تراجيديا الاغتراب في قصيدة الحُزْن لصلاح عبدالصبور

تراجيديا الاغتراب  في قصيدة  الحُزْن  لصلاح عبدالصبور

لا غرو أن العزلة حاجة إنسانية، هي المفرّ حين يَتيهُ الإنسان فلا يجد الحضن الدافئ لِيضمَّه، هي الملجأ حين توصد كل الأبواب، وحين يعيش المرء لحظات الضياع، فلا يجد بُدًّا من عيش اغترابه وقلقه الوجودي بعيدًا عن الواقع والمجتمع.
إن الاغتراب أن نواجه الذات بحقيقتها، حقيقة الانفصال، حقيقة الانقطاع عن حياة لَمْ تعد تُغري، لأن الجهل مستشرٍ بين الناس، أو لأن الواقع لم يعد يجيب عن تطلعاتها في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.

لا يخرج الشاعر، باعتباره ذاتا مُفكرة مُتأملة، عن هذه الحقيقة الراسخة، فهو فيلسوف الجماعة والناطق بلسانها، وهو الرَّائي الذي يقرر في لحظة ما لَمَّ أوراقه، واختيار وجهته بعيدًا عن المرتزقين والوصوليين والسّاسة واللصوص. 
كان طريق الشاعر العربي منذ القديم طريق اغتراب وحزن، ولنا في الشعراء الصعاليك خير مثال، حين هجروا القبيلة وقرروا أخذ حقهم بأيديهم، دون انتظار عدالة كاذبة، ولنا في ابن الرومي والحلاج والمعري نماذج ركبت خط العزلة، وقررت أن تنقطع بعيدًا عن عالم الزيف والمكر والخديعة. 
أما الشاعر الحديث، خاصة شاعر الرؤيا، فقد فلسف الاغتراب وجعله تيمة مركزية في أشعاره، إذ لا تكاد تخلو تجربة شاعر من هؤلاء من الاغتراب، مما جعلنا أمام قصائد تعكس القهر الروحي والمادي، والانفصام الوجداني، والقلق الوجودي.
ومن هؤلاء الشعراء الشاعر المصري صلاح عبدالصبور (1931 /1981م)، الذي اتسمت تجربته بالغنى والثراء، متأثرًا بالفلسفة الوجودية، وبالاشتراكية، والتجربة الصوفية، حيث اطّلع على كتابات لوركا ونيتشه والنِّفري وإليوت وغيرهم، مما أضــــفى علــــى تجربـــته بُعدًا واقعيًّا عميقًا. وسنحاول في هذا المقال إبراز حضور حسّ الاغتراب في قصيدته «الحزن».

من الاغتراب القيمي إلى الوجداني
منذ الوهلة الأولى، تطالعنا في قصيدة الشاعر لحظة نداء، بكل ما تحمل هذه اللحظة من معاني الشكوى والألم والاستنكار لوضع مأساوي بلغه الشاعر، فلم يعد يُطيقه، لذلك يقرر أن يفصح.
 يقول:
يا صاحبي، إني حزين
طلع الصباح، فما ابتسمت، ولم يُنِر وجهي الصباح
 إننا إزاء بوح دفين، هو بوح بنفحة مرارة بلا ضفاف، فالنداء تنبيه، واستثارة لوضعية تواصلية تستدعي الآخر «صاحبي»، وتستميله ليصغي ويتفاعل، بعد ذلك يصدح الشاعر بحقيقة الذات وما يختلج في أعماقها من خلجات: «إني حزين»... اعتراف مفعم بالغضب أو بعمق كله انكسار. لينقلنا الشاعر إلى لحظة أخرى يؤكد فيها رسوخ هذا الحزن في أعماقه واستمراريته «طلع الصباح، فما ابتسمت»، والصباح من المفروض أن يكون لون تجدّد، ولادة جديدة، إلا أنه في واقع الشاعر ليس إلا استئنافًا للمأساة التي يكتوي بنارها. فالصباح بإشراقته ونوره ليس إلا ظلمة في عيون الشاعر وفي مُحيَّاه، ولا غرو في ذلك، مادام شاعر الاغتراب «شاعر ثوري في الفكر والشعر والفن، يحذف الفواصل بين شخصيته وشعره التي يلتقي فيها الشاعر والإنسان في آن واحد، إن الشاعر يؤمن بالتمرد والثورة على الواقع الفاسد، منطلقًا من مفاهيم ترتكز على أصول فكرية وثقافية متعددة في الوقت ذاته، مستندًا إلى موقف يتسم بالحداثة والمواجهة لا الانكفاء على الذات أو الهروب إلى الطبيعة شأن الشعراء الآخرين».
لذلك نجد القصيدة عنده تتحول إلى سفر لا نهائي يحمل فيه الشاعر عذابات الأرض، إذ يغادر كوخه بحثًا عن الرغيف المُرِّ، رغيف الاغتراب، حيث الضياع والقهر والسَّحق، وحيث الإنسان يعيش في خضم تردّد وقلق مستمرين، يقول الشاعر:

وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف
ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش
فشربت شايًا في الطريق
ورتقت نعلي 

إنه ينعتق من غيابات المدينة، ومن أتون الضياع، يخرج من المدينة وكأنــــه يولــد من جديد، ينفلت ليبحث عن الرزق المتــــاح، فلا يعود إلا بقروش زهيدة، هي عنوان حزن وقهر في واقع لا يرحم أحدًا، واقع الاغتراب والموت الرتيب.
يزكي هذا المعطى في القصيدة الفعلان «خرجتُ/ رجعتُ»، مما يحيل على أن الشاعر يعيش في دوامة مفزعة لا أمل فيها ولا تجدد، فهو ينعتق ليعود، ينفلت ثم ينكسر عوده، فيُعلن الكفاف، ويستكين ليرتّق نعله، وليشرب شايًا هو علامة على الفقر المدقع، وعلى الانتماء الطبقي للشاعر، حيث البروليتاريا تكدّ وتحترق في سبيل لقمة العيش.
وبعد أن يحملنا الشاعر إلى عوالمه الحزينة المأساوية يصل بنا في سفره إلى لحظة العودة/ الأوبة، وهو يجرّ أذيال الخيبة، يصل بنا إلى المساء، وكأن نور نهاره قد انطفأ، وكأنه متلهّف لهذا المساء الذي انتظره طويلاً، وكأنه يتمنى أن يستمر المساء حتى يولد الحزن. يقول:

وأتى المساء
في غرفتي دلف المساء
والحزن يولد في المساء، لأنه حزن ضرير
حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم
حزن صموت

إننا في المقطع إزاء تراجيديا الألم والانكسار، تراجيديا الضياع والاغتراب، فالحزن هنا غصَّةٌ في حلق الشاعر، إذ يعلو لواء العذابات ويستحيل الشاعر سيزيفًا يحمل صخرة الحزن الذي لا ينتهي، يأتي المساء بغياهبه وظلماته ليطوي آمال الشاعر، يأتي بحرقاته ولظاه ليذكي القلق الوجودي في عوالم القصيدة. 
ولعل هذا البناء الاستعاري «أتى المساء» قد أضفى على التجربة نفحة دينامية حيوية جعلت المتلقي يتفاعل مع تجربة الشاعر، ويتماهى معه في اكتوائه بنار الضياع. 
وحتى يؤكد الشاعر تجدد الألم والحزن، فإنه يجعله يولد في المساء خِفية، بعيدًا عن أنظار الآخرين، يولد من رحم العزلة، من رحم عوالم الصوفية، حيث التأمل والتَّفكُّر، حيث العودة إلى الذات بحثًا عن اليقين الوجودي. إنه يتطلع إلى «الانعتاق من العالم المحيط به، إلى عالم من صنع نفسه».
إن حزن الشاعر حزن ضرير، حزن يمتد في دروب كلها جحيم ونار، حزن صموت قاس، حزن لا يرحم، إذ يفتح أجنحته على كل ركن في المدينة فلا يكاد يترك لأحد منفذًا للنجاة.
وحتى يؤثث الشاعر عوالم التجربة، وحتى يَسمها بمياسم الجِدَّة والعمق نجده يتوسل بتشبيهات معبّرة، إذ يقول:

حزن تمدد في المدينة
كاللِّص في جوف السكينة
كالأفعوان بلا فحيح
الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز
وأقام حكامًا طغاه
الحزن قد سمل العيون
ليقيم حكامًا طغاه 

يمتد الحزن في المدينة ليسرق الأحلام، ليخطف آخر شعاع يخفق، يمتد ليحيل الميادين أشباحًا تهتك سكون الفجر، هو كاللص يسطو ينهب الأشياء الجميلة، لكنه لا يترك أثرًا ولا يثير انتباه أحد، هو كالأفعوان يلسع، يذيق السم الزعاف للفقراء من دون أن يهمس، دون فحيح، ينشر المنايا دون جنازات، دون تشييع، دون نحيب ولا أنين، ولا أمارات فجيعة. يهزّ الأعماق ويمضي تاركًا الشاعر في أحزانه يتجرع نار العذابات.
إن حزن الشاعر حزن ملحمي، تراجيدي، مأساوي، يتجاوز الحزن المتعارف عليه، حزن الشاعر هو اهتزاز ذاكرته وإحساسه بالعزلة حين يرى الجهل ينخر الأوطان، حين يرى القمع والاستبداد، حين يرى السلطة تخطف الحلم من عيون الطفولة، تغتصب وجودها وحقها في الانعتاق من ربقة الظلام، حين يرى الرجعية تستأسد لتزيّف الحقائق ولتبيع الوهم للمعذبين في الأرض، حين يرى الحكام الطغاة يدوسون الحلم بأقدامهم النتنة، فتسقط قلاع الحرية وتُسْمَلَ عيون الحق والنضال والمقاومة.
إن قصيدة الشاعر صلاح عبدالصبور وثيقة تشهد على حقيقة الوطن العربي الذي ينخره الجهل والتخلف، والظلم والطغيان، إننا إزاء إحساس صادق عاشه الشاعر وهو يرى انهيار القيم والأخلاق، وتفكك البنيات الاجتماعية، وسحق الأثرياء للفقراء دون شفقة ولا رحمة، في واقع أضحى زورقًا بلا شراع، حيث الوجهة تاهت، وحيث الناس يجترون الخيبات، لذلك نجد الشاعر يرفض تزويق الكلام، أو بيع الوهم للناس بعيدًا عن إماطة اللثام عن الحقيقة المرّة التي على كل الشرفاء الإفصاح عنها. هكذا يدخل الشاعر في سجال مع صاحبه، فيقول:

ومضى يقول (يقصد صاحبه):
سنعيش رغم الحزن، نقهره، ونصنع في الصباح
أفراحنا البيضاء، أفراح الذين لهم صباح
ورنا إليَّ ولم تكن بُشراه مما قد يصدّقه الحزين
يا صاحبي؟
زَوِّق حديثك، كل شيء قد خلا من كل ذوق
أما أنا فلقد عرفت نهاية الحدر العميق
الحزن يفترش الطريق
لقد جاء المقطع مُفعمًا بالدهشة والقلق، لكن مُسحة حزم من الشاعر أنهت الدفقة الشعورية، ووصلت بالقصيدة إلى لحظة النهاية، التي هي في الحقيقة نهايات مفتوحة على الحزن والألم والبؤس والمأساة، فصاحب الشاعر في المقطع حاول أن يفتح باب الأمل، وأن يقول بأن الغد لا غرو مشرق، رغم كل الانكسارات، لكن الشاعر بكفكاويته ونظرته السوداوية للحياة، ارتأى عكس ما ظنه الصديق، خَاصَّةً حين قرأ في عينيه ارتباكًا وترددًّا (وَرَنَا إِلَيَّ)، فأيُّ أفراح بيضاء سينتظر الشاعر وهو يرى القهر والجهل والانحطاط تحيط به من كل الجوانب؟ أي أفراح وأي بُشرى سيتفاءل بها وهو يتجرع المرارة، والواقع أضحى مُدىً، والذوق أفل؟
يلجأ الشاعر في المقطع إلى صيغة النداء التي تحمل بين طياتها التعجب والاندهاش «يا صاحبي»، ثم ينتقل إلى صيغة الأمر البلاغي حتى يضفي على قصيدته عمقًا جماليًّا بلا ضفاف، «زَوِّق حديثك».
 
قصيدة بلا ضفاف
لا غرو أن الشاعر صلاح عبدالصبور يُعد علامة فارقة على انفتاح المنجز الشعري العربي الحديث على قضايا إنسانية واجتماعية وفلسفية، ومادام كذلك، فقد تميزت تجربته الشعرية بالصدق والعمق، دون تزييف للحقائق ودون تمسّك بالوهم، فقصيدة «الحزن» قصيدة بلا ضفاف، تمكّن فيها الشاعر من التعبير عن قلقه الوجودي، وعن أسئلة فلسفية وإنسانية ظلت تؤرّقه، حيث الجهل يحف بالإنسان من كل الجوانب، وحيــث الأقنــــعة ضيعــــت حقيقة الواقع، وحقيقة الإنسان العربي المنفصم المتلون اللاهث وراء حضارة الزيف، المرتبط بسلفية رجعية لا تعدو أن تكون اســــتدعاء للجمود ولأصنام الماضـــي، دون التفكيـــر في ابتداع أشكال قيمية وثقافية أكـثــــر رقيًّا وتحضرًّا، لذلك يختار الشاعر طريق الاغتراب، طريق الانقطاع في برجه بعيدًا عن ذهنيات تقليدية حاول عبر قصيدته إماطة اللثام عن تخلّفها وجمودها.