فضاءات العالم الرقمي وإيقاع السرد في القصة القصيرة جدًّا

فضاءات العالم الرقمي وإيقاع السرد في القصة القصيرة جدًّا

عرفت البشرية، في السنوات الأخيرة، طوفانًا رقميًّا جامحًا لا يمكن إنكاره أو التغاضي عن قوة تأثيره في مختلف الشعوب، وفي العلاقة بالمحيط والآخر التي أصبحت محكومة بكثير من الضوابط الجديدة الناجمة عن تحولات في النظر إلى الواقع بشكل عام والإنتاج والتلقي في النصوص الإبداعية بشكل خاص. 

هيَّأ هذا المدَّ الرقمي السبيل لتحوّل واضح في الأولويات والروابط تجلت بعض بوادره في انعتاق الإبداع الأدبي من ضغط الشكل المادي، بما يخلقه من صعوبات في الانتقال من فضاء مكاني إلى آخر، ومن إشكالات الحفظ والتخزين وتكلفة الإنتاج وصعوبة الحفاظ على الحوامل الورقية وتداولاتها.
 في ظل هذه التغيرات التي قادت إلى مسار سريع التجدد والتطور حسب الطفرات التكنولوجية التي يصعب التنبؤُ بها وبمآلاتها القريبة والبعيدة، مست الأدب السردي رياح التجديد على مستويي الإنتاج والتلقي؛ وحملت معها بنياتٍ تعبيريةً ثوريةً في شكلها ومضمونها وفي تجاوبها مع التراث الفني اللغوي المحلي والإنساني، مُحدثة امتدادات نصية غنية بمرجعياتها ومتعددة في مساراتها وميولاتها الفنية في انسجام مع متطلبات عالم رقمي منغمس في الافتراضي حتى النخاع، ويرى الكون من خلال شاشات لا تفتأ تتطور وتتجدد، وتتجه نحو الخصوصية والدقة في الوسائط والمحفزات، حيث اتسعت مسافة العزلة والفصل بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة معًا.
 وكان لهذه المسافات ما يوازيها على مستويات تغيّر بنيات الإنتاج والنشر والقراءة والتلقي في مختلف الإنتاجات الأدبية التي عرفت تحولات بحجم تسارع وتائر التحول التكنولوجي. ومن ذلك الزخم الهائل في تدفقات المعلومة وكثرة تداولاتها وخضوعها لمفهوم الزمن التكنولوجي الذي لا يستقر على حال، ولا يعترف بالثبات والاستمرارية.
ولعل هذا ما يجعلنا نوجه البحث صوب قضية جوهرية تسعى إلى الجمع بين الرقمية بوصفها واقعًا معيشًا ومفروضًا بالفعل على كل المجتمعات، وبين جنس أدبي حديث له خصائصه التي ساعدت بشكل أو بآخر على إفادته من المد الرقمي إنتاجًا وتلقيًّا، وهي طبيعة هذه العلاقة وما قادت إليه من تجديدات أو تغيرات في الشكل والمضمون والهدف عبر محاولة الإجابة عن أسئلة مُلحَّة مثل: هل تمثل «ق. ق. ج» (القصة القصيرة جدًّا) استجابة إبداعية لعصر عولمي متغير تقوده تكنولوجيا الاتصال والإعلام قوامه الرقمية المطلقة وثورة اندفاع مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل يقفز «فيسبوك» و«تويتر» على الخصوصيات والثوابت المرجعية في الممارسة الأدبية الاعتيادية ويغيّر معالم الكتابة وأهدافها؟ ما الإضافات النوعية في إبداع العصر الرقمي؟ ما هي ركائزه؟ هل يعد نص «ق. ق. ج» طفرة صوب التعديل في الإنتاج والتلقي لمفهوم الأدب عامة والسرد خاصة؟ 

النشر الإلكتروني والقصة القصيرة جدًّا
يصعب الفصل بين الانتشار الواسع للقصة القصيرة جدًّا والإمكانات التي وفرتها تكنولوجيا الإعلام والاتصال في بعض مواقع التواصل الاجتماعي التي تُعنى بالأدب العربي بمختلِف أشكاله وأجناسه الفنية مثل «فيسبوك»، حيث يشير د. أحمد كريم مثلاً في حديثه عن الشعر والرقمية إلى أن «صفحات فيسبوك الفرديّة والجماعيّة للشعراء (أتاحت) تفاعلاً وانتشارًا غير محدودٍ، وهو تفاعل يتجاوز حدود المكان والزمان.
ففي لحظة واحدة يمكن لقصيدة أن تجوبَ بقاع الأرض، وأن تعُرضَ على مئاتِ الألوف من المتابعين والمهتمّين الفعليين، وعلى غيرهم ممن يُمكنُ أن يجدها عن طريق المصادفة».
فقد مكن الفضاء الأزرق من خلق قنوات تواصلية متعددة بين المنتج المبدع والمتلقي ووسم هذا التواصل بسمات السرعة والتميز كمًّا وكيفياً، عبر لقاء مستمر ومتجدد بين كتّاب القصة القصيرة جدًا وقرائها الهاوين والمتخصصين من النقاد من جهة، ومن جهة أخرى بين المبدعين أنفسهم في إطار تبادل التجارب والرؤى الجمالية والنقاشات الجانبية التي تمثّل كثيرًا ما تتوجُ بتصويبات وتعديلات للنص الأصلي.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد الصفحات والمجموعات التي تتخذ من القصة القصيرة جدًّا موضوعها الأول في تزايد، ويصعب حقيقة الثبات عند رقم معيّن؛ حيث إن هذه الصفحات والمجموعات وغرف الدردشة تختلف فيما بينها من حيث القيمة الإبداعية والبعد التصنيفي؛ فمنها القطري الخاص بدولة ما؛ مثل المغرب والسودان والعراق، ومنها المهني يجمع كتاب «ق. ق. ج» ونقادها، ومنها العام... إلخ.

مجموعات وروابط
بذلك، يمكن تصنيف معظم المجموعات وغرف الدردشة التابعة لـ «فيسبوك» التي تهتم بالقصة القصيرة جدًا وتجعلها موضوعها الأساس إلى عدة فئات أهمها:
- المجموعات القُطرية: التي تحمل في الغالب طابعًا شبه رسمي كالرابطة مثلاً، وترتبط بمنتوج دولة من الدول. والأمثلة على ذلك كثيرة: كرابطة القصة القصيرة في المغرب، والسودان، وسورية، والعراق، واليمن، وفلسطين.
- المجموعات العامة: وهي صفحات ومجموعات توسم بعناوين تشير فقط إلى الجنس الأدبي بشكل عام دون تحديدات وصفية لطبيعة المنتمين إليها ولا إلى القطر الذي تمثّله، ومن ذلك تلك التي وضعت باسم: القصة القصيرة جدًّا غفلًا عن أي سمة إضافية. وهذا يطرح مشكل الهوية والخصوصية والانسجام في المادة الإبداعية المنشورة والنقود والتعليقات والملاحظات التي تحوم حولها. 
- المجموعات المُحدَّدة بطبيعة الأعضاء: مثل المجموعات الخاصة بالكُتَّاب (كتّاب ق. ق. ج) والمبدعين (مبدعو ق. ق. ج)، وهي في الغالب تهم القاص المبدع أكثر من تمثيلها لمحافل القراء والنقاد، حيث تصبح فضاءات مختارة للنشر وإحداث تراكم نصي إبداعي قد تواكبه قراءات سريعة مستهدفة بعض النصوص.
وهنا لابد من التنبيه إلى أن غياب المرجعية النقدية أو خفوتها من شأنه أن يحول دون إبداع بنية نقدية وميتانصية بحجم وكثافة النصوص القصصية القصيرة جدًّا المنشورة والمتداولة على هذه الصفحات. 
تأتي معظم القصص «ق. ج» المنشورة في هذه المجموعات بإيقاعات كمية متباينة تم تحديد بعضها أحيانًا في ميثاق الانضمام أو التأسيس كالإشارة إلى ضرورة اقتصار القاص على نشر نص واحد في اليوم لفسح المجال لنصوص أخرى وكتّاب آخرين لنشر قصصهم وتعريضها للقراءات الأولية والآراء المصاحبة التي يمكن أن تمنح للنص صيغًا جديدة بعد التعديلات والتصويبات، أو تعمد إلى تثبيته نسبيًا وفق ما ذهب إليه القراء من آراء ومواقف.

إمكانات متحققة
من هنا، تغيّر مفهوم المؤلِّف نفسه، وتحوله من مؤلِّفٍ فردي وحيد متحمل لمسؤولية ما ينتجه وما يصدره ويخرجه إلى القارئ من إمكانات نصية متحققة بصيغ محددة قصد تلقيها إلى المؤلِّف المتعدِّد ويضحي التأليف - آنذاك - فعلاً جماعيًا يساهم طرفٌ أوّلي فيه بالإنتاج المبدئي ويشاركه العمل مؤلفون آخرون تكميليون لهم سلطة الحكم والتعديل والتصحيح والرفض والقَبول.
كما أثر النشر الإلكتروني وثورة التقانة الرقمية على القارئ أيضًا، ونقلاه من متلقّ يبني معاني النص ودلالاته ويملأ الفجوات والثغرات بما يؤطره من مرجعيات، إلى قارئٍ مرن يدخل ضمن محفل قرائي جماعي يدخل في حوارات ومفاوضات التقييم والحكم مع المؤلف الأصلي بشكل مباشر، ومع المتلقين الآخرين تعزيزًا لمواقفه وتصوراته أو مزاحمة وتكسيرًا لها.
هكذا، يتضح أن الطوفان الرقمي كان له أثر لا يخفى على إنتاج نصوص «ق. ق. ج» وتلقياتها العالمة الأكاديمية والانطباعية البسيطة على حد سواء. كما مكّن من تحقيق تواصل سريع وفعَّال - في الغالب - في تعديل النصوص المنشورة ومنحها شرعية الوجود قراءة، كما يمنحها المبدع شرعية الوجود إنتاجًا وإبداعًا، خاصة أنها مثّلت نصوصًا مقتضبة مكثفة شديدة الاختزال مرنةً طيعة للتداولات السريعة والنشر الإلكتروني التراكمي الانتقائي زمانًا، حيث تختفي النصوص القديمة لمصلحة الجديدة، بغضّ النظر عن معيار الجودة؛ فما يظهر ويحتل جدران الفضاء الأزرق ليس بالضرورة أن يكون على درجة من الجودة بما يبزُّ ما نُشر قبله واختفى خلف ركام الجديد. 
الشيء الذي يطرح الآن، بحدّة، هو طبيعة المصفاة القرائية وآليات الحذف أو الاستبقاء والمتابعة في قلب نشر النصوص الإبداعية القصيرة جدًّا. حتى لا يختفي بعضها بشكل عشوائي عبثي وفي غفلة عن قراءاتنا التي تسرع الخطى لتلاحق الجديد وتتابعه متابعات سريعة ومنتظمة لا تتوقف في الزمان ولا الفضاء، مع ترك انطباعات عَجْلى توازي في سرعتها تتابع نشر النصوص وتراكمها، فنقف أحيانًا عند أهون النقد وأوهنه، وهو طبع علامات الإعجاب أو الرفض والغضب، مما يسائل مصداقية هذه العلامات نفسها على مستوى مدى اقترانها بوعي نقدي مسبق، ومدى ارتكازها على الصرامة النقدية البناءة التي من شأنها أن تواكب النص القصصي القصير جدًّا، وتعمد إلى رسم مساراته الإبداعية الغنية في الحاضر والمستقبل.