أبناء هوسرل يتكلمون عصرُ اللغة وتحوّلات الفلسفة المعاصرة

أبناء هوسرل يتكلمون عصرُ اللغة وتحوّلات الفلسفة المعاصرة

يمثّل التراث الفلسفي تاريخًا للعقل البشري، والمشكاة التي انزلق منها زيت المعرفة. وكان لكل زمن وتحولاته فلسفته، ولكل منها أدواتها وأطروحاتها التي تفك بها تساؤلاتها التي تحيطها وتكشف عن تلك التحولات التي تمر بالفكر البشري، ومن بين هذه التحولات كانت الحداثة التي استندت إلى انطلاقة جديدة، وانبعاثات لفكر يناسب مستجدات الإنسان المعاصر، وما آل إليه، وكانت اللغة هي أساس هذه الانطلاقة ومنحاها الجديد، فهي صورة التفكير الإنساني بما يحمله من رموز يشكّلها العقل، وتشكِّل هي الأخرى العقول، وصارت دراسة اللغة وسيلة لفك تساؤلات فلسفية معاصرة.

هذا‭ ‬الانعطاف‭ ‬الفلسفي‭ ‬نحو‭ ‬اللغة‭ ‬له‭ ‬أثر‭ ‬واضح‭ ‬ورؤى‭ ‬جديدة‭ ‬أسست‭ ‬للفلسفة‭ ‬الحديثة،‭ ‬واعتبرت‭ ‬اللغة‭ ‬وسيلة‭ ‬لتنمية‭ ‬الفكر‭ ‬الفلسفي،‭ ‬ونشأ‭ ‬التركيب‭ ‬الثلاثي‭ ‬في‭ ‬المنظار‭ ‬الفلسفي،‭ ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬مصطفى‭ ‬ناصف‭ (‬1922‭ - ‬2008‭): ‬الذات‭ ‬العارفة‭ ‬والتعبير‭ ‬اللغوي‭/ ‬الرمزي‭ ‬والموضوع‭ ‬الذي‭ ‬تقدمه‭ ‬الذات،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬فهم‭ ‬أحد‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬الطرفين‭ ‬الآخرين‭. ‬وأصبحت‭ ‬الفلسفة‭ ‬التحليلية‭ ‬بديلًا‭ ‬ورائدًا‭ ‬لفلسفة‭ ‬الحداثة‭.‬

 

هوسرل‭ ‬وتحولات‭ ‬الفينومينولوجيا

ما‭ ‬قدمه‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬إدموند‭ ‬هوسرل‭ (‬1859‭ - ‬1938‭) ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفينومينولوجيا‭ ‬كان‭ ‬فتحًا‭ ‬فلسفيًّا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭. ‬فتناوله‭ ‬للفينومينولوجيا‭ ‬وتأسيسه‭ ‬لها‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أثر‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬وصار‭ ‬التعامل‭ ‬معها،‭ ‬وتتبّع‭ ‬طبيعتها‭ ‬ووجودها،‭ ‬وما‭ ‬تظهره‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬القصدية‭ ‬والدلالة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬جوهر‭ ‬الظاهرة‭ ‬اللغوية،‭ ‬والاتصال‭ ‬والخطاب‭ ‬وغيره،‭ ‬من‭ ‬الانطلاقات‭ ‬التي‭ ‬مثّلت‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬الخطاب‭ ‬الفلسفي‭ ‬المعاصر‭. ‬

والفينومينولوجيا‭ ‬هي‭ ‬إدراك‭ ‬الماهية،‭ ‬وهي‭ ‬العلم‭ ‬الدقيق‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬بالنقد،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الإنسان،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬الذات،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬البحث‭ ‬عنها‭ ‬حول‭ ‬الإنسان‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أعماقه،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لن‭ ‬يتم‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬بدعوة‭ ‬هوسرل‭ ‬إلى‭ ‬الفلسفة‭ ‬كعلم‭ ‬دقيق،‭ ‬وتفسير‭ ‬العالم‭ ‬والإنسان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬‮«‬الأنا‭ ‬الخالص‮»‬‭ ‬للتوصل‭ ‬إلى‭ ‬حقائق‭ ‬الشعور‭ ‬الإنساني،‭ ‬وحتى‭ ‬تصبح‭ ‬الفلسفة‭ ‬علمًا،‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬وعلاقاتها،‭ ‬حيث‭ ‬سيتم‭ ‬بناء‭ ‬منطق‭ ‬خالص،‭ ‬فاللغة‭ ‬تسمح‭ ‬بفهم‭ ‬العالم‭ ‬وتعطي‭ ‬تصنيفًا‭ ‬فكريًّا‭ ‬مع‭ ‬تقيّد‭ ‬إمكانياتنا‭ ‬وتحدُّد‭ ‬مدى‭ ‬اتساع‭ ‬رؤيتنا‭ ‬وضيقها‭. ‬

