إنها لحالة مفجعة أحمد السقاف

إنها لحالة مفجعة

لم تكن المغامرة الفاشلة لغزو الكويت مجرد عدوان على شعب عربي وبلد شقيق، بل كانت عدوانا على التاريخ ومحاولة لإهدار الحقائق بالادعاءات المتهافتة والقرائن المغلوطة. مما جعل نظام صدام نفسه يقف في موضع من يكذب بأفعاله شعارات كان يدعيها ومقولات كان يحرص على تصديرها للآخرين.

من يكتب له القدر أن يستمع إلى ما يقوله أتباع نظام الحكم في بغداد عن الغدر الذي حل بالكويت في الثاني من أغسطس 1990 يصب دون شك بالذهول، فقد حاول هؤلاء الأتباع في حلقات متتابعة في تلفازهم أن يؤكدوا للشعب العراقي المنكوب أن تلك المغامرة الغريبة لم تأت دون مقدمات، فقد فكر في اجتياح الكويت الملك غازي ونوري السعيد وعبد الكريم قاسم، ومعنى ذلك أن نظام الحكم في بغداد قد أصبح على صعيد واحد مع نوري السعيد وعبدالكريم قاسم والملك غازي الذي لا يجهله العراقيون، وأن هذا النظام قد تنكر لمبادئه التي أذاعها على العالم أجمع وقال فيها "إن العربي لا يحق له أن يشهر السلاح في وجه أخيه العربي، وإن على العرب كافة أن يهبوا لصد أي عدوان يقع من قطر عربي على قطر عربي آخر".

ردة وعناد

إنها لحالة مفجعة أن تصل الردة إلى هذا الحد وأن يذهب العناد بحكام بغداد إلى التشبث بذيل من رموهم بالأمس القريب بالخيانة والشعوبية والانغماس في الرذائل.والذي نعرفه في هذا الموضوع أن الملك غازي طلب من وزرائه مساعدة المعارضة الكويتية لدى اشتداد الشد والجذب بين أمير البلاد الشيخ أحمد الجابر الصباح وبين المعارضة أيام المجلس التشريعي عام 1938 وأن بعض الوزراء لفت انتباهه إلى أن التدخل في شئون الكويت سيقابل بالرفض الشديد من المملكة العربية السعودية وإيران وبريطانيا فكان رد الملك غازي "إذن اتركوا هذا الأمر".

ونوري السعيد أيضا لم يفكر في احتلال الكويت، وإنما طلب من الإنجليز الضغط على أمير البلاد الشيخ عبد الله السالم الصباح للدخول في الاتحاد الهاشمي الذي ضم العراق والأردن ربيع 1958 بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا كي تنفق الكويت على ذلك الاتحاد المزعوم، غير أن الشيخ عبدالله السالم الصباح رحمه الله رفض الدخول في الاتحاد الهاشمي وقال لعبدالإله ونوري السعيد إنني لا أدخل بلادي في مثل هذه التكتلات.

أما عبدالكريم قاسم وهو شعوبي معتوه علق على المشانق المئات من دعاة العروبة والقومية العربية وأعدم في "أم الطبول" كبار ضباط الجيش العراقي ممن نادوا بالاتحاد مع سوريا ومصر ربيع 1959 فقد أثار زوبعة مفتعلة بعد استقلال الكويت في يونيو 1961 ليخفي ما كان يدبر للجمهورية العربية المتحدة من مؤامرات فاتجهت الأنظار نحو الكويت ونزلت الضربة القاسية على الوحدة الوليدة وانفصلت سوريا عن مصر في أواخر سبتمبر 1961. ولو أن هؤلاء جميعا قد طالبوا بالتهام الكويت أيجوز لمن جاء من بعدهم ممن تغنوا بالعروبة والتضامن والقومية العربية أن يسلكوا مسلكهم؟! ما الذي جناه المسئولون في بغداد من اجتياح الكويت؟ لقد طعنوا التضامن العربي، وأهدروا أموال العراق والكويت ودول الخليج العربي كلها ومزقوا بلدهم، ورموا خلفهم شعاراتهم السابقة، وأزاحوا تلك الأقنعة التي كانوا يضعونها على وجوههم، وظهروا كما أرادوا أن يظهروا نسخا مكررة من عبدالكريم قاسم ونوري السعيد وغيرهما من الشعوبيين والإقليميين.

