حقوق الإنسان... الجيل الرابع

حقوق الإنسان... الجيل الرابع

أحيت ألمانيا في التاسع من شهر نوفمبر الماضي ذكرى سقوط جدار برلين قبل 30 عامًا، إضافة إلى الثورة السلمية التي اندلعت فيما كان يعرف بألمانيا الشرقية سابقًا، في احتفال رسمي شهد حضورًا دوليًّا بارزًا، وقد حرصت على وجود زعماء كل من بولندا والمجر والتشيك وسلوفاكيا لتكريمهم، عرفانًا منها لدور بلدانهم في تحطيم الستار الحديدي في أوربا، وهدم جدار برلين في عام 1989م، الذي ظل يفصل بين منظومتي المعسكرين الشيوعي والرأسمالي. 
ذلك الحدث الدولي المهم كان بداية حقيقية لانهيار الاتحاد السوفييتي الذي تفكّك فعليًا نهاية ديسمبر 1991م، ودخول العالم مرحلة هيمنة القطب الواحد وأفكاره التي كان من أبرزها حقوق الإنسان.

 

في احتفال سقوط جدار برلين، قال الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير: «لولا الشجاعة وإرادة الحرية عند البولنديين والمجريين والسلوفاك والتشيك لما كانت الثورات في أوربا الشرقية وتوحيد ألمانيا أمورًا ممكنة»، وكان يعني تلك اللحظة التي سمح فيها حرس الحدود المجريين في شهر أغسطس 1989م للألمان الشرقيين بالعبور بكل حريّة إلى النمسا، لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي اعتُبر مؤشرًا حقيقيًا ملموسًا على ارتخاء قبضة الحكومات الشيوعية التابعة لموسكو في أوربا الشرقية، ناهيك بالثورات المتلاحقة التي أطاحتها، لذلك لم يكن مستبعدًا سقوط جدار برلين وتوحيد شطري ألمانيا، بعد ثلاثة أشهر فقط. 
ظل جدار برلين رمزًا للحد الفاصل بين عالمين ومنظومتين متنافرتين مهما بدتا متقاربتين، حتى لو كانوا أبناء بلد واحد، مثل ألمانيا التي تجلّى فيها التضاد بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي بأبهى صوَره، وعندما سقط ذلك الجدار انكشفت أمام العالم حقيقة وجود موجة قادمة ستجتاح معظم أرجائه، ومن سيرفض التغيير أو التكيف سيسقط لا محالة. 
لقد عمدنا إلى التركيز على أهمية سقوط جدار برلين ودخول العالم آنذاك في مرحلة القطب الواحد، لهدف رئيس هو تسليط الضوء على معضلة الوقوع في إسار حقوق الإنسان بمظهرها الحديث المتمثّل في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صدر في ديسمبر 1948م، بدول المعسكر الرأسمالي الذي استخدمته كسلاح في حربها مع خصومها بالمعسكر الشيوعي طوال فترة الحرب الباردة، وفي المقابل تحوّلت شعارات حقوق الإنسان إلى تهمة بالعمالة والتبعية للغربيين!! وكأنها - أي تلك الحقوق - صناعة رأسمالية وليست مسارًا تاريخيًا متراكمًا من التعاليم والمواثيق والشرائع السماوية وغير السماوية، انتهت لأن تكرّس في وثيقة عالمية تصدر من منظمة الأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر 1948.
تم توظيف حقوق الإنسان كمادة للصراع السياسي بين معسكرين متنازعين لعقود من الزمن بشكل أضرّ بحقوق شعوب وفئات ذهبت ضحية لتلك الصراعات، وفي ظل الجهد المتعمد لعدم وصول المعلومات في زمن كانت فيه أدوات الرقابة التقليدية فعّالة بشكل مذهل، غابت أو غيّبت معلومات أساسية عن حقيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمساهمات والظروف التي خرج فيها إلى النور.
تشكّلت لجنة حقوق الإنسان التي صاغت الإعلان العالمي من ثمانية عشر عضوًا يمثّلون خليطًا من الخلفيات الثقافية والسياسية والدينية والجغرافية، وكان للعرب حضور لافت في تلك اللجنة، متمثلًا في مصر ولبنان، وقد ترأست إليانور روزفلت (أرملة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت)، تلك اللجنة.
وبعد مدة من المناقشات والتعديلات، أقرت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان دون معارضة من أي دولة، مع امتناع 8 دول عن التصويت، وحدث كل ذلك بعِلم ووجود جميع دول المعسكرين الشيوعي والرأسمالي ودول أخرى غير منحازة لأي منهما. 

