مذكّرات رجل مجهول

مذكّرات رجل مجهول

هذا‭ ‬عنوان‭ ‬لافت‭ ‬للانتباه‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يؤدي‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬المُفارقة‭ ‬في‭ ‬سياقه،‭ ‬أعنى‭ ‬تركيبًا‭ ‬لغويًّا‭ ‬ظاهره‭ ‬يُخالف‭ ‬باطنه،‭ ‬فالحديث‭ ‬عن‭ ‬رجلٍ‭ ‬مجهولٍ‭ - ‬بعد‭ ‬إرجاع‭ ‬المجاز‭ ‬إلى‭ ‬حقيقته‭ - ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬دلالة‭ ‬غير‭ ‬المراد‭ ‬من‭ ‬ظاهره؛‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬حديثًا‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬مجهول‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬معلوم،‭ ‬لكنّ‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬المفارقة‭ ‬التي‭ ‬تُظهر‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬تُبطن،‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحيلة‭ ‬التي‭ ‬يُريد‭ ‬بها‭ ‬الشاعر‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬أن‭ ‬يُنطق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬العادي،‭ ‬وأن‭ ‬يتكلم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قناع‭ ‬المفرد‭ ‬إلى‭ ‬صيغة‭ ‬الجمع‭. ‬أعني‭ ‬يرد‭ ‬المُفرد‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬الجمع‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أي‭ ‬إنسان،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬المفارقة‭ ‬وسببها‭ ‬في‭ ‬آن‭.‬

لكنّ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬ارجل‭ ‬مجهولب‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مفيدًا،‭ ‬فالتجهيل‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الحيلة‭ ‬البلاغية‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬أي‭ ‬إنسان،‭ ‬والتي‭ ‬تعني‭ ‬قانون‭ ‬الاحتمال‭ ‬والضرورة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬أرسطو‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬افن‭ ‬الشعرب‭. ‬ولذلك‭ ‬يبدأ‭ ‬الشاعر‭ ‬مذكرات‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬المجهول‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭:‬

أصحو‭ ‬أحيانًا‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬لي‭ ‬اسمًا

أو‭ ‬وطنًا،‭ ‬أو‭ ‬أهلًا

أتمهّلُ‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬الحجرة‭ ‬حتى‭ ‬يدركني‭ ‬وجداني

فيثيب‭ ‬إليّ‭ ‬بداهة‭ ‬عرفاني

متمهلة‭ ‬في‭ ‬رأسي،‭ ‬تهوي‭ ‬في‭ ‬أطرافي‭ ‬ثِقلًا

تُلقِي‭ ‬مرساها‭ ‬في‭ ‬قلبي‭...‬

هذا‭ ‬يوم‭ ‬مكرور‭ ‬من‭ ‬أيامي

يوم‭ ‬مكرور‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬العالم

تلقيني‭ ‬فيه‭ ‬أبواب‭ ‬في‭ ‬أبواب

ويغللني‭ ‬عرقي‭ ‬ثوبًا‭ ‬نسجته‭ ‬الشمس‭ ‬الملتهبة

وأعود‭ ‬إلى‭ ‬بيتي‭ ‬مقهورًا

لا‭ ‬أدري‭ ‬لِي‭ ‬اسمًا

أو‭ ‬وطنًا

أو‭ ‬أهلًا

والمقطع‭ ‬دال‭ ‬على‭ ‬مدلولاته،‭ ‬رغم‭ ‬مُراوغاتها،‭ ‬فالكائن‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬نعرفه‭ ‬يقدّم‭ ‬لنا‭ ‬نفسه‭ ‬تقديمًا‭ ‬دراميًّا،‭ ‬أشبه‭ ‬بمنولوج‭ ‬يقدّم‭ ‬به‭ ‬البطل‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬من‭ ‬المسرحيات‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬كائن‭ ‬لا‭ ‬يَعِي‭ ‬الغاية‭ ‬أو‭ ‬العِلّة،‭ ‬أو‭ ‬الهدف‭ ‬الأسمى‭ ‬والأسنى‭ ‬من‭ ‬وجوده‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬ولذلك‭ ‬فهو‭ ‬يصحو‭ ‬أحيانًا‭ ‬غائبًا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬مُغيبًا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يستيقظ‭ ‬من‭ ‬إغماءة‭ ‬طويلة‭ ‬أو‭ ‬قصيرة،‭ ‬لكن‭ ‬تعقبها‭ ‬إفاقة‭ ‬فلا‭ ‬يدري‭ ‬بعد‭ ‬صحوته‭ ‬المُفاجِئة‭ ‬اسمه‭ ‬أو‭ ‬وطنه‭ ‬أو‭ ‬أهله،‭ ‬فيظل‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬بينية‭ ‬تتوسط‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬اليقظة‭ ‬والنوم،‭ ‬أو‭ ‬الوعي‭ ‬واللاوعي،‭ ‬أو‭ ‬الحضور‭ ‬والغياب‭ ‬إذا‭ ‬أردنا‭ ‬الدقة،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يُدرك‭ ‬لنفسه‭ ‬اسمًا‭ ‬أو‭ ‬وطنًا‭ ‬أو‭ ‬أهلًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬يُسقِط‭ ‬الغياب‭ ‬فيها‭ ‬ظِلَّه‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬الحضور‭.‬

 

يوم‭ ‬مكرور

‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يتمهل‭ ‬قليلًا‭ ‬ويسير‭ ‬بعض‭ ‬الخطوات‭ ‬حتى‭ ‬يسترجع‭ ‬وعيه‭ ‬كاملًا،‭ ‬ويُفيق‭ ‬من‭ ‬ضياعه‭ ‬أو‭ ‬يسترجع‭ ‬حضوره‭ ‬من‭ ‬غيابه،‭ ‬حتى‭ ‬تتداعى‭ ‬على‭ ‬وعيه‭ ‬معاني‭ ‬الأشياء‭ ‬ومعارفها‭ ‬مُتمهلة،‭ ‬متأنية‭ ‬كي‭ ‬يستوعبها‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬بما‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬حاله‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يفارقها‭ ‬حال‭ ‬الغياب‭ ‬تمامًا‭. ‬