وهكذا،‭ ‬تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬هوسرل‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬الفكر‭ ‬من‭ ‬التصورات‭ ‬المثبتة‭ ‬والانطلاق‭ ‬من‭ ‬القصدية،‭ ‬فلكل‭ ‬شيء‭ ‬نمط‭ ‬للوعي‭.‬

‭ ‬

مفهوم‭ ‬القصدية

أما‭ ‬القصدية‭ ‬فإنها‭ ‬المبدأ‭ ‬الذي‭ ‬تناوله‭ ‬أصحاب‭ ‬النزعة‭ ‬اللغوية‭ ‬في‭ ‬التفسير،‭ ‬حين‭ ‬أعطوا‭ ‬الأهمية‭ ‬الأولى‭ ‬للمتكلمين‭ ‬ومقاصدهم‭ ‬عند‭ ‬تفسير‭ ‬المعنى،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المنبت‭ ‬الذي‭ ‬به‭ ‬تنمو‭ ‬الدراسات‭ ‬اللغوية‭ ‬الحديثة،‭ ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬اللغة‭ ‬نحوًا‭ ‬وبلاغة،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬كلامًا‭ ‬يريد‭ ‬تحقيق‭ ‬شيء‭ ‬ما،‭ ‬فالمتكلم‭ ‬يتكلم‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬تحمّل‭ ‬بمقصد‭ ‬لن‭ ‬يتم‭ ‬إدراكه‭ ‬سوى‭ ‬بالإنصات،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬التركّز‭ ‬والاستيعاب‭ ‬أو‭ ‬التأويل‭.‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الإنصات‭ ‬يتعرف‭ ‬القارئ‭ ‬أو‭ ‬السامع‭ ‬إلى‭ ‬المراد‭. ‬هذا‭ ‬الإنصات‭ ‬مرتبط‭ ‬بالحوار‭ ‬كما‭ ‬يذهب‭ ‬الفيسلوف‭ ‬الألماني‭ ‬مارتن‭ ‬هيدجر‭ (‬1889‭ - ‬1976‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يعتبر‭ ‬القصدية‭ ‬المراد‭ ‬بها‭ ‬الحوار،‭ ‬فالوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬العالم،‭ ‬إذ‭ ‬يحاول‭ ‬إرجاع‭ ‬فكرة‭ ‬التواصل‭ ‬التي‭ ‬انقطعت‭ ‬بفعل‭ ‬اتجاهات‭ ‬النقد‭ ‬السابقة،‭ ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬حوار؟‭ ‬إن‭ ‬الحوار‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬مكتمل،‭ ‬وأن‭ ‬هناك‭ ‬دائمًا‭ ‬احتمالات‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الشيء،‭ ‬فالحوار‭ ‬طريق‭ ‬الفهم‭. ‬

وهكذا،‭ ‬تحاول‭ ‬القصدية‭ ‬ترتيب‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬العارفة‭ ‬وموضوع‭ ‬المعرفة‭ ‬وفق‭ ‬شعور،‭ ‬حتى‭ ‬يصبح‭ ‬كل‭ ‬شعور‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬شعور‭ ‬بشيء‭ ‬ما‭. ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬أسس‭ ‬هوسرل‭ ‬التي‭ ‬بنى‭ ‬عليها‭ ‬نظريته،‭ ‬وأصبح‭ ‬أثرها‭ ‬على‭ ‬الفلسفة‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭.‬

 

كيف‭ ‬تنظر‭ ‬الفلسفة‭ ‬إلى‭ ‬اللغة؟

قدمت‭ ‬الفلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مادتها‭ ‬التي‭ ‬ستعمل‭ ‬عليها‭ ‬ومن‭ ‬خلالها،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬يعتبر‭ ‬اللغة‭ ‬فرعًا‭ ‬من‭ ‬فروع‭ ‬الفلسفة‭ ‬العامة،‭ ‬فلكل‭ ‬فيلسوف‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬له‭ ‬درسًا‭ ‬في‭ ‬الجمال‭ ‬والقانون‭ ‬والعلم‭ ‬وهكذا،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬أرسطو‭ ‬وأفلاطون‭ ‬وديكارت‭ ‬ولوك‭ ‬ونيتشه،‭ ‬أو‭ ‬مَن‭ ‬يعتبر‭ ‬اللغة‭ ‬نسقًا‭ ‬جديدًا‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬تعمل‭ ‬الفلسفة‭ ‬من‭ ‬خلاله،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يمارسه‭ ‬أصحاب‭ ‬الفلسفة‭ ‬التحليلية‭.‬

وهكذا،‭ ‬بدأ‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬وتوضيحها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفلسفة‭ ‬التحليلية‭ ‬التي‭ ‬اتخذت‭ ‬اللغة‭ ‬موضوعًا‭ ‬لأي‭ ‬مشروع‭ ‬فلسفي،‭ ‬ففهم‭ ‬الإنسان‭ ‬لذاته‭ ‬ولعالمه‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬المعبّر‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الفهم؛‭ ‬فهي‭ ‬طريق‭ ‬المعرفة‭ ‬كما‭ ‬ذهب‭ ‬لودفيغ‭ ‬فيتجنشتين‭ ‬
‭(‬1889‭ - ‬1951‭)‬،‭ ‬وصارت‭ ‬الفلسفة‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬توضيح‭ ‬المعنى‭ ‬لا‭ ‬تفسير‭ ‬حقيقة‭ ‬الأشياء‭ ‬كالسابق،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬توضيح‭ ‬الأفكار‭. ‬

اللغة‭ ‬دورها‭ ‬إنارة‭ ‬الوجود‭ ‬للكشف‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬الإنسان،‭ ‬ووظيفتها‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الكينونة،‭ ‬فالفكر‭ ‬مخبأ‭ ‬داخل‭ ‬اللغة،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬اللغة‭ ‬خاصية‭ ‬بشرية‭ ‬لا‭ ‬يشاركه‭ ‬فيها‭ ‬أي‭ ‬كائن‭ ‬آخر،‭ ‬وبناء‭ ‬عليه‭ ‬فهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬بشرية؛‭ ‬وبذا‭ ‬سيتم‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالكلام‭ ‬والحديث‭ ‬ونبرة‭ ‬الصوت‭ ‬والإيماءات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الفينومينولوجيا‭ ‬الهوسرلية‭ ‬حاضرة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التأويلية‭ ‬برؤيتها‭ ‬الحديثة‭ ‬انشغلت‭ ‬بالمعنى‭ ‬وكينونة‭ ‬الفهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬انفتاح‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬ذاته‭.‬

وهو‭ ‬نفس‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬إليه‭ ‬هيدجر‭ ‬بأن‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬الوجه‭ ‬الإنساني‭ ‬للعالم،‭ ‬والتي‭ ‬تصنعنا،‭ ‬كما‭ ‬تسبق‭ ‬الذات‭ ‬المفردة،‭ ‬بل‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬ذواتنا‭ ‬وهي‭ ‬حياة‭ ‬البشر،‭ ‬وهي‭ ‬الفهم‭ ‬الأساسي‭ ‬للكينونة‭ ‬أو‭ ‬الوجود،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬محطات‭ ‬أو‭ ‬علامات‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأوصاف‭ ‬يتلقف‭ ‬أثيرها‭ ‬الكائن‭ ‬عبر‭ ‬اللغة،‭ ‬ليحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬دلالات‭ ‬ومعانٍ‭ ‬قصدية‭.‬

أما‭ ‬فيتجنشتين‭ ‬فيشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬فكر،‭ ‬فلا‭ ‬وجود‭ ‬للغة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬فكر،‭ ‬ولا‭ ‬وجود‭ ‬لفكر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬لغة،‭ ‬فهي‭ ‬حسيّة‭ ‬تظهر‭ ‬تجسيد‭ ‬الفكر،‭ ‬وأصبح‭ ‬دور‭ ‬الفيلسوف‭ ‬إيجاد‭ ‬المعنى‭ ‬وتحديده‭.‬

ولكن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬المعنى؟‭ ‬يعتبر‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬هو‭ ‬حجر‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬اللساني،‭ ‬فقسموه‭ ‬إلى‭: ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬المعنى‭ ‬المفرد‭ ‬خاص‭ ‬باللفظ،‭ ‬والثاني‭ ‬هو‭ ‬المعنى‭ ‬العباري،‭ ‬أي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬ترتيب‭ ‬اللفظ‭ ‬داخل‭ ‬العبارة،‭ ‬والثالث‭ ‬هو‭ ‬المعنى‭ ‬السياقي،‭ ‬وهو‭ ‬تجاوز‭ ‬اللفظ‭ ‬حدود‭ ‬الدلالة‭ ‬الوضعية‭ ‬لخلق‭ ‬دلالة‭ ‬جديدة،‭ ‬فهي‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬علاقات‭ ‬وممارسات‭ ‬لغوية‭ ‬داخل‭ ‬جماعة‭ ‬بعينها،‭ ‬وتعتبر‭ ‬اللغة‭ ‬تشكُّلًا‭ ‬حتميًّا‭ ‬لكل‭ ‬معرفة‭ ‬علمية‭ ‬تطمح‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬كخطاب‭.‬

 

أن‭ ‬تصبح‭ ‬اللغة‭ ‬مصدرًا‭ ‬للمعرفة

إن‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬بصمة‭ ‬الذهن‭ ‬والمنظور‭ ‬العالمي‭ ‬لمتكلميها،‭ ‬هكذا‭ ‬يذهب‭ ‬فيلهم‭ ‬فون‭ ‬همبرلت‭ (‬1767‭ - ‬1835‭) ‬بمفهومه‭ ‬حول‭ ‬اللغة،‭ ‬والذي‭ ‬سيُعدّ‭ ‬حجر‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وانطلاقات‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬فيلهلم‭ ‬دلتاي‭ (‬1833‭ - ‬1911‭) ‬وآرنست‭ ‬كاسيرر‭ (‬1874‭ - ‬1945‭) ‬في‭ ‬مشروعه‭ ‬فلسفة‭ ‬الأشكال‭ ‬الرمزية،‭ ‬كما‭ ‬أصبحت‭ ‬اللغة‭ ‬ذات‭ ‬اهتمام‭ ‬كبير‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع،‭ ‬حيث‭ ‬يذهب‭ ‬العالم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الفرنسي‭ ‬بيير‭ ‬بورديو‭ (‬1930‭ - ‬2002‭) ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬نظام‭ ‬تحدده‭ ‬العمليات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬السياسية‭ ‬الناشطة؛‭ ‬ضاربًا‭ ‬مثلًا‭ ‬بالمدارس‭ ‬التعليمية،‭ ‬فاللغة‭ ‬تتعلم‭ ‬بالظروف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬بوجودها،‭ ‬كما‭ ‬تسمح‭ ‬بإقامة‭ ‬‮«‬سوق‭ ‬لغوي‮»‬‭ ‬موحّد،‭ ‬إذ‭ ‬تحصل‭ ‬لغةٌ‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬منزلة‭ ‬اللغة‭ ‬النموذجية‭ ‬لهذا‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬غيره،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬لهذه‭ ‬اللغة‭ ‬نظام‭ ‬ميولٍ‭ ‬وتوقّعات‭ ‬معتادة‭ ‬ومتكررة،‭ ‬وممارسات‭ ‬تتضمن‭ ‬كفاحًا‭ ‬للقوة‭ ‬الرمزية‭ ‬لطريقة‭ ‬معيّنة‭ ‬من‭ ‬التداول‭ ‬بجانب‭ ‬أنظمة‭ ‬أشكال‭ ‬الكلام‭ ‬والإشارة‭ ‬والمعاجم‭ ‬وهلمّ‭ ‬جَرّا‭.‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬أصبحت‭ ‬دراسة‭ ‬المجتمعات‭ ‬تتجه‭ ‬إلى‭ ‬التناول‭ ‬اللغوي‭ ‬لهذه‭ ‬المجتمعات،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬الإنسان‭ ‬صارت‭ ‬مسيطرة‭ ‬على‭ ‬علماء‭ ‬النفس‭ ‬اليوم،‭ ‬وإنما‭ ‬يحدث‭ ‬للغة‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬هو‭ ‬مرتبط‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬بعملية‭ ‬الإدراك،‭ ‬وانتقل‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬الأنثروبولوجيا،‭ ‬فالإثنوغرافي‭ ‬أو‭ ‬الباحث‭ ‬الأنثروبولوجي‭ ‬أصبح‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مادته‭ ‬كمصدر‭ ‬للمعرفة‭ ‬وأداة‭ ‬لتمثيل‭ ‬المعرفة،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تساهم‭ ‬جيدًا‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬ودراسة‭ ‬الثقافة‭ ‬كظاهرة‭ ‬معقّدة‭.‬

 

مناهج‭ ‬من‭ ‬باطن‭ ‬اللغة‭ ‬

انبثق‭ ‬من‭ ‬خلل‭ ‬الاهتمام‭ ‬باللغة‭ ‬مناهج‭ ‬نقدية‭ ‬قدمت‭ ‬نفسها‭ ‬كبديل،‭ ‬وأصبح‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬كتعبير‭ ‬ذا‭ ‬قصد‭ ‬ودلالة،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العلامة‭ ‬ليفتح‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬السيميائية‭ ‬والانطلاق‭ ‬الذي‭ ‬سيتأتى‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فتصبح‭ ‬العلامة‭ ‬مؤشرًا‭ ‬لبلوغ‭ ‬غاية،‭ ‬واعتبر‭ ‬المنظّرون‭ ‬أن‭ ‬نظرة‭ ‬الفلسفة‭ ‬للغة‭ ‬في‭ ‬أصلها‭ ‬سيميائية‭.‬

وأصبحت‭ ‬السيميائية‭ ‬هي‭ ‬ممارسة‭ ‬العالم‭ ‬اللغوي‭ ‬فرديناند‭ ‬دي‭ ‬سوسير‭ (‬1857‭ - ‬1913‭) ‬على‭ ‬الكلام‭ ‬باعتباره‭ ‬بنية‭ ‬هيكلية‭ ‬متفردة‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬منطق‭ ‬البشر،‭ ‬وأنه‭ ‬المهمة‭ ‬الأولى‭ ‬لعلم‭ ‬اللغة‭ ‬الذي‭ ‬يعتبره‭ ‬علم‭ ‬الإشارات‭ ‬نظامًا‭ ‬سيكولوجيًّا،‭ ‬وبدأ‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الإشارة‭ ‬اللغوية‭ ‬مفترضًا‭ ‬أنّ‭ ‬لها‭ ‬وجهين‭ ‬هما‭ ‬الدال‭ ‬والدول،‭ ‬وهذا‭ ‬النظام‭ ‬السيكولوجي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يتيح‭ ‬للبشر‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬والتفكير‭ ‬نفسه‭.‬

ويتبع‭ ‬ذلك‭ ‬ظهور‭ ‬التفكيكية،‭ ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬جاك‭ ‬دريدا‭ (‬1930‭ - ‬2004‭)‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬سيتم‭ ‬تداوله‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬تلميذ‭ ‬هوسرل‭ ‬المباشر‭ ‬هيدجر،‭ ‬الذي‭ ‬يقدم‭ ‬علاقة‭ ‬العلامة‭ ‬بالمعنى‭ ‬واللغة‭ ‬بالفكر‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬القصدية،‭ ‬دفع‭ ‬التأويلية‭ ‬إلى‭ ‬الانطلاق‭ ‬داخل‭ ‬أفق‭ ‬جديد،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اعتبار‭ ‬الحوار‭ ‬حدث‭ ‬اللغة‭ ‬الذي‭ ‬تحدث‭ ‬فيه‭ ‬عملية‭ ‬الاتصال،‭ ‬وأحد‭ ‬أشكاله‭ ‬الفهم،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مناط‭ ‬التأويل،‭ ‬والذي‭ ‬يعني‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬النص،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬هانز‭ ‬غدامير‭ (‬1900‭ - ‬2002‭) ‬التلسين‭: ‬اللسانية‭. ‬

وهكذا،‭ ‬سيصبح‭ ‬التأويل‭ ‬عنده‭ ‬هو‭ ‬الحوار،‭ ‬لكنّه‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬سيكون‭ ‬حوارًا‭ ‬مع‭ ‬النص،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬النص‭ ‬سيطرح‭ ‬سؤالًا‭ ‬من‭ ‬موقعه‭ ‬التاريخي‭ ‬منتظرًا‭ ‬توقعات‭ ‬المؤوّل،‭ ‬وما‭ ‬قدمه‭ ‬هيدجر‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬مادة‭ ‬الموضوع،‭ ‬فإن‭ ‬غدامير‭ ‬يشمله‭ ‬داخل‭ ‬اهتمامه‭ ‬التنظيري،‭ ‬ويؤكد‭ ‬مدى‭ ‬أهمية‭ ‬مادة‭ ‬الموضوع‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أصل‭ ‬العملية‭ ‬التأويلية،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬المتحاورة،‭ ‬فإن‭ ‬موضوع‭ ‬الحديث‭ ‬هو‭ ‬مصبّ‭ ‬اهتمام‭ ‬المتحاورين،‭ ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬سيكون‭ ‬الفهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اللغة،‭ ‬وهذا،‭ ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬مصطفى‭ ‬ناصف،‭ ‬يعيد‭ ‬الاعتبار‭ ‬لفكرة‭ ‬التكلم‭ ‬ذاتها‭ ‬

الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬إدموند‭ ‬هوسرل