حتى لا يصير البغي نهجا

أين الوحدة العـربية؟ وهل الوحدة العربية تبيح لهم الهجوم الغادر على بلد عربي صغير فجر الثاني من أغسطس 1990 على ذلك النحو من القسوة والهمجية والدموية؟ ولو حقق هؤلاء المغامرون مرادهم وضاعت الكويت لما بقي قطر صغير يتمتع بالاستقلال، ولأصبحت مغامرة بغداد نهجا تحتذي به كثير من الدول الباغية، فيعم الظلم والعدوان والبغي والطغيان والاستهانة بالأوطان والإنسان.

لقد ضم كتابي "صيف الغدر" الذي نشرته ربيع العام الماضي كل ما يهم القارئ العربي عن مأساة الكويت وإذا الشيء بالشيء يذكر فإن من الواجب أن أزجى الشكر إلى الأستاذ الدكتور محمد حسن عبدالله الأستاذ بجامعة القاهرة على تفضله بتقديم الكتاب إلى قراء مجلة العربي في عدد فبراير المنصرم، وإن كان قد توهم أن رئاستي للوفد الشعبي الكويتي إلى سوريا ولبنان والأردن ومصر والسودان واليمن قد جاءت بتزكية من المسئولين في الحكومة، وحقيقة الأمر أن الحكومة لم تتدخل في أمر الوفود الشعبية، وهي سبعة عشر وفدا زارت جميع دول العالم لشرح قضية الكويت من أواخر نوفمبر إلى أواخر ديسمبر سنة 1990 فقد انبثقت تلك الوفود من المؤتمر الشعبي الذي عقد في جدة في منتصف شهر أكتوبر وقد اختارت الوفود نفسها رؤساءها دون تدخل من أحد.

مزاعم متهافتة

ومهما كان الأمر فإن ترديد الادعاءات الجوفاء بمطالبة. فلان وفلان من زعماء العراق بالكويت لا يقيم حجة ذات بال، فليس من المعقول أن يدعي أحد الإقطاعيين- على سبيل المثال- بأن أرض جاره يجب أن تكون له لأن جده وأباه وعمه وخاله قد طالبوا بها!!

إن الماضي السحيق يتحدث عن دولة ديلمون التي امتدت من البحرين إلى حدود العراق، وكانت الكويت جزءا منها ونافست في حضارتها حضارة "أور" عاصمة جنوب العراق، وبعد احتلال كورش ملك الفرس للعراق واضمحلال مملكة ديلمون، بقيت الكويت مرعى لإبل القبائل العربية، وكان هذا حالها بعد الفتوحات الإسلامية، ولما سقط العراق بيد الصفويين، بعد انهيار الخلافة العباسية حافظت الكويت على شخصيتها المستقلـة وخرج الصفويون من العراق باحتلال العثمانيين له، ولم يكن لهؤلاء أي نفوذ في الكويت، وبعد مقدم آل صباح ومبايعة صباح الأول أميرا على البلاد في مطلع القرن الثامن عشر برزت الكويت بكيان له أهميته في منطقة الخليج العربي، ولو تعامل العرب على هذا النحو الذي التجأ إليه العراق في مزاعمه المتهافتة لما بقيت عروبة ولا قومية ولا تضامن، ولحقق أعداء العرب أحلامهم في تشتيت شمل هذه الأمة وتمزيقها وإشاعة الخراب والدمار في ديارها.

إن البحث المستميت عن مسوغ للعدوان المدمر الذي حل بالكويت في الثاني من أغسطس 1990 عمل ساذج يرفضه جميع العقلاء في العراق وغير العراق، فنظام الحكم في بغداد شعر دون شك بأن الشعب العراقي يتساءل صباح مساء عن مسوغات ذلك الغدر المنافي للأخلاق العربية والقيم الإسلامية والمبادئ الإنسانية، فقد كانت الكويت لا تنقطع عن أفواه المسئولين العراقيين منذ مطلع 1980 حتى مطلع صيف 1990 يرددون صباح مساء فضلها وأفضالها عليهم، فكيف انقلب ذلك الثناء والتمجيد إلى عدوان شرس مدمر وتخريب مخيف لا يطاق؟!

إن نظام الحكم في بغداد يحاول جاهدا أن يخلق مسوغا لما أقدم عليه في ذلك الصيف الحزين، ولما أعيته المحاولة زعم أن نفرا من قبله قد طالبوا بضم الكويت، هؤلاء النفر الذين قد نعتهم الحكم في بغداد مرارا بالإقليمية والشعوبية والخيانة كلما تشدق بالعروبة والقومية والتضامن كما جاء في ديباجة الاتفاقية التي وقعها أحمد حسن البكر وصباح السالم الصباح في الرابع من أكتوبر عـام 1963 إذ تقول الديباجة "وقد جرت المباحثات في جو مفعم بالود الأخوي والتمسك برابطة العروبة والشعور بأواصر الجوار وتحسس المصالح المشتركة، وإيمانا بالحاجة لإصلاح ما ران على العلاقات العراقية الكويتية نتيجة موقف العهد القاسمي البائد تجاه الكويت قبل إشراق ثورة الرابع عشر من رمضان المباركة ويقينا بما يمليه الواجب القومي من فتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين تتفق وما بينهما من روابط وعلاقات ينحسر عنها كل ظل لتلك الجفوة التي أصطنعها العهد السابق في العراق".