أجيال ثلاثة... ورابع ينتظر 
لقد تطورت مفاهيم حقوق الإنسان على الصعيدين النظري والعملي تبعًا، وأول من اقترح تقسيمها إلى ثلاثة أجيال رجل القانون التشيكي كاريل فاساك، وذلك في المعهد الدولي لحقوق الإنسان بمدينة ستراسبورغ الفرنسية، وتم إدراج أول جيلين من المطالب في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أما الجيل الثالث الذي سنتوقف عنده لاحقًا، فهو يعكس المطالبات المواكبة لمستجدات الحياة البشرية، ومستوى تطوّر الوعي الجمعي لكثير من المفاهيم مثل حماية البيئة.
ركّز الجيل الأول من حقوق الإنسان، بشكل واضح، على الحقــــوق المدنية والسياسية، وتندرج تحتها بنود مثل الحق فــــي الحيــــاة والأمن للفرد وحريّة التعبير والتصويت والحق في محاكمة عادلة وحريّة الأديان، والاعتراف بالشخصية القانونية للفرد، والمساواة في حق التمتع بحماية القانون، والإنصاف القضائي الفعّال في حالة أي انتهاك لحقوق الإنسان، والحرية من الاعتقال أو الاحتجاز أو النفي تعسفيًا، وافتراض براءة المتهم إلى أن تثبت إدانته، وعدم الإدانة عن فعل لم يكن يشكّل جريمة يعاقب عليها القانون وقت وقوع الفعل، والحرية من التدخل التعسفي في حياة الفرد الخاصة أو شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، وحرية التنقل واختيار محل الإقامة، بما في ذلك حق مغادرة الشخص أي بلد وحق العودة إلى بلده، وحق اللجوء، وحق التملك، وحرية الفكر والضمير والديانة، وحرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية، والحق في المشاركة بإدارة الشؤون العامة لبلده، والمساواة في تقلّد الوظائف العامة... إلخ.
وقد وردت تلك الحقوق في المواد من 3 إلى 21 في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولاحقًا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صدر عام 1966م في القانون الدولي.
أما الجيل الثاني فانصرف إلى المساواة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمختلف فئات المجتمع، وتشمل هذه الحقوق: العمل وحريّة اختيار العمل، وتقاضي مكافأة عادلة عن العمل تكفل للفرد معيشة لائقة بالكرامة الإنسانية، والضمان الاجتماعي، وإنشاء النقابات والانضمام إليها، والراحة وأوقات الفراغ، والتأمين في حالة البطالة أو المرض أو العجز أو الترمّل أو الشيخوخة، وغيرها من الظروف الخــــارجة عــن إرادة الفرد، وحماية الأمومة والطفولة، والتعليم، ومشاركة الفرد في الحياة الثقافية لمجتمعه، وقد وردت تلك الحقوق في المواد من 22 إلى 27 في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

العامل الزمني وتبدّل النظرة الإنسانية 
وعودة لما ذُكر في الفقرة السابقة عن تطوّر مفاهيم حقوق الإنسان على الصعيدين النظري والعملي، وتقدّم مجموعة من الحقوق لأن تأخذ مكانها كأولوية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لابد أن نشير إلى أهمية العامل الزمني وتبدّل النظرة الإنسانية لبعض الممارسات التي نعتبرها اليوم انتهاكات لحقوق الإنسان، لكنّها، حتى فترة قريبة نسبيًا، تعتبر عملاً شرعيًّا غير مجرّم، مثل تجارة العبودية التي كانت سائدة في كثير من مناطق العالم حتى أُلغيت.
والقصد أن الزمن الذي يستغرقه الوعي الجمعي في الحكم على بعض الممارسات أو المطالبات يختلف من مكان لآخر، وهذا الأمر طبيعي، لأن لكل تجمّع بشري موروثاته الثقافية والاجتماعية الخاصة به، كما يمكننا أن نضيف عاملًا جديدًا ومهمًا، وهو انفتاح العالم على نفسه ساهم بصورة صادمة في تسريع انتقال الأفكار والرؤى، وفيما كانت السفن البحرية والقطارات، ثم لاحقًا الطائرات، تعدّ في زمانها ثورة في التواصل بين البشر، انطوى العالم بأسره داخل جهاز صغير يسمى الهاتف الذكي.
يمثّل إعلان استوكهـــولم للبيئة في عام 1972، الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة البشرية، وإعلان «ريو» بشأن البيئة والتنمية في 1992، تعبيرًا صادقًا عن التطور في مفاهيم حقوق الإنسان واتساع نوعية المطالبات التي تتخطى كل حقوق الأجيال السابقة.
وبناء عليه، ظهرت مجموعة من الحقوق التي لقّبت بالجيل الثالث لحقوق الإنسان مثل: الحق في التنمية، ويعــــني حـــق كل إنسان وجميع الشعوب في المشاركة والإســـــهام بتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، والحق في بيئة صحية، وفي الموارد الطبيعية، وفي الاتصال وحقوق التواصــــل، وفي المشاركة في التراث الثقافي، وفي الاستدامة والإنصاف بين الأجيال، وحق تقرير المصير.

اختراقات حميدة
وفي اعتقادي أن مفهوم الحق في الاتصال وحقوق التواصل، عندما وضع أول مرة كان بالكاد يحاكي الزمن وأدواته التي وجد فيها، أمّا اليوم فقد أصبح الحق في استخدام الإنترنت وبكفاءة عالية واضحًا وجليًّا لدى الأفراد، ولعل قطع تلك الخدمة في مناطق محددة في أثناء الاضطرابات أكبر دليل على فاعلية الإنترنت في سرعة نقل الأحداث والمعلومات دون الحاجة إلى وسائل الإعلام التقليدية. لذلك لن يكون من المستغرب أن نجد الحق في استخدام شبكة الإنترنت مذكورًا في نصوص القوانين أو المذكرات الإيضاحية.
في الوقت الذي تعتبر فيه حقوق الجيل الثالث من حقوق الإنسان على قائمة الانتظار الدولي، لأن بعض الاختراقات الحميدة تحصل في دول معيّنة مثل تخصيص مناصب رفيعة لحماية البيئة أو تعيين مفوضين باختصاصات تحاكي الجيل الثالث في منظمات دولية مهمة مثل الاتحاد الأوربي، لكنّها، أي تلك الاختراقات، لم تأخذ بعدُ وضعَها الشامل على الصعيد الدولي، ظهرت ملامح بنود جديدة نسبت إلى الجيل الرابع من حقوق الإنسان، فيها كثير من عناوين العصر الحالي، مثل الحق في الموت الرحيم، والحق في نقل الأعضاء البشرية وزراعتها، والحق في الإنجاب بالمساعدة الطبية، والحق في الاستنساخ البشري... إلخ.

كم أنجزنا من الحقوق الأساسية؟
تلك البنود قد تبدو صادمة للكثيرين من المجتمعات، خصوصًا أن بعضها يتعارض مع المعتقدات الدينية، أو الموروثات الاجتماعية، لكن - وهنا بيتُ القصيد - كان هناك العديد من الأفكار المطالبة بحقوق الجيل الأول من حقوق الإنسان التي كانت مرفوضة ومستهجنة أول الأمر، لكنّها وجدت القبول لاحقًا بعد زمن قد يطول أو يقصُر، وهذا الأمر إن كان سيأخذ وقتًا طويلًا من النقاش، علينا ألا ننسى السؤال المحوري، وهو كم أنجزنا نحن من الحقوق الأساسية التي لا يوجد من يختلف عليها؟ لأن خلط الأوراق وإطالة أمد الجدال حول بند واحد بغرض تعطيل بقية البنود أسلوب قديم استخدمه كثير من الأنظمة المستبدة للحفاظ على مكتسباتها. 
في الختام، كثُرت تعريفـــات حقــــوق الإنسان، لكنني وجدت أن المعاني مشتركة والمقاصد متداخلة، إذ يُقصد بحقوق الإنسان، تلك المطالب التي يتعيّن الوفاء بها لجميع الأفراد دونما تمييز بينهم، سواء بسبب النوع أو الجنس أو اللون أو العقيدة أو الأصل، أو أي سبب آخر. 
ويجب أن يكفل للأفراد جميعًا التمتع بهذه الحقوق أو المطالب بحكم أنهم بشر، وباعتبار أن وجودهم بهذه الصفة لا يتحقق إلا بذلك.
لقد عرَّفت مواثيق الأمم المتحدة مفهوم حقوق الإنسان تعريفًا موجزًا وشاملًا في الوقت نفسه، حين أوردت أنها الحقوق المتأصلة في طبيعتنا، والتي لا يتسنى بغيرها أن نعيش عيشة البشر، فهل يــــوجد مَن يختلف على ذلك؟  ■