وعندما‭ ‬يعود‭ ‬إليه‭ ‬الوعي‭ ‬يكتشف‭ ‬أن‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬فيه،‭ ‬هو‭ ‬يوم‭ ‬لا‭ ‬يفترق‭ ‬عن‭ ‬سابقه،‭ ‬ولن‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬لاحقه،‭ ‬فهو‭ ‬يوم‭ ‬مكرور‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬العالم،‭ ‬تخرج‭ ‬الذات‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬كأنها‭ - ‬وكأننا‭ ‬معها‭ - ‬نسير‭ ‬في‭ ‬ممر‭ ‬طويل‭ ‬بلا‭ ‬نهاية،‭ ‬ندخل‭ ‬كي‭ ‬نخرج‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬يُسلمنا‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬غيره،‭ ‬والباب‭ ‬الذي‭ ‬يلقانا‭ ‬يسلمنا‭ ‬إلى‭ ‬غيره‭. ‬وهكذا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬وضعٍ‭ ‬أشبه‭ ‬بوضع‭ ‬سيزيف‭ ‬في‭ ‬الأسطورة‭ ‬الوجودية،‭ ‬الذي‭ ‬حكمت‭ ‬عليه‭ ‬الآلهة‭ ‬الوثنية‭ ‬لليونان‭ ‬القديمة‭ ‬بأن‭ ‬يحمل‭ ‬حجرًا‭ ‬ضخمًا‭ ‬من‭ ‬أدنى‭ ‬السفح‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬القمة،‭ ‬كي‭ ‬يعاود‭ ‬الحجر‭ ‬الضخم‭ ‬سقوطه،‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬سيزيف‭ ‬ليحمله‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى،‭ ‬مُكرِّرًا‭ ‬الفعل‭ ‬العبثي‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية،‭ ‬كأنه‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬المجهول‭ ‬الذي‭ ‬تُلقيه‭ ‬الأقدار‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬إلى‭ ‬باب،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتفصد‭ ‬منه‭ ‬العرق‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬الجهد‭ ‬ووقدة‭ ‬الشمس‭ ‬الملتهبة،‭ ‬فلا‭ ‬يدرك‭ ‬الغاية‭ ‬ولا‭ ‬ينتهي‭ ‬ما‭ ‬يفعله،‭ ‬فيدخل‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الغياب،‭ ‬تاركًا‭ ‬وراءه‭ ‬حال‭ ‬الحضور‭ ‬أو‭ ‬الوعي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬بالخيبة‭ ‬والضياع،‭ ‬وفي‭ ‬حال‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬الوعي‭ ‬أو‭ ‬الذاكرة،‭ ‬فلا‭ ‬يعرف‭ ‬له‭ ‬اسمًا،‭ ‬أو‭ ‬وطنًا،‭ ‬أو‭ ‬أهلًا‭.‬

 

مسرحية‭ ‬بلا‭ ‬معنى

هكذا‭ ‬ينتهي‭ ‬المقطع‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬معانيها‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬فصولها،‭ ‬بل‭ ‬ننوس‭ ‬فيما‭ ‬نراه‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬حالي‭ ‬الصحو‭ ‬والغيب،‭ ‬حتى‭ ‬ينتهي‭ ‬المقطع،‭ ‬لكن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬نشعر‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬التعاطف‭ ‬الذي‭ ‬يدني‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مفتتح‭ ‬القصيدة،‭ ‬فنغدو‭ ‬إياها‭ ‬كما‭ ‬تغدو‭ ‬هي‭ ‬إيّانا‭. ‬هكذا‭ ‬ندخل‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القصيدة،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭:‬

 

هذا‭ ‬يوم‭ ‬تافه

مزقناه‭ ‬إربًا‭ ‬إربا

ورميناه‭ ‬للساعات

هذا‭ ‬يوم‭ ‬كاذب

قابلنا‭ ‬فيه‭ ‬بضعة‭ ‬أخبارٍ‭ ‬أشتاتٍ‭ ‬لُقطاءْ

فأعنّاها‭ ‬بالمأوى‭ ‬والأقوات

وولدنا‭ ‬فيه‭ ‬كذبًا‭ ‬شخصيًّا،

نمَّيناه‭ ‬حتى‭ ‬أضحى

أخبارًا‭ ‬تعدو‭ ‬في‭ ‬الطرقات

هذا‭ ‬يوم‭ ‬خوّان

سألونا‭ ‬قبل‭ ‬الصبح‭ ‬عن‭ ‬الحق‭ ‬الضائع

فنكرناه‭ ‬وجحدناه

وتمسَّينا‭ ‬في‭ ‬الحانات

ودفعنا‭ ‬أجرة‭ ‬رشوتنا،‭ ‬ثمن‭ ‬فطانتنا‭ ‬الصفراء

بين‭ ‬ضجيج‭ ‬الكاسات

هذا‭ ‬يوم‭ ‬بِعناه‭ ‬للموت‭ ‬اليومي

بحياة‭ ‬زائفة‭ ‬صلدة

وفرحنا‭ ‬أنّا‭ ‬ساومناه

وخدعناه،‭ ‬ومكسناه

ما‭ ‬أحسن‭ ‬أنّا‭ ‬علَّقنا‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الغارب‭...‬

في‭ ‬منحدر‭ ‬الشمس

فهوت‭ ‬ببقاياه

 

وفي‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬الثاني‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬بعدنا‭ ‬عن‭ ‬الاستهلال‭ ‬أو‭ ‬التعريف‭ ‬بالذات‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬تقدّم‭ ‬نفسها،‭ ‬وندخل‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬أيامها‭ ‬فلا‭ ‬نجد‭ ‬شيئًا‭ ‬ما‭ ‬ذا‭ ‬قيمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يمرّ‭ ‬بلا‭ ‬إنجاز‭ ‬أو‭ ‬فعل‭ ‬إيجابي‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬حياة،‭ ‬فهو‭ ‬يوم‭ ‬حياة‭ ‬كالموت،‭ ‬أو‭ ‬يوم‭ ‬ميت‭ ‬يشبه‭ ‬أيام‭ ‬الحياة‭ ‬السلبية،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬يسلب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬إيجاب‭ ‬يرتبط‭ ‬بالحياة‭ ‬ليكدّس‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬السلبيات‭ ‬التي‭ ‬تردُّ‭ ‬الحضور‭ ‬إلى‭ ‬الغياب‭ ‬وتجعل‭ ‬الحياة‭ ‬أشبه‭ ‬بالموت،‭ ‬فتُرينا‭ ‬الموتى‭ ‬الأحياء،‭ ‬أو‭ ‬الأحياء‭ ‬الموتى‭ ‬الذين‭ ‬تحدَّث‭ ‬عنهم‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬قصائده‭.‬

ولذلك‭ ‬فهو‭ ‬يوم‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬القيمة،‭ ‬بلا‭ ‬إنجاز،‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يُذكر‭ ‬أو‭ ‬نتحدث‭ ‬في‭ ‬صفحته‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬فعل‭ ‬خلّاق،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فهو‭ ‬يوم‭ ‬تافه‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬نرميه‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬حياتنا‭ ‬وننساه‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ - ‬فوق‭ ‬تفاهته‭ - ‬هو‭ ‬يوم‭ ‬كاذب‭ ‬نتلقى‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬الكاذبة‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتفاعل‭ ‬معها،‭ ‬متوهّمين‭ ‬أنها‭ ‬حقائق،‭ ‬فنُسهم‭ ‬في‭ ‬أكاذيبها،‭ ‬ونضيف‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬الكذب‭ ‬ما‭ ‬نصدقه‭ ‬وما‭ ‬نسعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نقنع‭ ‬الآخرين‭ ‬به،‭ ‬فيتحول‭ ‬ما‭ ‬أسهمنا‭ ‬في‭ ‬صُنعه‭ ‬من‭ ‬أكاذيب‭ ‬وأوهام‭ ‬وأباطيل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يُشبه‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬تعدو‭ ‬في‭ ‬الطرقات،‭ ‬مخايلة،‭ ‬متخايلة،‭ ‬توهم‭ ‬الآخرين‭ ‬أنها‭ ‬حقائق،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬أسهمنا‭ ‬في‭ ‬صنعها،‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬أكاذيب‭ ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يصدقها‭ ‬العقل‭. ‬

 

حيوات‭ ‬زائفة

ويزداد‭ ‬الأمر‭ ‬مأساوية‭ ‬حين‭ ‬نَقبل‭ ‬ما‭ ‬يبيعه‭ ‬لنا‭ ‬الآخرون‭ ‬من‭ ‬أكاذيب‭ ‬وأباطيل‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬أسهمنا‭ ‬في‭ ‬صنعها،‭ ‬فنكاد‭ ‬نَتقبَّلها‭ ‬بين‭ ‬ضجيج‭ ‬الكلمات،‭ ‬أو‭ ‬بريق‭ ‬التخييلات،‭ ‬فلا‭ ‬يبقى‭ ‬لنا‭ ‬سوى‭ ‬إدراك‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬إننا‭ ‬اشترينا‭ ‬الضلالة‭ ‬بالهدى،‭ ‬فما‭ ‬ربحت‭ ‬تجارتنا،‭ ‬وبِعنا‭ ‬الحياة‭ ‬للموت،‭ ‬فلم‭ ‬نربح‭ ‬سوى‭ ‬حيوات‭ ‬زائفة‭ ‬صلدة،‭ ‬عندما‭ ‬لم‭ ‬يبقَ‭ ‬أمامنا‭ ‬سوى‭ ‬النهاية،‭ ‬أو‭ ‬الموت‭ ‬الذي‭ ‬حاولنا‭ ‬التحايل‭ ‬عليه‭ ‬وتصوّرنا‭ ‬أننا‭ ‬خدعناه،‭ ‬لكن‭ - ‬والحق‭ ‬يقال‭ - ‬لم‭ ‬نخدع‭ ‬سوى‭ ‬أنفسنا،‭ ‬ولم‭ ‬نفعل‭ ‬سوى‭ ‬أننا‭ ‬راقبنا‭ ‬انتهاء‭ ‬اليوم‭ ‬الغارب‭ ‬من‭ ‬حياتنا‭ ‬في‭ ‬منحدر‭ ‬شمس‭ ‬الغروب،‭ ‬أو‭ ‬نهاية‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬نعيشها،‭ ‬فهوت‭ ‬بقية‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬بما‭ ‬تبقَّى‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬هوة‭ ‬العدم‭ ‬أو‭ ‬الموت‭. ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أننا‭ ‬هبطنا‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬كجثامين‭ ‬الموتى‭ ‬حين‭ ‬يدفنون‭ ‬بكل‭ ‬أكاذيبهم‭ ‬في‭ ‬باطن‭ ‬الأرض،‭ ‬فلا‭ ‬تكون‭ ‬النتيجة‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬نفسها‭ ‬تتلوث‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬جلبه‭ ‬إليها‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬الموتى‭ ‬الأحياء‭ ‬أو‭ ‬الأحياء‭ ‬الموتى‭. ‬هكذا‭ ‬ينتهي‭ ‬المقطع‭ ‬الثاني‭ ‬لندخل‭ ‬إلى‭ ‬الثالث،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭:‬

 

الأرض‭ ‬بغيّ‭ ‬طامث

لا‭ ‬يُطهرها‭ ‬حمل‭ ‬أو‭ ‬غُسل

مَن‭ ‬ضاجعها‭ ‬ملعون

الأبنية‭ ‬المرصوصة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المارين‭ ‬سجون

سجّانوها‭ ‬الحيطان‭ ‬وقرب‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الإنسان

سجنًا‭ ‬أبديًّا‭... ‬يا‭ ‬مسجون

والأيام‭ ‬الأشراك

من‭ ‬تحت‭ ‬مُلاءتها‭ ‬أخفتها‭ ‬عنا‭ ‬مائدة‭ ‬الإفطار

في‭ ‬الشارع‭ ‬غطَّتها‭ ‬أوراق‭ ‬الأشجار

علبُ‭ ‬التبغ‭ ‬المُلقاة،‭ ‬وأوراق‭ ‬الصُّحف‭ ‬الممزوقة

والبسمةُ‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬الجار

فاسقط‭ ‬يا‭ ‬مطعون

 

في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬ترتفع‭ ‬القصيدة‭ ‬إلى‭ ‬ذروة‭ ‬من‭ ‬ذُراها‭. ‬وهي‭ ‬ذروة‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الحاضر‭ ‬بالماضي‭ ‬أو‭ ‬علاقة‭ ‬الشاعر‭ ‬بتراثه،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أننا‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬كيف‭ ‬يستفيد‭ ‬عبدالصبور‭ ‬من‭ ‬جده‭ ‬الحكيم‭ ‬الشاعر‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري،‭ ‬ويأخذ‭ ‬عنه‭ ‬بعض‭ ‬صفات‭ ‬السلب‭ ‬التي‭ ‬يناقلها‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬بين‭ ‬المرأة‭ ‬والأرض،‭ ‬لكن‭ ‬عبدالصبور‭ ‬يُسرف‭ ‬في‭ ‬هجاء‭ ‬الأرض،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يسرف‭ ‬في‭ ‬هجاء‭ ‬الوجود‭ ‬الذي‭ ‬يراه‭ ‬وجودًا‭ ‬محكومًا‭ ‬بالعدم‭.‬

 

شراك‭ ‬متربصة

لذلك‭ ‬تبدأ‭ ‬القصيدة‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة‭ ‬التشبيهية‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬بغيًّا‭ ‬أو‭ ‬عاهرة،‭ ‬لكنها‭ ‬ليست‭ ‬عاهرة‭ ‬عادية،‭ ‬وإنما‭ ‬عاهرة‭ ‬ملعونة‭ ‬تُبيح‭ ‬نفسها‭ ‬للآخرين‭ ‬وهي‭ ‬طامث‭ ‬مُدماة‭ ‬لا‭ ‬يردعها‭ ‬دم‭ ‬حيضها‭ ‬عن‭ ‬غواية‭ ‬من‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬شِراكها،‭ ‬فهي‭ ‬أرض‭ ‬ملعونة‭ ‬لا‭ ‬يطهّرها‭ ‬ماء‭ ‬أو‭ ‬غُسل،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الحمل‭ ‬الذي‭ ‬إن‭ ‬حدث‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المصادفة‭ - ‬فهو‭ ‬حمل‭ ‬ملعون‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬أمل‭ ‬فيه‭.‬

وعندما‭ ‬يهبط‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬الكلّي‭ ‬للكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬إلى‭ ‬العناصر‭ ‬الصغيرة‭ ‬الموجودة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أسطح‭ ‬من‭ ‬أبنية‭ ‬أو‭ ‬بشر‭ ‬أو‭ ‬أيام‭ ‬أو‭ ‬فصول،‭ ‬انسربت‭ ‬اللعنة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬الأم‭ ‬الأسطورية‭ ‬إلى‭ ‬الأبنية‭ ‬التي‭ ‬تتراص‭ ‬أمام‭ ‬البشر‭ ‬كأنها‭ ‬سجون،‭ ‬سُجّانها‭ ‬الحيطان‭ ‬والجدران‭ ‬والأعمدة‭ ‬الخرسانية‭ ‬التي‭ ‬تسند‭ ‬الجدران‭ ‬أو‭ ‬الأسقف،‭ ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬علاقة‭ ‬حقيقية‭ ‬حية‭ ‬بين‭ ‬إنسان‭ ‬وإنسان،‭ ‬فالبشر‭ ‬يعيش‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬يفصله‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬جدار‭ ‬كأنه‭ ‬جدار‭ ‬سجن‭.‬

أما‭ ‬الأيام‭ ‬فينسرب‭ ‬إليها‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬السلبي،‭ ‬ولكن‭ ‬يُحيلها‭ ‬لي‭ ‬شراك‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬خيوطها‭ ‬الكائن‭ ‬التائه‭ ‬بلا‭ ‬معنى‭. ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬االأشراكب‭ (‬جمع‭ ‬شَرَك‭) ‬تتربص‭ ‬بنا‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬تُخادعنا‭ ‬عنها‭ ‬أوراق‭ ‬الأشجار،‭ ‬أو‭ ‬علب‭ ‬التبغ‭ ‬الملقاة،‭ ‬أو‭ ‬أوراق‭ ‬الصحف‭ ‬الممزُوقَة،‭ ‬أو‭ ‬البسمة‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬الجار،‭ ‬كلها‭ ‬شِراك‭ ‬تتربص‭ ‬بنا‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬متأهّبة‭ ‬لتوقعنا‭ ‬في‭ ‬حبائلها،‭ ‬فلا‭ ‬نملك‭ ‬إلا‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬حبائلها‭ ‬ملعونين‭ ‬منطوين‭ ‬على‭ ‬الخطأ‭ ‬الجذري‭ ‬الذي‭ ‬ارتكبناه‭ ‬عندما‭ ‬أحببنا‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬وأصبحنا‭ ‬من‭ ‬صُلبها‭. ‬

وبهذه‭ ‬النظرة‭ ‬التشاؤمية‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ - ‬مجرد‭ ‬الحضور‭- ‬مأساة‭ ‬قاتلة‭ ‬تُسقِط‭ ‬أي‭ ‬معنى‭ ‬من‭ ‬معاني‭ ‬القيمة‭ ‬أو‭ ‬الحرية‭ ‬أو‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬النجاة‭ ‬ينتهي‭ ‬المقطع‭ ‬الثالث،‭ ‬ليبدأ‭ ‬الرابع؛‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭:‬

 

الحمد‭ ‬لنعمته‭ ‬من‭ ‬أعطانا‭ ‬هذا‭ ‬الليل

صمتُ‭ ‬الأشياء‭ ‬وسادتنا

والظلمة‭ ‬فوق‭ ‬مناكبنا

ستر‭ ‬وغطاء

الحمد‭ ‬لنعمته‭ ‬من‭ ‬أعطانا‭ ‬الوحدة

لنعود‭ ‬إليها‭ ‬حين‭ ‬يموت‭ ‬اليوم‭ ‬الغارب

ونلمّ‭ ‬الأشلاء

الحمد‭ ‬لنعمته‭ ‬من‭ ‬أعطانا‭ ‬ألا‭ ‬نختار

رسم‭ ‬الأقدار

فلو‭ ‬اخترنا‭ ‬لاخترنا‭ ‬أخطاء‭ ‬أكبر

وحياة‭ ‬أقسى‭ ‬وأمرّ

وقتلنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬ندمًا

ثمن‭ ‬الحرية‭... ‬ما‭ ‬دُمنا‭ ‬أحرار

 

إشارة‭ ‬إيجابية

هذا‭ ‬المقطع‭ ‬نتيجة‭ ‬مُترتبة‭ ‬على‭ ‬المقطع‭ ‬السابق،‭ ‬ولذلك‭ ‬يبدأ‭ ‬كله‭ ‬بعبارة‭ ‬تتكرر،‭ ‬والتكرار‭ ‬سمة‭ ‬بلاغية‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬والبداية‭ ‬هي‭ ‬االحمد‭ ‬لنعمته‭ ‬من‭ ‬أعطانا‭ ‬هذا‭ ‬الليلب،‭ ‬والإشارة‭ ‬الإيجابية‭ ‬إلى‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬هي‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يستر‭ ‬ويخفي،‭ ‬فلا‭ ‬يُتيح‭ ‬للعين‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬اختبأ‭ ‬فيه‭ ‬أو‭ ‬استتر‭ ‬عنها،‭ ‬فرارًا‭ ‬من‭ ‬الانفضاح‭ ‬والانكشاف،‭ ‬ولذلك‭ ‬فالليل‭ ‬هو‭ ‬نعمة‭ ‬لمن‭ ‬أراد‭ ‬الاختفاء‭ ‬أو‭ ‬آثر‭ ‬المُضيّ‭ ‬في‭ ‬الغياب،‭ ‬فهو‭ ‬مريح‭ ‬كالصمت‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وسادةَ‭ ‬الهاربين‭ ‬من‭ ‬ضوء‭ ‬النهار،‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الظلام‭ ‬ستر‭ ‬وغطاء‭ ‬لكل‭ ‬الهاربين‭ ‬من‭ ‬عار‭ ‬الوجود‭ ‬وسلبياته،‭ ‬وعندما‭ ‬يتكرر‭ ‬االحمدب‭ ‬يأتي‭ ‬معنى‭ ‬الوحدة‭ ‬التي‭ ‬تجمعنا‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الضوء،‭ ‬والتي‭ ‬تفرِّقنا‭ ‬مع‭ ‬وقدة‭ ‬الوعي‭ ‬بالحضور‭ ‬اليومي‭ ‬الذي‭ ‬يحيل‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬غابة،‭ ‬والأحياء‭ ‬إلى‭ ‬حيوانات‭.‬

وعندما‭ ‬يغرب‭ ‬الضوء‭ ‬وتأتي‭ ‬الظلمة‭ ‬لا‭ ‬تتبقى‭ ‬من‭ ‬وحدة‭ ‬الإنسان‭ ‬أو‭ ‬الإنسانية‭ ‬إلا‭ ‬الأشلاء،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬الحمد‭ ‬الأخير‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬خَلقنا‭ ‬مُجبرين‭ ‬لا‭ ‬مُسيّرين،‭ ‬لا‭ ‬نملك‭ ‬قدرة‭ ‬الاختيار‭ ‬على‭ ‬رسم‭ ‬الأقدار،‭ ‬فلو‭ ‬كان‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬منحنا‭ ‬هذه‭ ‬القدرة‭ ‬لاخترنا‭ ‬أخطاء‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أخطائنا‭ ‬وحياة‭ ‬أقسى‭ ‬عنفًا‭ ‬وأمرّ‭ ‬طعمًا‭ ‬من‭ ‬حياتنا،‭ ‬وقتلنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬ندمًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فعلنا‭. ‬

فللحرية‭ ‬ثمن‭ ‬أبهظ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ندفعه‭ ‬ما‭ ‬دمنا‭ ‬أحرارًا،‭ ‬ولذلك‭ ‬رحمنا‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نملك‭ ‬الخيار‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬أو‭ ‬وجودنا؛‭ ‬لأنه‭ ‬أعرف‭ ‬بنا‭ ‬وأقدر‭ ‬على‭ ‬ترويض‭ ‬جرثومة‭ ‬الفساد‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬خَلقُنا‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬هي‭ ‬جنة‭ ‬الإنسان‭ ‬المُشتهاة‭ ‬وجحيمه‭ ‬المغوِي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر،‭ ‬فهي‭ ‬تدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬الهلاك‭ ‬عندما‭ ‬نستجيب‭ ‬إلى‭ ‬الجانب‭ ‬الغرائزي‭ ‬في‭ ‬ضعفنا‭ ‬البشري،‭ ‬وتدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬النعيم‭ ‬إذا‭ ‬استجبنا‭ ‬إلى‭ ‬النسيج‭ ‬الملائكي‭ ‬الذي‭ ‬يتخلل‭ ‬عقولنا‭ ‬لنسيطر‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬غرائزنا‭ ‬ونزواتنا‭ ‬الحيوانية‭. ‬وعندما‭ ‬نختار‭ ‬العقل‭ ‬فإننا‭ ‬نُغلِّب‭ ‬الحرية‭ ‬على‭ ‬الضرورة،‭ ‬فنؤثِر‭ ‬تمام‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬على‭ ‬نقصان‭ ‬الغياب‭ ‬في‭ ‬العدم،‭ ‬وهكذا‭ ‬ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬المقطع‭ ‬الخامس؛‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭:‬

 

يا‭ ‬هذا‭ ‬المفتون‭ ‬البسّام‭ ‬الداعي‭ ‬للبسمات

نبّئني،‭ ‬ماذا‭ ‬أفعل؟

فأنا‭ ‬أتوسل‭ ‬بك

هل‭ ‬أغمس‭ ‬عيني‭ ‬في‭ ‬قمر‭ ‬الليل؟

أم‭ ‬أقتاتُ‭ ‬الأعشاب‭ ‬المُرّة‭ ‬والورقا؟

أم‭ ‬أفتح‭ ‬بابي‭ ‬للأشباح

وأدعوها،‭ ‬وأُطاعِمها

وأقدّمها‭ ‬للألواح‭ ‬الممدودة‭ ‬حول‭ ‬خواني

وأقوم‭ ‬خطيبًا‭ ‬فيهم‭...‬

أحبابي‭... ‬إخواني؟

أم‭ ‬أبكي‭ ‬حين‭ ‬يجن‭ ‬الليل،

وأغفو‭ ‬دمعي‭ ‬في‭ ‬فودي

أم‭ ‬أضحك‭ ‬في‭ ‬مرآتي‭ ‬وحدي

إن‭ ‬كنتَ‭ ‬حكيمًا‭ ‬نبئني‭ ‬كيف‭ ‬أُجّن

لأحسّ‭ ‬بنبض‭ ‬الكون‭ ‬المجنون؟

لا‭ ‬أطلب‭ ‬عندئذ‭ ‬فيه‭ ‬العقل

 

وردة‭ ‬الصقيع

يبدأ‭ ‬المقطع‭ ‬الخامس‭ ‬بالحديث‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬الأشخاص،‭ ‬أو‭ ‬كائن‭ ‬من‭ ‬كائنات‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬إنسان‭ ‬عادي‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬لكنّ‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬يعيش‭ ‬الحياة‭ ‬كما‭ ‬يتلقاها،‭ ‬ولا‭ ‬يشغل‭ ‬عقله‭ ‬بمراميها‭ ‬وأهدافها‭ ‬أو‭ ‬غاياتها‭ ‬العُليا،‭ ‬فحسبه‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬أن‭ ‬ينعم‭ ‬بما‭ ‬فيها،‭ ‬وأن‭ ‬يهنأ‭ ‬بخيرها‭ ‬وينأى‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يرى‭ ‬من‭ ‬شرورها‭. ‬شعاره‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان،‭ ‬والاستجابة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يطلب‭ ‬منه،‭ ‬أيًّا‭ ‬كان‭ ‬الطالب‭ ‬والمطلوب،‭ ‬فالحياة‭ ‬سهلة‭ ‬هيّنة‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكائنات،‭ ‬ولذلك‭ ‬فهو‭ ‬دائم‭ ‬الابتسام،‭ ‬ساخر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يُعقِّدون‭ ‬الحياة‭ ‬ويشغلون‭ ‬أنفسهم‭ ‬فيما‭ ‬وراءها،‭ ‬أو‭ ‬مغزاها‭ ‬أو‭ ‬معناها،‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬كل‭ ‬باحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة،‭ ‬أو‭ ‬كل‭ ‬ساعٍ‭ ‬وراء‭ ‬اوردة‭ ‬الصقيعب،‭ ‬ولذلك‭ ‬فهو‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬المهموم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬نظرة‭ ‬باسمة‭ ‬هازئة،‭ ‬داعيًا‭ ‬إياه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يهوِّن‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬ويأخذ‭ ‬الحياة‭ ‬ببساطة‭ ‬ويُسر‭ ‬بلا‭ ‬تعقيد،‭ ‬فالحياة‭ ‬أبسط‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نُعقّدها‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬المهولة،‭ ‬وأجدر‭ ‬بأن‭ ‬نحياها‭ ‬دون‭ ‬تفكير‭ ‬أو‭ ‬إجهاد‭ ‬للعقل‭ ‬والقلب‭ ‬معًا‭.‬

وهذا‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬يمثّل‭ ‬النقيض‭ ‬المكروه‭ ‬للذات‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭. ‬أعني‭ ‬الذات‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬صاحب‭ ‬المذكرات‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يطيق‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬فيراه‭ ‬مفتونًا‭ ‬بجهله،‭ ‬بسّامًا‭ ‬ساذجًا،‭ ‬داعيًا‭ ‬للبسمات‭ ‬الساذجة،‭ ‬نائيًا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬إشكالٍ‭ ‬من‭ ‬الإشكالات‭ ‬التي‭ ‬تواجهنا‭ ‬بها‭ ‬الحياة،‭ ‬ولذلك‭ ‬يطرح‭ ‬علينا‭ ‬االرجل‭ ‬المجهولب‭ ‬أسئلته‭ ‬الاستنكارية،‭ ‬طالبًا‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هواجسه‭ ‬التي‭ ‬تؤرّقه‭ ‬فعلًا،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬عنها‭ ‬هذا‭ ‬االمفتون‭ ‬البسّام‭ ‬الداعي‭ ‬للبسماتب‭ ‬شيئًا،‭ ‬طالبًا‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬نفسه‭ ‬موضعه،‭ ‬وأن‭ ‬يُجيب‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬الحائرة‭ ‬التي‭ ‬تؤرّقه؛‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬حائر‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬هل‭ ‬يعيش‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬بساطة‭ ‬ساذجة‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لعقله‭ ‬أن‭ ‬يجتهد‭ ‬في‭ ‬الفهم،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬علّة‭ ‬الوجود،‭ ‬أو‭ ‬ماذا‭ ‬نفعل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة؟‭ ‬وكيف‭ ‬نتوصل‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭ ‬لهذه‭ ‬الحياة؟،‭ ‬وسبب‭ ‬وجودنا‭ ‬فيها؟‭ ‬وماذا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نفعل‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ظلم‭ ‬يقع‭ ‬علينا‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬غيرنا؟‭ ‬هل‭ ‬نتباعد‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬ونتجاهله‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنا‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لنا‭ ‬بما‭ ‬يحدث‭ ‬حولنا،‭ ‬فنكتفى‭ ‬بالتأمل‭ ‬في‭ ‬جمال‭ ‬قمر‭ ‬الليل،‭ ‬أو‭ ‬بمديح‭ ‬النسيم‭ ‬المتموج‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬النهر؟‭ ‬أم‭ ‬نفعل‭ ‬العكس‭ ‬فنواجه‭ ‬ما‭ ‬يؤرّقنا‭ ‬حقيقة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬ونفتح‭ ‬الأبواب‭ ‬لأسلافنا‭ ‬الذين‭ ‬عانوا‭ ‬مثلنا‭ ‬وكتبوا‭ ‬معاناتهم‭ ‬على‭ ‬الأوراق‭ ‬قبلنا،‭ ‬هل‭ ‬يكفي‭ ‬هذا؟‭ ‬أم‭ ‬نهرب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬الحائرة،‭ ‬ونكتفي‭ ‬بعجزنا‭ ‬أو‭ ‬سلبنا‭ ‬عن‭ ‬الإسهام‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬إيجابي،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬نضحك‭ ‬وحدنا‭ ‬ساخرين‭ ‬من‭ ‬عجزنا‭ ‬وقصورنا‭ ‬ويأسنا‭ ‬من‭ ‬إنجاز‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬إيجابي؟‭ ‬ويصل‭ ‬المقطع‭ ‬إلى‭ ‬ذروته‭ ‬في‭ ‬الأبيات‭ ‬الأخيرة‭:‬

 

إن‭ ‬كنتَ‭ ‬حكيمَا‭ ‬نبئني‭ ‬كيف‭ ‬أُجّن

لأحسّ‭ ‬بنبض‭ ‬الكون‭ ‬المجنون

لا‭ ‬أطلب‭ ‬عندئذ‭ ‬فيه‭ ‬العقل

 

حياة‭ ‬جادة

الأبيات‭ ‬حادة‭ ‬الإيقاع‭ ‬يدعمها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬النبض‭ ‬السريع‭ ‬في‭ ‬أسباب‭ ‬وأوتاد‭ ‬بحر‭ ‬المُتدارك‭ ‬التي‭ ‬تتدافع‭ ‬لتصل‭ ‬بالمعنى‭ ‬إلى‭ ‬ذروته‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬إجابة‭. ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬المسؤول‭ ‬أعلم‭ ‬من‭ ‬السائل؟‭! ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬إجابة؛‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يطرح‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬أصلًا،‭ ‬ولماذا‭ ‬يطرح‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬السؤال،‭ ‬وهو‭ ‬بسّام‭ ‬داعٍ‭ ‬للبسمات؟،‭ ‬إنه‭ ‬إنسان‭ ‬بسيط‭ ‬يتلقى‭ ‬الحياة‭ ‬كما‭ ‬تأتي‭ ‬إليه،‭ ‬ويعيشها‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬الناس‭ ‬تعيشها‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬ولو‭ ‬أجاب‭ ‬بصدق‭ ‬لقال‭ ‬للسائل‭: ‬ولماذا‭ ‬لا‭ ‬تعيش‭ ‬الحياة‭ ‬كما‭ ‬يعيشها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬حولك؟‭! ‬لكن‭ ‬مأساة‭ ‬الرجل‭ ‬المجهول‭ ‬االتي‭ ‬هي‭ ‬مأساتناب،‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬الحياة‭ ‬بمنطق‭ ‬البسام‭ ‬الداعي‭ ‬للبسمات،‭ ‬فالحياة‭ ‬أكثر‭ ‬جدية‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نأخذها‭ ‬بهذا‭ ‬المنطق‭ ‬الساذج،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬نتقبَّلها‭ ‬على‭ ‬عِلّاتها،‭ ‬فنحن‭ ‬لم‭ ‬نُخلق‭ ‬عبثًا،‭ ‬وعقلنا‭ ‬يصرخ‭ ‬فينا‭ ‬باحثًا‭ ‬عن‭ ‬أجوبة‭ ‬مقنعة‭ ‬لنا‭ ‬أولًا‭. ‬ولأننا‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬إجابة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نطرحه‭ ‬من‭ ‬أسئلة‭ ‬جادة،‭ ‬ولأننا‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬إجابات‭ ‬مقنعة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬فإن‭ ‬النتيجة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬يتوصل‭ ‬إليها‭ ‬الرجل‭ ‬المجهول‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬القصيدة،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭:‬

 

ها‭ ‬قد‭ ‬سلّمت‭ ‬لكم‭... ‬قد‭ ‬سلمت

ضاعت‭ ‬بسماتي

لم‭ ‬تنفعني‭ ‬فلسفتي

سلمت

كُسِرت‭ ‬راياتي

عَجَزَتْ‭ ‬عن‭ ‬عوني‭ ‬معرفتي

سلمت

وشجاعًا‭ ‬كنتُ‭ ‬لكي‭ ‬أنضو

عن‭ ‬نفسي‭ ‬ثوب‭ ‬الزهر‭ ‬المزعوم

وشجاعًا‭ ‬كنتُ‭ ‬لكي‭ ‬أتهاوى‭ ‬عُريانًا

أثني‭ ‬ساقي،‭ ‬أستصرِخُكم‭...‬

هل‭ ‬تدعوني‭ ‬وحدي؟

وكفاكم‭ ‬أني‭ ‬سلّمت

أم‭ ‬تضعوني‭ ‬في‭ ‬لَحدي؟

‭...........‬

كونكم‭ ‬مشؤوم

كونكم‭ ‬مشؤوم

 

رؤية‭ ‬مأساوية

إجابة‭ ‬الشاعر‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الرؤية‭ ‬المأساوية،‭ ‬حيث‭ ‬يتجلى‭ ‬إحساس‭ ‬الإنسان‭ ‬بالعجز‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬فعل‭ ‬إيجابي‭ ‬في‭ ‬وجوده،‭ ‬سواء‭ ‬بالمعنى‭ ‬المحدود،‭ ‬أو‭ ‬بالمعنى‭ ‬الأوسع‭ ‬والعام‭. ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬الكون،‭ ‬خصوصًا‭ ‬حين‭ ‬ينغلق‭ ‬الكون‭ ‬أمام‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬شعور‭ ‬مُمِض‭ ‬بالعجز‭ ‬أو‭ ‬الفشل‭ ‬كل‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬ثغرة،‭ ‬فلا‭ ‬أمل‭ ‬ولا‭ ‬ثغرة‭ ‬ضوء‭ ‬ينفذ‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬مستقبل‭ ‬واعد،‭ ‬ولا‭ ‬يملك‭ ‬االرجل‭ ‬المجهولب‭ ‬سوى‭ ‬ختام‭ ‬فعل‭ ‬المسرحة‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬كلها‭ ‬عبر‭ ‬فقراتها،‭ ‬فيُعلن‭ ‬عجزه‭ ‬وتكسر‭ ‬راياته،‭ ‬كما‭ ‬يُعلن‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬لم‭ ‬يُساعده‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬يقين‭ ‬أو‭ ‬حقيقة‭ ‬مقبولة،‭ ‬أو‭ ‬حضور‭ ‬إيجابي‭ ‬في‭ ‬الوجود‭.‬

فحضوره‭ ‬كالغياب،‭ ‬وغيابه‭ ‬كالحضور،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإنه‭ ‬يُسلِّم‭ ‬بعجزه‭ ‬ويأسه‭ ‬الكامل،‭ ‬ولا‭ ‬يبقى‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يسأل‭ ‬من‭ ‬يستمعون‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬يتركوه‭ ‬في‭ ‬حاله،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يضعوه‭ ‬في‭ ‬لَحدِه‭. ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬السطر‭ ‬اللاحق‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬النقاط‭ ‬المتجاورة‭ ‬التي‭ ‬تُشير‭ ‬إلى‭ ‬كلام‭ ‬مُضمر‭ ‬لم‭ ‬يُقَل،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬صمت‭ ‬له‭ ‬دلالة‭ ‬الكلام‭ ‬الذي‭ ‬يُقال‭ ‬بعد‭ ‬يأس‭. ‬وبعد‭ ‬النقاط‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬السطر‭ ‬الصامت‭ ‬بلا‭ ‬كلام،‭ ‬يأتي‭ ‬التقرير‭ ‬الجازم‭ ‬كالضربة‭ ‬الإيقاعية‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬سيمفونية‭ ‬فكرية‭ ‬تختتم‭ ‬حركاتها‭ ‬الأخيرة‭ ‬بنغمة‭ ‬طويلة‭ ‬حزينة‭ ‬مكتومة‭ ‬الإيقاع‭ ‬تقول‭:‬

كونكم‭ ‬مشؤوم

كونكم‭ ‬مشؤوم

 

وللتكرار‭ ‬دلالته‭ ‬التي‭ ‬تُرجعنا‭ ‬إلى‭ ‬ترجيع‭ ‬دلالة‭ ‬االحمدب‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬الرابع‭. ‬هكذا‭ ‬تنتهي‭ ‬القصيدة‭ ‬نهاية‭ ‬فُجائية‭ ‬حادة،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تتباعد‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬توقّعات‭ ‬القارئ،‭ ‬لكنها‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الصدمة‭ ‬التي‭ ‬توقظ‭ ‬فيه‭ ‬رغبة‭ ‬طرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬تتصل‭ ‬بعلاقتنا‭ ‬بالعالم‭ ‬المنظور‭ ‬وغير‭ ‬المنظور‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬كليّة،‭ ‬موجودة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬موجودة،‭ ‬وعن‭ ‬أوضاع‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬قد‭ ‬تسمح‭ ‬للإنسان‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬بطرح‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬الوجودية‭ ‬المُحيِّرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬إجابة‭ ‬يقينية‭ ‬عنها،‭ ‬فكل‭ ‬إجابة‭ ‬عنها‭ ‬تؤكد‭ ‬مأساة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬أو‭ ‬مأساة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وجود‭ .‬