وتختتم المادة الثالثة الاعتراف باستقلال الكويت بالآتي: وتحقيقا لذلك يتم فورا تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين على مستوى السفراء.

ادعاءات يضرب بعضها بعضا

وأكبر دليل على فقدان الحجة والمنطق لدى نظام الحكم في بغداد أنه زعم في اليوم الأول للعدوان أن اقتحام الكويت لم يكن غير تلبية لنداء الثوار الكويتيين الذين طلبوا منه النجدة، وعاد فزعم في اليوم الثاني من عدوانه أن الجمهورية العراقية قد اضطرت إلى قبول الوحدة مع الجمهورية الكويتية الوليدة، وبعد ثلاثة أيام حينما اشتدت المطالبة العالمية بخروج الجيش الغازي من الكويت زعم نظام الحكم في بغداد أنه قد أصدر أوامره لجيشه بمغادرة الكويت وصور وحدات من جيشه وهي تتجه نحو الشمال تمويها وتضليلا لدول العالم الغاضبة، وفجأة يعلن هؤلاء المغامرون أن الكويت جزء من العراق وأن الفرع قد عاد إلى الأصل، فهذا التخبط دليل واضح على أنهم لم يستطيعوا أن يقنعوا أنفسهم بما فعلوا في ذلك اليوم الكالح الحزين.

لقد كان تدميرهم لكل ما له صلة بحياة الكويتيين مرعبا إلى أبعد حدود الرعب، لقد كان تدميرا يتواضع أمامه المغول والتتار وبرابرة التاريخ السحيق وجبروتهم المفزع على السكان ويجعل من جنوب إفريقية دولة إنسانية متحضرة.

لقد أعدموا الشبان أمام منازلهم دون محاكمة بدعوى أنهم مشتركون في المقاومة الشعبية، وأعدموا كثيرا من النساء بعد التعذيب والاعتداء ورموا بجثثهن أمام منازلهن، فهل يلام الكويتيون على استقبالهم الرئيس السابق جورج بوش استقبالا مفعما بالحب والتقدير؟

وما زال النهج القديم ساريا

إن الإنسان حين يطعن بخنجر في ظهره ويقع على الأرض لا يسأل عن جنسية من انتزع من ظهره الخنجر وحمله إلى المستشفى ووقف إلى جانبه حتى شفي وتعافى. إنه لا يستطيع أن يتنكر لمعروف من أسعفه ووقف إلى جانبه وقت الشدة، أما الجاني فلا يمكن أن يكون غير مجرم أراد الهلاك لمن اعتدى عليه، ومن ساند الجاني لا يعتبر غير شريك له في الغدر والعدوان.

ولم يقتصر ذلك الاحتفاء على الرئيس الأمريكي السابق وحده فقد أشاد المتحدثون بفضل البلدان الشقيقة التي وقفت إلى جانب الكويت في تلك الشهور السبعة المزعجة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ومصر وسوريا ودول مجلس التعاون كافة، ونوهوا بنجدة الدول الأخرى الرافضة للظلم والطغيان.

وها هم بعض أصدقاء رئيس النظام الحاكم في بغداد يطلبون منه التنحي عن السلطة لإنقاذ العراق مما هو فيه، وهذا هو الحل الوحيد للخروج بشعب العراق من المحنة.

غير أن هذه المناداة في واد ورأس نظام الحكم وأعوانه في واد آخر، فنظام الحكم في بغداد لم يتوقف عن نهجه القديم، وها هم المخربون والمتسللون يرسلون لترويع الكويت فيسقطون في أيدي الساهرين على أمن البلاد. أما أبناء الكويت المحتجزون في سجون العراق- وهم بالمئات- من رجال ونساء وأطفال فإن كربهم ومعاناتهم، وكرب أهليهم وآلامهم وأحزانهم قد وصلت إلى آذان شعوب العالم أجمع، وما زال الحاكمون في بغداد يصمون الآذان بقلوب متحجرة لا تلين.

 

أحمد السقاف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب