغرب حتى يمكن لشركاته ومؤسساته التمتع بثرواتنا، وحتى لو افترضنا أن الغرب يستفيد من طريقة إنفاق الأموال في العالم العربي، فهل العرب أغبياء لهذه الدرجة بحيث لا يراعون مصالحهم ويبددون أموالهم بهذا الشكل دون وعي بالنتائج؟. وإذا أخذنا النموذج العراقي في الإنفاق العسكري، فأين نجد مصلحة الشعب العراقي أو الشعوب العربية من هدر الأموال على العسكرة والحروب؟، ألم يكن هناك من نهج بديل للإنفاق يؤدي إلى بناء مجتمع مدني منتج تتنوع فيه القاعدة الاقتصادية؟

والحديث عن الشأن الاقتصادي ليس إلا حديثا ذا شجون، فما زال هناك من يعتقد بأن الأزمة الاقتصادية بكل تفريعاتها والتي تعاني منها الدول بشكل أو بآخر ما هي إلا نتاج مؤامرة دولية على المال العربي والثروة العربية، فعندما يسقط بنك الاعتماد والتجارة الدولي نتيجة لفساد الإدارة، يقال إنه استهداف للمال العربي، وعندما تخسر الكويت أموالا طائلة نتيجة لسوء اختيار الأصول ولعدم كفاءة ونزاهة الإدارة، يقال فتشوا عن الأجانب، وبطبيعة الحال هناك دور للأجانب في الكوارث المالية التي واجهتها الاستثمارات العربية في الدول الصناعية الغربية، بيد أن هؤلاء الأجانب هم إما شركاء أو مديرون اختارهم العرب، إما لعدم جدارتهم في اختيار الشركاء والمديرين أو لغرض في نفس يعقوب، حيث إن مثل أولئك يمكن أن يسهلوا عمليات الاستنفاع للمتنفذين من العرب.

التساؤل الذي يطرحه المرء على نفسه، وهو أنه في سياق التطور الحضاري تمر كل أمة أو شعب بمخاضات تتخللها أخطاء وخطايا، وتنحرف الأنظمة عن جادة السبيل، ولكن في نهاية المطاف يتداعى قادة المجتمع إلى محاكمة الذات ونقد المسار للتوصل إلى الحلول الناجحة، والعرب ليسوا استثناء للأمم ويمكن أن يقعوا في أخطاء كبيرة في إدارة أموالهم ومقدراتهم، فلماذا يفترضون أن هدر إمكاناتهم الاقتصادية هو نتاج التآمر الأجنبي عليهم؟ ألا يدل ذلك على عناد، ما بعده عناد، على رفض الاعتراف بالواقع وتطوير إدارتهم الاقتصادية من أجل توظيف أفضل للإمكانات الاقتصادية والبشرية في سبيل بناء تنموي أفضل؟ وفي عالمنا المعاصر لا يمكن عزل بناء اقتصادي لبلد ما عن البناء الاقتصادي الدولي، ولذلك فالمصالح متشابكة، وفى حالة العالم العربي فإن ذلك التشابك واضح، حيث إن النفط سلعة العرب الرئيسية يتم تداوله في الأسواق العالمية، وما يحدث في تلك الأسواق ينعكس على النفط طلبا وتسعيرا، ومن ثم يؤثر على الاقتصادات العربية بدرجة أو بأخرى. وإذا قررت الدول المستهلكة أن تخفض من استهلاك ومن ثم استيراد النفط، فإن ذلك لا بد أن ينعكس على مستوى الطلب وعلى الأسعار وعلى موارد الدول المصدرة للنفط، وعندما يتم الترشيد من خلال الضرائب على الطاقة فيها، فيجب ألا أن نفسر ذلك على أنه تخطيط شيطاني ضد مصالحنا، بل إن تلك الدول لديها مصالح تتطلب تلك الإجراءات. فمثلا هناك اهتمام بقضية البيئة في الدول الصناعية، دفع بالإدارات الاقتصادية إلى ضرورة إيجاد وسائل تحد من الاستهلاك من أجل تخفيض نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو، قد نختلف معهم حول مدى دقة التقديرات المتعلقة بأضرار استخدام النفط على البيئة، لكننا لا نستطيع أن نصور تلك الإجراءات بأنها تستهدف الإضرار بمصالح العرب كذلك الحال عندما يقرر الأمريكيون فرض ضريبة على الطاقة من أجل تحصيل موارد لمواجهة عجز الموازنة الفيدرالية. إذن، هل من الأفضل الركون إلى إقناع النفس بأن العرب مستهدفون اقتصاديا، أو أن نطور من إدارة اقتصادياتنا بحيث نواجه التحديات المعاصرة بوسائل عقلانية؟ أليس من الأفضل أن نتفاعل مع تطورات الاقتصاد الدولي لكي نستطيع أن نستفيد من تلك التطورات بما يتناسب مع مصالحنا، وإذا تمكنا أن ندير أوضاعنا الاقتصادية بحكمة وكفاءة، فإنه حتى لو افترضنا جدلا وجود المؤامرة، فسوف نتمكن من التصدي لكل ما يضر بمصالحنا.

توزيع الثروة

كانت إحدى أطروحات النظام العراقي عندما غزا الكويت، هي إنجاز معادلة توزيع الثروة على الشعوب العربية، وبحيث لا تستفيد القلة من الثروة على حساب جموع الجماهير العربية، ولقد هلل الكثير من الجماهير العربية لهذه الأطروحة وكانت من أسباب دعمها لغزو العراق للكويت، أخطر من ذلك وقف المفكرون العرب أو العديد منهم، مشيدين بتلك الأطروحة وتنبأ عدد منهم بجنة الله على الأرض إذا نجح النظام العراقي في هضم الكويت، والعجيب أن هؤلاء، وبعضهم مطلع على أحوال العراق، لم يناقشوا كيف يمكن لنظام لم ينجح في توزيع الثروة العراقية بشكل عادل على الشعب العراقي أن يوفق في توزيع الثروة العربية على كل العرب؟! ولم يتساءل أي منهم عن مدى استفادة الشعوب العربية من الثروة العراقية طيلة السنوات الاثنتين والعشرين السابقة للاحتلال، ومنذ تسلم حزب البعث السلطة في العراق.

لكن منذ الاحتلال حتى الآن، هل تمكن العرب من دروس الثروة ووسائل الاستفادة منها؟

ولكي نكون متسقين مع الحقيقة فإن العرب فعلا لم يستفيدوا من ثرواتهم الوطنية والقومية بشكل عادل خلال العهد الحديث، وليس ذلك نتيجة لاحتكار قطر لثرواته وعدم إتاحة المجال لشعوب الأقطار الأخرى الاستفادة، ولكن لأسباب موضوعية عديدة، من أهم تلك الأسباب أن الإدارات الاقتصادية في كل قطر عربي تحسن التطبيقات الاقتصادية، إما لأسباب سياسية أو لقصور في الرؤية الاقتصادية، أو لعجز في الخبرة، ومن العوامل الأساسية غياب الديمقراطية وعدم توافر آلياتها للرقابة على استخدام الأموال العامة وطرق توظيفها مما أدى إلى الهدر في الإمكانات المتاحة على المستويات القطرية.

وعندما تقرر الإدارات السياسية توظيف جزء كبير من الأموال العامة في بناء الجيوش والمصانع العسكرية لمواجهة أعداء حقيقيين أو وهمين لا بد أن تبدد موارد مالية كبيرة على حساب مشاريع التنمية في قطاعات البنية الأساسية والتعليم والصحة والصناعة والزراعة والخدمات بشتى أنواعها، ومن المؤكد أن عدم توظيف الأموال في القطاعات المذكورة لا يعني فقط تردي المستويات في القطاعات آنفة الذكر، ولكن أيضا عدم التمكن من بناء عمالة وطنية تستطيع أن تكسب الخبرة وتتمكن من إدارتها. كذلك فإن الإنفاق على العسكرة يعني تحويل جزء من القوى العاملة من الاقتصاد المدني إلى المؤسسات العسكرية، وتقليص القدرة على كسب المهارات في القطاعات الصناعية والزراعية وغيرها.

وقد اتضح من خلال السنوات الأربعين الماضية وأيدته تجربة غزو واحتلال الكويت والإرهاصات المتولدة عنها عقم التطورات الاقتصادية في الوطن العربي، وعجزها عن الاستفادة من الثروة المالية التي تولدت عن اكتشاف النفط وتحسن أسعاره خلال السنوات المنصرمة، وليس هناك من دليل صارخ أفضل من عجز النظام العراقي عن الاستفادة من إمكانات العراق البترولية والبشرية والمائية والزراعية لتطوير اقتصاد مدني يمكن أن يضاهي اقتصاديات بعض الدول الصناعية الجديدة مثل كوريا الجنوبية أو تايوان أو تايلاند، ولذلك ظل النظام مأزوما نتيجة للحرب مع إيران والإنفاق العسكري، وأصبح الاقتصاد مدينا للعالم الخارجي ومكشوفا على اقتصاديات النفط.

ليس معنى ذكر النظام العراقي أن بقية الأوضاع العربية أفضل حالا فكلها مأزومة بشكل أو بآخر، لكن أزمة العراق كانت الأكثر دلالة نتيجة لما حدث، ونتيجة لإمكاناته الاقتصادية المتميزة، هناك العديد من الدول العربية التي تعاني من المديونيات الخارجية وعجزها عن تسديد خدمات تلك المديونيات، كما أن تلك الاقتصاديات لم تتمكن من حل الأزمات المعيشية التي تعاني منها الشعوب العربية حيث تتعمق تلك الأزمات وتولد معها معضلات سياسية كأداء ينتج عنها التطرف والإرهاب اللذان يجذبان الشباب الذين يعانون من انعدام فرص العمل والحياة. ومما لا شك فيه أن عجز الإدارات الاقتصادية في أكثر من قطر عربي عن مواجهة الأزمات الاقتصادية، وانعدام الرقابة على توظيفات الأموال، واستمرار التراجع في الأداء، من العوامل التي لا تساعد على جذب الأموال من الدول العربية ومن الأثرياء العرب لتلك الأقطار وتوظيفها كاستثمارات فيها، وبذلك تسقط إمكانات خلق فرص العمل وإتاحة المجال أمام البشر للاستفادة بطريقة أو بأخرى من الثروة العربية.

مأساة البشر

واستمرارا في الحديث عن الثروة العربية وتوزيعها، فإن الكويت فتحت أبوابها للعمالة العربية منذ اكتشاف النفط ومنذ أواخر الأربعينيات من هذا القرن، ولقد كون العديد من العاملين العرب حياتهم المهنية والأسرية على أرض الكويت، وتمكن عدد كبير منهم من تكوين ثروات خاصة لا بأس بها، وعندما جاء الاحتلال، الداعي لإعادة توزيع الثروة، فقد الكثير من هؤلاء العاملين فرص العمل واضطروا للرحيل، كما أن المشاعر التي خلفها الاحتلال العراقي في الكويت بعد التحرير، والناتجة أساسا من تحالف عدد من الأنظمة والمنظمات والأحزاب العربية مع النظام العراقي، لا يمكن تجاوزها بالنوايا الطيبة، حيث إن الأمر يتطلب مرور وقت طويل، وبعد مرور ذلك الوقت تكون هناك أوضاع قد خلقت على أرض الواقع قد لا يمكن تجاوزها.

كذلك فإن من النتائج المترتبة على الاحتلال أن الكويت ودول الخليج نتيجة لما أنفق على التحرير وفي عمليات إعادة البناء، قد فقدت إمكانات مالية واقتصادية كبيرة، أدت إلى تقليص فرص العمل واضطرارها للاستغناء عن عدد كبير من العمالة غير الوطني، والتي تمثل فيها العمالة العربية نسبة كبيرة. وبذلك فقد تقلصت تحويلات هؤلاء إلى ذويهم مما أثر على المستويات المعيشية وعلى حصيلة الموارد المالية الخارجية للدول المصدرة للعمالة مثل مصر وسوريا، والأردن، واليمن وغيرها،

ولا شك أن قدرات الدول الخليجية على تقديم العون الاقتصادي بشكل مباشر أو من خلال الصناديق الإنمائية قد انخفضت بشكل كبير، مما عطل من عمليات التنمية في أكثر من قطر عربي. وقد لا يكون يسيرا على أي من الدول العربية التي تستقبل المعونات الاقتصادية أن تستمر في برامج الإنماء في ظل تقلص المساعدات والتحويلات المالية من الخارج، وبذلك يستمر الركود.

إن استمرار النمو السكاني بمعدلات عالية تتجاوز أحيانا الثلاثة في المائة سنويا لا بد أن يزيد من مخاطر تكريس الأزمة الاقتصادية وتعثر إمكانات الحل، ولن يكون في مقدور أي نظام اقتصادي عربي حتى لو توافرت الإدارة السياسية المناسبة والخاضعة للرقابة الديمقراطية أن يجد الحلول المناسبة، ما لم يتحكم في معدلات النمو السكاني، وعندما يكون عدد السكان الذين تقل أعمارهم عن الخمسة عشر عاما قريبا من الخمسين في المائة فإن ذلك يعني ضرورة توافر فرص التعليم والعمل بشكل مطرد، وربما لا تتمكن القدرات الاقتصادية من المواكبة.

وبذلك يمكن القول إن من نتائج الاحتلال العراقي للكويت أن عطل الاحتلال إمكانات الاستفادة من الثروة العربية في عدد أكبر من الدول العربية، وأعطب إمكانات عدد كبير من العرب من العمل في دول عربية أو توظيف أموال عربية في بلدانهم لخلق فرص العمل المناسبة لهم.

العرب ونفطهم

عندما هب الغرب ضد الاحتلال العراقي للكويت صرخ بعض العرب "فتش عن النفط"، ومما لا شك فيه أن الغرب يريد أن يحصل على النفط بأسعار مناسبة لا تؤدي إلى إحداث تضخم في الأسعار في اقتصادياته، ولذلك كان من المهم للولايات المتحدة والدول الغربية التي تحالفت معها من أجل تحرير الكويت أن يظل النفط متدفقا للدول المستهلكة دون انقطاع، ودون تمكين أي نظام ديكتاتوري غير مستقر من الهيمنة على موارد النفط، لكن ما حدث بعد احتلال الكويت أن الدول الغربية قد أفاقت لتجد نفسها رهينة للأوضاع السياسية غير المستقرة في منطقتنا العربية، حيث توجد على الساحة أنظمة ديكتاتورية أو غير ديمقراطية تخضع فيها القرارات السياسية للأمزجة الفردية أو لمصالح مجموعة صغيرة من البشر، ولقد كان خطاب الرئيس بوش بعد تحرير الكويت مباشرة دليلا على إصرار دول الغرب الصناعية على نهج سياسات اقتصادية تؤدي إلى تخفيض احتياجاتها للنفط وتطوير البدائل للنفط العربي وللنفط بشكل عام، وسوف نرى خلال السنوات القادمة سياسات ضريبية تعمل من أجل تخفيض الاستهلاك، وربما تقوم مراكز البحوث العلمية بالعمل الدءوب من أجل تطوير بدائل للطاقة تكون مقبولة اقتصاديا وأقل كلفة من النفط.

وعندما تدور الأحاديث في الغرب عن ضريبة الكربون وضريبة الطاقة يفزع العرب ويصرخون "مؤامـرة"، ولكن الحقيقة هى أن هؤلاء الغربيين عازمون على تقليص الاعتماد على النفط، ولن نستطيع أن نثنيهم عـن هذه التوجهات، وإذا أردنا أن نعزز من القيمة الاستراتيجية للنفط، والتي لا شك تضررت كثيرا من الاحتلال العراقي للكويت، فإن الأمر يتطلب ترشيدا في الإنفاق والاستهلاك بحيث تتقلص الحاجة إلى الأموال، كذلك يجب ترشيد استخدامات الموارد المالية المتاحة وتقليص العجز في الموازنات بجميع أشكالها سواء موازين المدفوعات أو الموازين الخاصة بالتجارة الخارجية أو ميزانيات الدولة، وإذا قدر للدول العربية المنتجة للنفط أن تعيد التوازن لأوضاعها المالية والاقتصادية فإنها يمكن عند ذلك أن تعيد للنفط قيمته الاستراتيجية عند ذلك لا تقوم تلك الدول المنتجة بزيادة الإنتاج لتغطية الاحتياجات المالية، ولا تضطر إلى الاستدانة من الأسواق المالية الخارجية لمواجهة الالتزامات.

معاني الدروس

إن من نتائج الغزو العراقي للكويت والإرهاصات والتبعات التي لحقته هو ذلك الوعي بأهمية إعمال العقل في معالجة كل القضايا الوطنية والقومية في مختلف البلدان العربية، فلم يعد من المقبول أن تؤخذ الأمور على عواهنها، أو تصبح أطروحات الأنظمة أمورا مسلما بها، دون مناقشة أو تمحيص، ولذلك فقد أضحى لزاما على جميع المثقفين والعاملين في سائر الأنشطة أن يبادروا بالتصدي لمختلف المعضلات التي تواجهها القطاعات الاقتصادية والاجتماعية ومثل هذا التصدي قد يتيح للمجتمعات العربية أن تعي الأزمات التي تعاني منها وتحول دون ولوجها عصر التنمية، ومن ثم التوصل إلى قناعات حول الحلول المناسبة والوسائل الكفيلة لإنجاز التطور المنشود.

من جهة أخرى لم يعد مقنعا أن نسقط جميع المعضلات والأزمات على الآخرين ونقول إن كل ما نعاني منه ما هو إلا نتاج مخطط أو مؤامرة يضطلع بها الغرب. إن ذلك التفكير إن دل على شيء فهو ليس إلا هروبا من الواقع ومن تحدياته، فمن السهل جدا أن نقول إن الأزمة هي نتاج مخطط أجنبي، ولكن من الصعب التصدي لها وسبر أعماقها وتحطيم العوامل الموضوعية والذاتية، واكتشاف وسائل العلاج.

ولكي تتمكن المجتمعات العربية من اكتشاف الحقائق التي تحيط بكل أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، فلا بد أن تتوافر لديها القدرة على الحوار من خلال آليات ديمقراطية واضحة الشفافية، ويجب أن ينعتق الفكر العربي من القوالب الجامدة ويتحلى بالمرونة وتتاح للمفكرين الجريات الكاملة غير المنقوصة لتبادل وجهات النظر من خلال مختلف المنابر عبر البرلمانات المنتخبة أو الجامعات والصحافة، وبذلك تتعمق التعددية الفكرية بشكل جلي.

وقد يتخوف عدد من العرب من انتشار الحرية والديمقراطية في ظل ظروف اقتصادية صعبة ومنهكة، ولكن هذه الظروف في ظل القمع والديكتاتورية لن تولد إلا المزيد من العنف والأزمات الجديدة، ولو توافرت في بلد مثل العراق الحرية والديمقراطية فهل كان من الممكن أن تعالج أزماته من خلال حرب طاحنة امتدت لمدة ثماني سنوات مع إيران، وأن تعالج الأزمات الناتجة عن تلك الحرب من خلال احتلال الكويت وجنى الكوارث من تلك الخطيئة الوطنية والقومية الكبرى؟ قد يحق لنا أن نتوقع حلولا مختلفة لو توافرت الديمقراطية هناك، بيد أن الأهمية الآن يجب أن تولى للاستفادة من الأزمات في بناء قواعد الديمقراطية، وتأكيد الجدل الحر في المعالجة لكل القضايا. أخيرا، ومع التأكيد على نهج الديمقراطية، إلا أن هناك نهجا أخيرا يجب اتباعه ألا وهو نهج الواقعية في التعامل مع مختلف القضايا، فلن يتمكن العرب من علاج معضلاتهم إذا طرحوا حلولا وردية لا يمكن أن ترقى إلى التطبيق، ولذلك فإن الحل الممكن لأية أزمة يجب أن يكون معقولا وضمن الإمكانات المتاحة.

 

عامر ذياب التميمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات