10 سنوات مرت على رحيله سهيل إدريس ومجلته «الآداب»
كتب الأديب د. سهيل إدريس القصة والرواية، وترجم عن الأدب الفرنسي، وألّف المعاجم، وأسّس مجلة الآداب سنة 1953، ثم «دار الآداب للنشر» التي نشرت الروايات والقصص والشعر، وشارك في تأسيس اتحاد الكتّاب اللبنانيين وترأسه أكثر من مرة.
وهو شاهد على أزمة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومؤمن بحتمية التحرر من الاستعمار والتخلّف والأخذ بركاب الحضارة الحديثة.
وُلد سهيل إدريس في محلّة «الخندق الغميق» بوسط مدينة بيروت سنة 1925. درس في الكلية الشرعية وتخرّج فيها شيخًا عالمًا ورجل فقه، وبعد تخرّجه سنة 1940 تخلّى عن زيّه الديني وعاد إلى وضعه المدني، وأخذ يمارس الصحافة منذ سنة 1939، لكنه استقال ليتابع دراساته العليا في باريس بقصد تحضير الدكتوراه في الأدب العربي.
ونال شهادة الدكتوراه، واستوعب الفكر الغربي وتياراته الفلسفية عن طريق القراءة والترجمة والاحتكاك المباشر، وعند عودته، أنشأ إدريس مجلة الآداب سنة 1953 بالاشتراك مع بهيج عثمان ومنير البعلبكي، ثم تفرّد بالمجلة سنة 1956، ودافع عن التيار الوجودي، وترجم بعض إبداعاته، وكانت المجلة دعامة أساسية للشعر التفعيلي والقصيدة النثرية والحداثة بصفة عامة.
كتب د. سهيل 3 روايات هي: «الحيّ اللاتيني»، «الخندق الغميق» و«أصابعنا التي تحترق»، وقد صنّفها بعض النقاد والباحثين على أنها «ثلاثيّة»، وأنها شبه سيرة ذاتية. وأصدر 6 مجموعات من القَصص هي: «كلّهن نساء» و«أشواق»، و«نيران وثلوج» و«الدمع المرّ»، و«رحماك يا دمشق»، و«العراء» وقد جُمعت في جزأين، أقاصيص أولى وأقاصيص ثانية.
وترجم ما لا يقلّ عن خمسة وعشرين كتابًا عن الفرنسية بين رواية ومجموعة قَصص ومسرحيات ودراسات، وعُني عناية خاصة بترجمة عدد من كتب الكاتب والفيلسوف الفرنسي سارتر، الذي جذبه إليه موقفه في الدفاع عن حرية الشعوب، ولا سيّما حرية شعب الجزائر في وجه استعمار بلاده فرنسا له. وكذلك كتاباته عن «كوريا» و«فيتنام».
وفي عام 1967 بدأ بتأليف قاموس «المنهل» الفرنسي - العربي مع د. جبور عبدالنّور.
انطلاقة جديدة
أصدر د. إدريس روايته الأولى «الحيّ اللاتيني» سنة 1953، التي تُعدّ مَعلمًا من معالم الرواية العربية الحديثة، أي أنها تسجّل انطلاقة جديدة في الفن الروائي، كما يرى كثير من النقاد الذين كتبوا عنها, وهو يسجّل فيها تجاربه التي عاشها في باريس حينما كان يدرس في جامعة السوربون مقابلًا بين حضارتين: شرقية محافظة وغربية منفتحة.
وفي عام 1958 كتب روايته الثانية «الخندق الغميق»، التي يسرد فيها سيرته وتجاربه التي عاشها في بيروت، مصوّرًا صراع الأجيال، والتي قال عنها ميخائيل نعيمة: «الخندق الغميق الذي عاش أجيالًا خَلف سُجف كثيفة من العادات والتقاليد ينفتح بغتة على العالم الأوسع».
وفي عام 1962 أصدر روايته «أصابعنا التي تحترق» التي تعكس الأحداث العربية المؤلمة المليئة بالهزائم الفاجعة التي ألمّت بالعالم العربي.
تشكّل هذه الروايات الثلاث «ثُلاثية» تعكس أفكاره وآراءه ونظرته إلى الحياة والوجود والعلاقة بين الرجل والمرأة والصراع الوطني والحضاري والاجتماعي.
ويجيب إدريس عن سؤال عمّا إذا كان يعتبر نفسه أديبًا وجوديًا، فيقول:
«في الواقع تأثري أو عدم تأثري بالأدب الوجودي متروك أمره للنقّاد والباحثين، ليجدوا إذا كان في كتاباتي بعض هذا التأثر. وربما كان في «الحي اللاتيني» بعض التأثر برواية «دروب الحرية» لسارتر.
وإذا أردت أن تعدّني كاتبًا وجوديًا فعُدّني كذلك، لكن على أساس المفهوم الذي تحدّثت عنه، وهو أنني من دعاة الحرية في المجتمع العربي، كما دعوت إليها في روايتي «الحي اللاتيني» و«أصابعنا التي تحترق». ولكنني من دعاة المسؤولية أيضًا، كما يظهر في هاتين الروايتين، وفي جملة من أقاصيصي التي تأثــــرتُ فيها بالأحداث والنكسات العربية وما يجابه الإنسان العربي من أساليب القمع والإرهاب».
اشتهر د. إدريس بأسلوبه النقدي الرهيف، والحاد سياسيًّا. فهو لا يساوم على قناعاته ولا يتساهل، مما جعله حرًّا، وطنيًّا، ملتزمًا، غير مُلزم بحزب أو بنظام.
مجلة الآداب
هي مجلة شهرية تُعنى بشؤون الفكر وتصدر عن بيروت، لبنان، وقد صدر العدد الأول منها في يناير سنة 1953. ويقول إدريس في افتتاحية العدد الأول هذا: «في هذا المنعطف الخطير من منعطفات التاريخ العربي الحديث، ينمو شعور في أوساط الشباب العربي المثقف بالحاجة إلى مجلة تحمل رسالةً واعيةً حقًّا».
وهي تؤمن بأن الأدب يجب أن يتوجه إلى «تحرير البلاد ورفع مستواها السياسي والاجتماعي والفكري». وهذا يدل على رسالة مجلة الآداب، وهي رسالة اجتماعية قومية.
أي أن الأدب يجب أن يوظّف في خدمة المجتمع العربي. وهذا يعني أن يكون أدبًا «ملتزمًا».
وتدعو المجلة في رسالتها إلى أدب إنساني يتناول قضايا الإنسان والعدالة الاجتماعية، وإلى تحرير الإنسان من العبودية والاستغلال. وتسعى إلى أن تكون بمنزلة جسر ينقلُ الأدب العربي إلى الغرب، وينقلُ آداب الغرب إلى العرب.
والذي يتصفّح العدد الأول من المجلة يجد أن عددًا كبيرًا من كبار الأدباء والشعراء العرب قد شارك فيها، أمثال ميخائيل نعيمة، ود. أحمد زكي، وخليل تقي الدين، وفؤاد الشايب، وأنور المعدّاوي، وسعيد تقي الدين، ود. عبدالله عبدالدائم، وعبدالله العلايلي، ود. حسين مروّة، ود. نبيه أمين فارس، ورئيـــــف خــــوري، ود. جورج حنا؛ إلى جانب قصائد لشعراء كبار أمثال نزار قباني، ونازك الملائكة، وسليم حيدر وسواهم.
وقد التزمت مجلة الآداب الخط الوطني القومي للثقافة العربية، واحتضنت الناشئة وساندت القضايا القومية.
سجل الأحداث
مَنْ يستعرض أعداد المجلة يتبين له أنها استقطبت معظم الأقلام العربية المعروفة - كما سبق أن أشرنا - وخاصة الشُبان منهم، ورعتهم وأخذت بيدهم وشجّعتهم ووجّهتهم من خلال ما كان يكتبه النقّاد حول ما نشرته المجلة لهم في عدد سابق، مما كان له الأثر الواضحُ على نتاجهم الأدبي.
