كيف أكتب؟

كيف أكتب؟

 أكثر ما شغلني في ربع القرن الأخير من حياتي الثقـــــافـــيـة نوع الــجواب الذي أريــده عـــن ســؤال: كيف أكتب؟ فليس مصدر الانشغال هو الخوف من التصريح بالحقيقة، إنما الاحتراس من الافتخار في غير محلّه، والادّعاء المعيب لصاحبه؛ فإن خاطرت، وأجبت عن السؤال، فهذا يعني التفكير بمئات الصفحات التي كتبتها، ولم تظهر  في مؤلّفاتي، فإلى أين ذهبت؟ وما مصيرها؟

 أجيب، ببساطة، إنها أُزيحت، وجرى إقصاؤها، وما عاد أمر العثور عليها متاحًا؛ لأنني تعلّقت بخطيئة محو المسوّدات الأولى بتعديلها، وتطوير الملاحظات بتوسيعها الذي لا يعرف الكلل، والتوسّع في التعليقات بجعلها فقرات كاملة، ولم أحتفظ إلا بالصيغ النهائية، أو شبه النهائية، مما كتبتُ، وقد أفنت ما سواها، وطوته في داخلها. فأين منيّ تلك الخواطر النافذة، وأنا أحتسي فنجان قهوة في هذا المقهى، أو في قاعة تلك المكتبة، أو صالة هذا الفندق، أو في أروقة ذلك المطار، وعلى الأخصّ حينما أنكبّ خلال الليل على مصادري، وإلى جانبي دفتر صغير لا يلبث أن يمتلئ بالملاحظات، فأستبدله بآخر، ثم آخر، وكلّما مضيت في القراءة بالغت في تقييد خواطري بملاحظات لها صلة بما يستحثّني الكتاب عليه من أفكار، ويعجزني، بمرور الوقت، أن أفكّ خيوط تلك التعليقات لكثرتها وتداخلها، فأستخلص من قليلها ما أراه مناسبًا، وأصرف النظر عن كثيرها حينما أفركه فلا أراه مناسبًا؛ لأنني فقدت السياق الذي كتبتها فيه.
  والغالب هو إعادة النظر في تلك الملاحظات، وإيداع خلاصتها في ملفّ له صلة بالكتاب الذي أعمل عليه، ولا أتوانى عن دسّها في المكان الذي أجده لائقًا بها، فتكون هذه في صفحاته الأولى، وتلك في صفحاته الأخيرة، ومعظمها يتناثر في متن الكتاب، وبمرور الأيام، والأشهر، والسنوات، تختفي أصولها الورقية بسبب الترحال بين البلاد، أو التلف الذي تعرضت له مسوّدات مؤلفاتي، وأصولها الخطيّة المجلّدة بعد إحراق مكتبتي في العراق عام 2014، أو تتوارى ملفّاتها نتيجة تبديل حواسيب الكتابة، أو في أقل الأمر أفقد أثرها بين عدد يعجزني إحصاؤه من الملفّات الرقمية التي أضل طريقي في بلوغ ما أريده منها، وإلى كلّ ذلك فلا أعرف مكان بعضها في الكتاب الذي أودعتها فيه لأنها ذابت في صفحاته؛ فسؤال الكتابة يذكّرني بتلك الصفحات التي محوتها حينما كانت عزيزة علي في أول الأمر، وما عادت كذلك عند التحرير الأول أو الثاني أو الثالث للكتاب، حيث لا يكاد يرضيني شيء، فأعدّل وأغيّر، وأدمج وأفرّق، وأمحو وأزيد، ولو أطلقت العنان لنفسي لمحوت الكتاب من شاشة الحاسوب، فالكتابة ليست هذرًا، وينبغي على الكاتب التوقّف على كل جملة، والتأكّد من هدفها، ووظيفتها في السياق؛ هل هي معرفية أو إخبارية أو ترويحية أو توضيحية؟ وحينما لا يجد لها وظيفة فيجب عليه ضغط زر الحذف لمحوها. وهذا ما قمت به في معظم كتبي.
 لم أتمكّن من مقاومة هوس إعادة النظر، من جرّاء التدقيق والتحقيق، الذي أفضى إلى اختلاف في كثير من كتبي بين طبعة وأخرى، ومردّه دوام المراجعة حين إعداد أيّ طبعة جديدة منها، ولا أرى في ذلك عيبًا، وليس هو عندي بمثلبة، بل مزية اقتضاها شرط التأليف الصحيح، وفرضتها عليّ أعراف الكتابة الصائبة؛ فليس ينبغي غلق ملفّ الكتاب، ودفنه، بل تركه مفتوحًا يواكب جديد المعارف والثقافات، فيحدّث نفسه من مناهلها كلما اقتضى الأمر، ويرتوي من منابعها، فلا ينقطع عن سياق عصره، ولا يكتفي بخطرات التأليف الأولى التي خطرت لمؤلّفه.
    غير أن الأهم، في تقديري، هي الخطة العامة للتأليف التي أخذت بها منذ وقت مبكر، ولازمتني حتى النهاية، ولا مناص من شرح جوهرها في هذا السياق، فقد عاهدت نفسي في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين أن أصنّف كتابًا موسوعيًا عن الظاهرة السردية عند العرب، ودوّنت ذلك في يومياتي، ولم أتمكن من الوفاء بوعدي كاملاً إلا في عام 2016 بصدور الطبعة الكاملة من «موسوعة السرد العربي» في تسعة أجزاء، وقد شُغلت بذلك نحو ثلاثين عامًا متواصلة في القراءة والإعداد، والكتابة، والتحرير، والتصحيح، والطبع، شمل ذلك آلاف المصادر والمراجع عن الظاهرة السردية قديمها وجديدها، والاعتكاف على المصادر الأصلية، وإهمال الوسيطة إلا عند الضرورة. كانت هذه خطوة أولى من مشروع طموح بدأ يقترح عليّ أمورا لم تحضرني بتفاصيلها حينما عزمت على تنفيذ فكرة الكتاب الموسوعي، فكلّما توسّعت في القراءة تشعّبت القضايا موضوع البحث، وكلّما غصت في مصادر حقبة تاريخية من حقب السرد قادتني إلى مصادر حقبة أخرى. ومعلوم بأن الموضوعات تتوالد بالإفاضة في الاطلاع على المصادر، ودوام التفكير فيها، والتوسّع في تفاصيلها. وقد بدأت فعليا بكتابة خطوتي الأولى من ذلك المشروع بتسجيل أطروحتي للدكتوراه بجامعة بغداد في عام 1988، وكانت بعنوان «السردية العربيّة»، وبها وضعت الركيزة لما كنت أطمح إليه، وعليها بنيت الركائز الأخرى خلال العقود اللاحقة، وتوليت تنفيذها بتمامها من غير تعثّر.

موسوعة السرد
اتبعت خطة أنفّذ بها مشروعي الكتابي، وهي أن أبدأ بالجزء وصولاً للكلّ، ليس الكلّ النظري إنما التطبيقي الذي لا يكتمل إلا بالتدرج في تأليف سلسلة من الكتب المترابطة في باطنها، والمنفصلة في ظاهرها، تجعل من ذلك المشروع حقيقة مكتوبة مهما طال الزمن بي؛ فكلما انتهيت من موضوع له صلة بمشروعي في حقبة زمنية محدّدة أدفع به للنشر كتابًا قائمًا بذاته، وعلى هذا المنوال تعقّبت الظاهرة السردية خلال 1500 سنة في ثمانية كتب، شكّلت، فيما بعد، لُبّ «موسوعة السرد العربي». وفيما توهّم بعض القرّاء أنني أصدرت ثمانية كتب في ربع قرن حول السرد العربي القديم والحديث، كنت، في واقع الحال، قد كتبت الأجزاء الثمانية من كتاب موسوعي واحد وضعت تصميمه العام قبل وقت طويل من الشروع بأجزائه الكاملة. وقد أصدرت طبعتين تجريبيتين من ذلك الكتاب الموسوعي، إحداهما بمجلد كبير عام 2005، وثانيتها بمجلدين كبيرين في عام 2008، ضمّا كثيرًا مما كتبته في الموضوع. 
ومضيت على هذا المنوال في تأليف مشروع مواز، أطلقت عليه اسم «المطابقة والاختلاف»، وهو سلسلة كتب صمّمتها في أوائل تسعينيات القرن العشرين للبحث في موضوع «المركزيات الثقافية»، وانصرفت له بالتوازي مع عملي على «موسوعة السرد العربي»، وأصدرته في ثلاثة كتب متلاحقة، أكملها رابع بمجلدين كبيرين عن «عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين»، جمعت فيه نصوص الرحّالة خارج «دار الإسلام»، وكشفت طبيعة رؤيتهم المتحيزة ضد الشعوب التي كانت تعيش في «دار الحرب»، وداومت على تطوير الأفكار، وإعادة النظر فيها، وأصدرت المشروع في مجلد واحد كبير في عام 2004، قبل أن أتولّاه بالنظر، والتحرير، فاكتملت طبعته النهائية في عام 2018 في ثلاثة أجزاء، وتأدّى عن ذلك إضافات جوهرية في المقدّمات، والمداخل، والفصول لم تظهر في الطبعات المتفرّقة للمشروع الذي نضج على نار هادئة خلال ربع قرن. وعلى هذا فقد شُغلت بمشروعين متوازيين، وحرّرت كتابين فيهما، ولَم أحد عن مخطّطي، وقد التهم هذان الكتابان كل الكتب المفردة التي ظهرت بعناوين كثيرة، وبطبعات مختلفة، قبل ذلك. هذا قوام المخطط العام للتأليف الذي اتّبعته، ولعلّه يجيب عن تساؤلات كثيرة حول علّة إدراج كتبي في مشروعي: السرد العربي، والمركزيات الثقافية، فالأصل، كما أشرت، هو الخطة التي مضيت بها كاتبًا، واستغرقت معظم سنيّ عمري. 
  ليس المهم تواريخ نشر كل قسم من هذا الكتاب آنذاك، ولا إتمام الأمر بالطبعات الكاملة للمشروعين، إنما الأهم من كل ذلك، فيما أرى، هو أسلوب التأليف الذي اتّبعته في كتبي كلها من غير استثناء، ففي ضوء شغفي بموضوع السرد، ثم موضوع المركزيات الثقافية، ثم موضوع الإبصار والعمى، وموضوع أعراف الكتابة السردية، بعد ذلك، كنت أغوص في موضوعي غوصًا كاملاً، فلا يكاد يشغلني أمر سواه، فبعد أن أضع الإطار المرن للمشروع مع ما يتطلبه ذلك من تغيير بحسب مقتضيات البحث، أُشغل بالأجزاء المكونة له، فأضع خطة عامة لكلّ كتاب، وأتولّى تقسيم الكتاب إلى فصول، والفصول إلى فقرات، بالتزامن مع قراءة المصادر والمراجع والتفكير بالموضوع. فأكتب ذلك فصلاً بعد فصل، ولمّا كنت مرتبطًا بالكتابة الأسبوعية مع بعض الصحف الثقافية، أقسِّم ذلك الفصل على عدد من المقالات، ثم أنصرف إلى تحريرها حسب معايير النشر، وخلال مدة نشرها التي تستغرق أشهر عدة، أكون انتقلت إلى كتابة الفصل التالي من الكتاب، ويضع اكتمال نشر مقالات الفصل الأول تحت يدي مادة ينقصها الترابط، والتوثيق، والتوسّع، فأقوم به، مع تحرير الفصل مرة أخرى بما يفي الموضوع، وأنزع عنه ما يوحي بنشره في مقالات متفرّقة؛ لأنه كُتب في أصله فقرة من فصل، وفصلاً من كتاب، وكتابًا من مشروع.

وعدٌ وجهد
حينما أنتهي من تحرير الفصل بصورته الجديدة الموثّقة أنشره بحثًا معتمدًا في مجلة علمية محكمة أو مجلة ثقافية مرموقة، وعلى هذا يبدأ نشر بعض البحوث في المجلات الكبرى، وأنا منهمك في إكمال الفصول الأخرى من الكتاب، وحينما أنتهي من كل ذلك أجمع الفصول حسب الترتيب الذي أراه مناسبًا لخطتي الأصلية، وأبدأ في تحرير الكتاب من البداية إلى النهاية، بما في ذلك المقدمة، والخاتمة، والمصادر، والفهارس، فأضيف ما أراه مفيدًا، وأحذف ما أجده غير ذلك، وما إن أفرغ من ذلك حتى أدفع الكتاب لمصحح ضليع يمحو هفواته، وينزع عنه أخطاء توارت عن نظري خلال مراحل الكتابة الثلاث، ولا أكتفي بذلك، بل أتعقب صحّة كل شيء مع الناشر، فأطلب تصحيحًا وفهرسة لكتبي المفردة، وأخيرًا حينما يكتمل المشروع أنخرط في الترتيب والتصنيف، والتقديم والتأخير، فأحذف بعض المقدّمات التي لزمها نشر كتاب مفرد، وأدرج ما أظنه يعمّق الأفكار الخاصة بالمشروع، فقد اتسع فضاء التأليف، وصار قابلًا لكل ما أريده، ولَم أتمكن منه من قبل، بما في ذلك سعة الرؤية للموضوع، والتحقّق من الفرضيات، والبرهنة عليها، وهو أمر أبذل فيه جهدًا لا يقلّ عن جهد التأليف في صورته الأولى. وحينما قررت نشر الصيغتين النهائيتين لمشروعي «موسوعة السرد العربي» و«المطابقة والاختلاف» قدّت فريقًا أكاديميًا متخصصًا بالتصحيح والفهرسة عاونني في التدقيق النهائي، خشية الوقوع في خطأ ما عادت أمامي أي فرصة لتحاشيه، وبهذه الطريقة لم أفرغ من التأليف يومًا إلا ما ندر، فينبغي عليّ، ما دمت قد اخترت ذلك، أن أتولّى كل تلك المراحل يوما بعد يوم، وإلا أكون قد تنكّبتُ لوعدي الذي عاهدت به نفسي، وأنا في مقتبل عمري الثقافي.