كما التفتت المجلة إلى الآداب الأجنبية، وخاصة الأدب الفرنسي الذي تناولت بعضًا منه مركّزة على الزاوية الوجــودية فيه والملتزم فكرة الحرية والمسؤولية، كما عرّفت بنتاج كبار ممثليه أمثال: جان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار وألبير كامو وسواهم، كما عرّفت القارئ العربي على كبار الأدباء في العالم.
مجلة الآداب إذن سجلٌّ للأحداث الجسام التي حصلت في العالم العربي، وذلك لأنها ظهرت في فترة تُعَدّ من أحرج الفترات التي مرّت على الأمة العربية.
وقد كرّست المجلة حيّزًا من صفحاتها للشعر، إذ نشرت لكبار الشعراء العرب دون استثناء، الكلاسيكيين منهم والحداثيين. كما اهتمت بفن القصة والرواية والمسرحية، وإضافة إلى ذلك كلّه، تمكنت من رصد الحياة الأدبية والثقافية في العالم العربي ومسيرة بعض الآداب الغربية والعالمية، فكانت نافذة يطل منها القارئ العربي على التيارات الأدبية الحديثة في شتّى المجالات. كما أنها تحتفل بالمناسبات الأدبية المهمّة، وتُواكب المؤتمرات الأدبية والندوات الفكرية وتُصدر الملفات والأعداد الخاصة بكبار الشعراء والأدباء العرب، وتسلّطُ الضوء على المؤلفات الجديدة من دواوين شعرٍ ودراساتٍ، وكُتبِ النقد الأدبي، والقضايا التحررية، والتطور الاجتماعي.
نزار قباني و«الآداب»
سوف أورد هنا قصة قصيدتين تظهران أهمية مجلة الآداب، ونُشرتا بالمجلة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين للشاعر الكبير نزار قباني (1923/1998) خلال عامي 1954 و1967.
أما قصيدة نزار قباني الأولى، فهي «خبز وحشيش وقمر» التي نظمها في لندن سنة 1954، والتي تعتبر محطة تحوّل في شعره السياسي.
عندما نشرت «الآداب» هذه القصيدة قامت قيامة رجال السياسة والرجعيين على الشاعر، وأثاروا عاصفة عارمة ضده، واتهموه بالكفر والعمالة، لأنه يهاجم فيها الكسالى والمسطولين والحشاشين وكشّاشي الحَمام، حتى أن نائبًا سوريًّا طالب في مجلس النواب السوري بطرده من السلك الدبلوماسي ومحاكمته.
وفي مقال نشر في جريدة «الحياة» في 28/2/1998 يقول نزار قباني عن ذلك ما يلي: «أرسلت القصيدة من لندن إلى صديقي د. إدريس، صاحب مجلة الآداب اللبنانية المعروفة بخطّها القومي والتحرري، وكنت آنئذٍ أعمل دبلوماسيًا في السفارة السورية بلندن.
لم يعترض سهيل على القصيدة، ولم يتخوّف منها، بل نشرها افتتاحية في مجلته، كما كان ينشر كل ما أرسله إليه من قصائد حُبّ لا تخلو من الجرأة، والاقتحام، والعبارات الجميلة والجنسية. ولكن ما إن صدرت «الآداب» حتى قُرعت أجراس الخطر في كل عواصم العالم العربي، وطالب المتزمتون بشنقي وطردي من وزارة الخارجية السورية، لأنني حسب اجتهادهم، خنت بلادي، وانحرفت عن عقيدتي، وأصبحت عميلًا للإنتلجانس سيرفيس، لأنني ألصقت على غلاف رسالتي المرسلة إلى «الآداب» طابعًا بريطانيًا.
هكذا بكل بساطة أصبحتُ عميلًا، لأنني هاجمت الكسالى، والمسطولين، وآكلي القضامة والبزر وراقصي الزار والدراويش».
وإليكم المقطع الأول من القصيدة:
عندما يُولَدُ في الشرقِ القمرْ
فالسطوحُ البيضُ تغفو
تحتَ أكداسِ الزهَرْ
يتركُ الناسُ الحوانيتَ ويمضُونَ زُمَرْ
لملاقاةِ القمرْ
يحملونَ الخبزَ، والحاكي، إلى رأسِ الجبالْ
ومَعداتِ الخَدَرْ
ويبيعونَ، ويَشرونَ، خيالْ
وصورْ
ويموتونَ إذا عاشَ القمرْ
عبوة ناسفة
أما قصيدة نزار الثانية فهي «هوامش على دفتر النكسة» التي جاءت ردًّا على هزيمة يونيو 1967.
ويقول الشاعر عنها في كتابه «قصتي مع الشعر» (ص 213 - 214):
«نُشرت القصيدة أول ما نُشرت في مجلة الآداب. ولم أكن متأكدًا حين دفعتُ بها إلى الصديق سهيل إدريس أنه سينشرها. وكنت حين جاء سهيل إلى مكتبي ذات صباح. وقرأت له القصيدة صرخَ كطائر ينزف: أنشرها... أنشرها.
قلت لسهيل: إِن القصيدة من نوع العبوّات الناسفة التي قد تحرق مجلّته أو تعرّضها للإِغلاق أو المصادرة، وإنني لا أريد أن أورّطه وأكون سببًا في تدمير مجلّته.
نظر إليَّ سهيل بعينين حزينتين تجمعت فيهما أمطار الدنيا، وكل أشجار الخريف المتكسّرة، وقال بنبرة يمتزج فيها الألم الكبير بالصدق الكبير:
«إذا كان حزيران قد دمّر أحلامنا الجميلة، وأحرق الأخضر واليابس. فلماذا تبقى (الآداب) خارج منطقة الدمار والحرائق؟ هات القصيدة».
وأعطيته القصيدة، وصدقت توقعاتي وتوقعاته، إذ صودرت المجلة، وأحرقت أعدادها في أكثر من مدينة عربية وجلسنا في بيروت، سهيل وأنا، نتفرّج على ألسنة النار، ونرثي لهذا الوطن الذي لم تعلّمه الهزيمة أن يفتح أبوابه للشمس وللحقيقة».
خط ملتزم
يقول د. إدريس في تقديمه عدد ديسمبر سنة 1969 من مجلة الآداب ما يلي:
«تستطيع الآداب أن تدّعي أنها مجلة متطوّرة، وأنها لا تصبّ نفسها في قالب جامد تضيقُ معه آفاقها وتخنق أبعادها. ومن أدلة ذلك أنها لا تني تتلقّف الأجيال الأدبية، واحدًا بعد آخر، من غير أن تتسمّر عند أحدها، لإيمانها العميق بالتطّور، وبأن جيلًا واحدًا لا يستطيع أن يظل ممثلًا للنزعات المتجددة، فهي تحاول أن تُفسح المجال للتعبير عن الهموم المتميزة التي تُحسها هذه الأجيال وهي تواجه تغيرات المجتمع العربي».
إلى أن يقول:
«ويهم (الآداب) أن تتابع طريقها على درب الفكر القومي الذي سلكته منذ أعدادها الأولى، ولذلك فإنها ترى نفسها ملزمةً بأن تُولي هذا الفكر القومي مزيدًا من العناية، وأن تحاول تركيز أسسٍ متينةٍ له عبر نقاش منفتح تُفسح له أوسع المجال».
شكّلت مجلة الآداب خطًا ثقافيًا ملتزمًا، واستقطبت أعلام الأدباء والشعراء في العالم العربي.
وبعد وفاة مؤسسها سنة 2008 تولّى ابنه د.سماح إدريس الإشراف عليها، وتحوّلت عن طابعها الأدبي إلى توجّه سياسي، ثم توقفت عن الصدور.
يعد د. سهــــيل إدريـــس علامة مميزة في حياة لبنان الأدبية، وكان صاحب حضـــــور غنيّ على الساحة الأدبية فـــي النصف الثاني من القرن العشرين، وقد ترك برحيله فراغًا من الصعب أن يسدّه رجل فرد مهما أوتي من موهبة.