ابتداء الزمن الروائي العربي

ابتداء الزمن الروائي العربي

أتصورُ أن وَهم استعارة الشكل الروائي العربي من الغرب - في ابتداء زمن الرواية - لا يقلُّ ضررًا عن عملية تهميش فن الرواية بالقياس إلى الشِّعر الذي ظل، تقليديًّا، فن العربية الأول. وهي عملية ناتجة من النظرة السائدة إلى الرواية بصفتها التابع اللاحق، الأقل قيمة، والمتأخر زمنًا ورتبة. 
ونرى مجلى ذلك في كتابات تاريخ الأدب الحديث التي تُسلّط أغلب الضوء على فن الشعر الذي يجتذب إليه الأنظار بهيمنته على المشهد الأدبي الذي ظل يحتلّ فيه موضع الصدارة الذي تعوَّدت الأذهان على أن تضعه - أي الشعر - في هذا الموضع وحده، وذلك على نحو يكشف عن غلبة تصورات سابقة مغلوطة، على الإدراك التاريخي للعلاقة بين الأنواع.

 

من الحق، تاريخيًّا، أن الشعر كان فن الصفوة الذي تصدَّر غيره من الأنواع الأدبية؛ لعلاقته بالطبقة الحاكمة من ناحية، والأحزاب المُتصارِعة على الحُكم من ناحيةٍ مُقابِلة. 
لكن من الحق كذلك أن فن الرواية كان فنّ فئات الطبقة الوسطى، سواء في تناقضها مع الطبقة الحاكمة من ناحية، وسعيها إلى تأكيد حضور الدولة العصرية في علاقتها العادلة بالجماهير من ناحية ثانية، وفي تأكيد طابعها المدني الذي ينقض النَّعرات الطائفية أو العِرقية التي تقترن بالتطرف والتعصب، وتؤدي إلى الكوارث التي اقترنت بحروب طائفية مُدمرة.
ومن هذا المنظور، كان تجسيد الرواية للنزعة العقلانية التي انطوى عليها الوعي المديني الذي سعى إلى استبدال التسامح بالتعصب، والمساواة بالتميّز العِرقي أو الطائفي، والعدل بالظلم الاجتماعي، والاجتهاد بالتقليد، وفِكر الابتداع بفكر الاتّباع، وقبول الاختلاف بهيمنة الصوت الواحد لطبائع الاستبداد.
ولم يكن فنّ الرواية أقل قيمة من فن الشعر من هذا المنظور، ودوره في نشر أفكار ومبادئ الاستنارة التي اقترن بها لم يكن أدنى من الشعر، إن لم يكن أهم بِحُكم الجسارة التي جعلته - بواسطة تقنياته النوعية - قادرًا على إنطاق المسكوت عنه والمقموع من الخطاب الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي. ولذلك لا يمكن أن نضع فنّ الرواية في مرتبة ثانوية، أو هامشية، بالقياس إلى الشعر الذي احتل المركز في عقول الذين تربّوا على مركزية النوع الأدبي الواحد، أو مركزية القُطب الأوحد الذي يدور حوله المجتمع سياسيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا وإبداعيًّا، فيما أطلق عليه هشام شرابي اسم «المجتمع البطريركي».
وإذا كان نقض المركزية وأصلها البطريركي يتيحان لنا أن نرى الرواية في وضعٍ مساوٍ للشعر من حيث القيمة الوظيفية، وهو الأمر الذي ينطبق على فنّ المسرح، فإن هذا النقض يجعلنا ندرك التزامن في الحركة، والتوازي في تحقيق الأهداف، والتضافر في دوافع الانتقال بالمجتمع من وِهاد الضرورة إلى آفاق التقدم الذي صار قرين حركة السَّهم المُنطلق بالنهضة العربية الحديثة.

دوافع متقاربة
 يعني ذلك أن ابتداء زمن الرواية - في صعوده - لم يكن متأخرًا، أو تابعًا، لزمن الشِّعر في صعوده، في عصر النهضة، وإنما كان كلاهما يتحرك في اللحظة التاريخية نفسها، وبدوافع متقاربة، وفي اتجاهات متوازية، لكن بأساليب مُتباينة.
وإذا كنا نقول إن ابتداء زمن الرواية يرجع إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لاعتبارات موضوعيَّة يمكن تحديدها، فإن هذا الابتداء يوازي بدايات فن المسرح، من حيث كونهما تعبيرًا عن صعود المدينة العربية التي أخذت تعرف معنى الحوارية، وتتّسع لنوعٍ أو أنواع من المجادلة بين الفئات المختلفة في الأفق الواسع للنهضة.
ويمكن أن نعثر على الجذور الشعبية لهذه الحوارية وتلك المجادلة في أشكال الأداء التي كانت تملأ المقاهي الكبيرة للعواصم العربية التي سبقت إلى التقدم؛ حيث كان رواة السِّير الشعبية يتحولون من الإنشاد إلى شكل من أشكال الأداء الدرامي الذي لم يكن يجذب جماهير هذه المقاهي فحسب، بل كان يدفعهم إلى الحوار والجدل حول مصائر الأبطال الأساسيين في السِّير والمغازِي، وذلك في نوعٍ من رغبة المشاركة في مَسرحة القص. 
وقد تحدّث المهتمون بالقرن التاسع عشر عن الأدوار الأساسية التي كانت هذه المقاهِي تؤديها في عالم المدينة الكبيرة، بصفتها إحدى علامات المدينة، وعنصرًا أساسيًّا من عناصرها التكوينية. وهو دور سبق الأدوار التي قامت بها الصحافة، ثم وازاها هي والمجالس الأدبية التي خلقت تقاليد لاستقبال السرد الشفاهي والسرد الكتابي على السواء.


النواة الأولى
إذا كانت تقاليد استقبال السرد الكتابي لأعمال من أمثال: «كليلة ودمنة» و«ألف ليلة وليلة» و«المقامات» والحكايات المختلفة التي لا تزال موجودة إلى اليوم، من عيّنة «حمزة البهلوان» و«فيروز شاه»... إلخ، النواة الأولى لتشكيل التقاليد التي اقترنت باستقبال الفن الروائي، خصوصًا فيما نُشِر مُتسلسلًا منه في الصحافة اليومية والأسبوعية، فإن تقاليد استقبال أداء السِّير الشعبية في المقاهي أسهم، بدوره، في توجيه تقاليد الاستقبال المسرحي، وذلك في نصوصه التي شابهت النصوص الروائية في انطوائها على عناصر موروثة، شعبية ورسمية، تفاعلت مع بقية مكونات البنية في كلا الفنينِ. 
ولم يكن الشعر - في ذلك الوقت - بعيدًا عن روايات أو مسرحيات النهضة، فقد تحوَّل إلى عنصرٍ تكويني منسرب فيها، دالًّا على حضور العناصر الموروثة من ناحية، وعلى المُناقلة التي كانت تحدث بين الأنواع المتآزرة في تحقيق مطامح الوعي المديني، وفى توسيع أُفقه الحواري.
ولا يمكن تبسيط هذا الأفق أو اختزاله في صفة «الإحياء» التي شاع إطلاقها على الحركة الشعرية في ذلك العصر، والتي انتقلت من الشعر إلى غيره، فالواقع أن اختصار عصر النهضة في عملية العودة إلى التراث العربي وحده، واختزال كل أنواع الأدب في الشعر دون غيره، هو اكتفاء بنصف الحقيقة، ونزوع تعميمي لا يقل في إطلاقه عن رد حركة النهضة ودوافعها إلى الاتصال بالغرب أو الصدام معه.
والوضع الحقيقي للنهضة يؤكد ثلاثية المكونات الدافعة التي تبدأ من حركة الواقع المتغير في سعيه إلى النهضة، واصلةً الموروث الشعبي والرسمي بالوافد الأجنبي بكل أنواعه، لكن بما يعطى للموروث الوطني أو القومي وزنًا أثقل، وتأثيرًا أكبر. 

تصارع الأساليب القديمة
لولا ذلك ما ظل تأثير المقامة طاغيًا في كتابة «حديث عيسى بن هشام»، وذلك بالقدر الذي سبق أن فرض به نفسه على «الساق على الساق فيما هو الفارياق» للشدياق، الذي أراد أن يكتب نوعًا من رواية السيرة الذاتية. لكن على درجة عالية من الصدق الذي يسمح بتصارع الأساليب القديمة التي كانت لا تزال مُهيمنة حتى على العنوان المسجوع، فضلًا عن البناء العام الذي يتركّب معه السرد من مقامات متجاورة لا تخفي الصراع بين لغة الحريري والهمذاني من ناحية، واللغة الواقعية لأحمد فارس الشدياق في سنوات النصف الأول من القرن التاسع عشر. 
ولم يكن من المستغرب - والأمر كذلك - أن تبدو رواية «نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال» التي أصدرتها عائشة التيمورية، سنة 1886 تقريبًا بمنزلة نوع موازٍ من السرد الحكائي لـ «ألف ليلة وليلة» وطرائقها في السرد.
والحق أن ما ذكرتُه من نماذج يوازي ما يشبهه في بدايات المسرح العربي؛ حيث يبدو الصراع دالًّا لافًتا، في الأنواع الأدبية الجديدة، بين عناصر الموروث السردي وعناصر النوع السردي الوافد، وكانت الغَلبة مُتغيّرة، حسب الزمان والمكان والثقافة، وذلك على نحوٍ يؤكد أننا كلما اقتربنا من بدايات القرن التاسع عشر، غلب الموروث الثقافي في كل نوعٍ من الأنواع الأدبية الجديدة.
وينقلب الأمر إلى النقيض كلما جاوزنا بدايات القرن وصعدنا إلى منتصف القرن وما بعده؛ حيث تزداد أُلفة النوع الوافد، وتتمثّله الثقافة بما يُعيد إنتاج النوع حسب شروط ثقافة البيئة المستقبلة التي تفرضها على مسيرة النوع الوافد، وتمثّله، وإعادة إنتاجه على السواء.
ومن المنظور نفسه، فإن روح النهضة المتوثِّبة إلى غاية التقدم كان لها تجلياتها المتجاوبة في الأنواع الأدبية: الشعر والمسرح والرواية. وليس مصادفة أن نشاط يعقوب صنّوع (1839 - 1912) في المسرح كان موازيًا للنشاط الشعري لمحمود سامي البارودي (1840 - 1904) ونشاط أبو خليل القباني (1833 - 1902) في الوقت نفسه. 

عمل موازٍ
كان ازدهار شعر أحمد شوقي (1868 - 1932) الذي أصدر «الشوقيات» سنة 1898 وحافظ إبراهيم (1872 - 1932) لاحقًا على الدور الذي قام به مارون النَّقاش (1817 - 1855) في المسرح، خصوصًا حين نضع في اعتبارنا أن تقديم تعريب مسرحية «البخيل» كان سنة 1847، أي قبل نحو خمسين عامًا من إصدار شوقي ديوانه الأول، كما أن تعريب نجيب الحداد (1867 - 1899) لمسرحية «روميو وجولييت» تحت عنوان «شهداء الغرام» التي عُرضت سنة 1890 كان سابقًا على إصدار شوقي «الشوقيات» بثماني سنوات.
والأمر نفسه ينطبق على ترجمات محمد عثمان جلال (1829 - 1898) الذي ترجم ما ترجم من المسرح «الروايات المفيدة في علم التراجيدة» سنة 1878.
ومن الرواية «الأماني والمُنى والمِنّة في حديث قبول وورد جنة» 1872 (بول وفرجيني)، وبعد سنوات قليلة من إصدار فرانسيس فتح الله المرّاش روايته «غابة الحق» سنة 1865.
وفي الوقت نفسه، فإن نشر رفاعة الطهطاوي (1801 - 1884) لترجمته «مواقع الأفلاك في وقائع تليماك» سنة 1867 ونشر بطرس البستاني (1819 - 1883) تعريبه: «التحفة البستانية في الأسفار الكروزية» سنة 1861 كان عملًا موازيًا للجهود الأولى للبارودي في تجديد الشعر، تمامًا كما أن نشاط فرح أنطون (1874 - 1922) الروائي كان مُعاصرًا للنشاط الشعري لكلّ من الرصافي (1877 - 1945) في العراق، وأحمد محرم (1877 - 1945). وقُل الأمر نفسه على إسماعيل صبري (1855 - 1923) الشاعر الذي كان معاصرًا لأديب إسحاق (1856 - 1885) المسرحي، وذلك بالقدر الذي كان نشاط جرجي زيدان (1861 - 1914) الروائي مُعاصرًا للنشاط الشعري لجميل صدقي الزهاوي (1863 - 1936).

توافق دالّ
فرغ علي مبارك (1823 - 1893) من كتابة رواية «علم الدين» سنة 1879، بعد سنة واحدة من نشر محمد عثمان جلال لتعريب «الروايات المفيدة في علم التراجيدة» - كما سبق أن أشرتُ - وأعطاها لصديقه عبدالله فكري كي ينقّحها ويصلح أسلوبها قبل نشرها سنة 1882، أي قبل ثلاث سنوات من إصدار عائشة التيمورية «نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال» سنة 1885، وقبل سبع سنوات من إصدار جرجي زيدان روايته «السابع عشر من رمضان» سنة 1889، وكذلك قبل تسع سنوات من إصدار أليس البستاني روايتها «صائبة» سنة 1891.
ولا أريد أن أمضي في الاستشهاد، فالواقع أن مراجعة دقيقة لما كتبه محمد يوسف نجم في كتابيه الرائدين «القصة في الأدب العربي الحديث: 1870 - 1914» (نُشر سنة 1952)، و«المسرحية في الأدب العربي الحديث: 1847 - 1914» (نُشر سنة 1956)، فضلًا عن القوائم الملحقة بكتابي عبدالمحسن بدر: «تطور الرواية العربية الحديثة في مصر: 1870 - 1938» (نُشر سنة 1963)، وإبراهيم السعافين: «تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام» (نُشر سنة 1980)، وبيبليوغرافيا الرواية العربية 2000 تؤكد التوافق الدالّ واللافت بين تأسيس الزمن الجديد الواعد لكل من الرواية العربية والمسرح العربي، في موازاة التجديد الشعري الذي بدأ بالبارودي ولم يتوقف بعده. 
وتؤكد التوازيات الدالة، الناتجة من هذه المراجعة، أن فن الرواية مثل فن المسرح، أُسّس زمنهما في موازاة تجديد الشعر، وفي اتجاهٍ غير مُناقضٍ لاتجاه حركة السهم الصاعد لرغبة النهضة التي انبثقت في كل مجالات الوعي المديني الصاعد وأنشطته.

حضور مُتصاعد
بالطبع، ظلت الرواية - كالمسرحية - هامشية بالقياس إلى الشعر من منظور الثقافة السائدة.
وكان طبيعيًّا أن ينالها - كالمسرح - من الهجوم الحاد والعنيف الكثير، سواء من المنظور الأخلاقي أو الاجتماعي أو الديني، الأمر الذي لم يحدث مع الشعر.
لكن الحدّة المُتصاعدة من الهجوم - وقد سبق أن كتبتُ عنها في دراسات سابقة - لها دلالة غير مباشرة في الإشارة إلى الحضور المُتصاعد والتأثير المُتزايد لهذا الفن الجديد الذي أخذ على عاتقه تحرير نوعه من هيمنة النوع الأدبي الواحد، وذلك في سعيه إلى تحرير الوعي المديني من نقائضه، وتحرير المدينة العربية من كلّ ما يحول بينها وأحلام التقدم.
ولم تكن نهضة الشعر - من هذا المنظور المُغاير - مجرد بعثٍ لعصوره الزاهرة، أو إحياء لشُعرائه القُدامى، وإنما كانت تطلعًا إلى أُفقٍ جديدٍ مُغاير، أُفق يبدأ من حيث انتهى القدماء، بعد محاولة استعادتهم بأكثر من معنى، وذلك لكي ينطلق شاعر النهضة إلى آفاق جديدة على سبيل تأكيد فضل اللاحق في علاقته بالسابق، وفي مدى المعرفة التي تظل دائمًا في حال كشف، بالمعنى الذي أشار إليه البارودي بقوله:
فثمّ علوم لم تفتّق كمامها   
وثمّ رموز وحيها غامض السر

وهو معنى لا يخلو من تأكيد حضور اللاحق على مستوى الإضافة، خصوصًا بما يجاوز دلالة «الإحياء» أو «البعث» التي لا تستوعب صفات النهضة، وتختزلها في مدلولٍ ضيقٍ ينفي عنها خصائص المُغايرة والمُباينة في العلاقة بالأصل من ناحية، والتوجه وجهات مخالفة لهذا الأصل من ناحيةٍ مقابلة، ولولا ذلك ما قال البارودي:

كَمْ غادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ
وَلَرُبَّ تَالٍ بَزَّ شَأْوَ مُقَدَّمِ
فِي كُلِّ عَصْرٍ عَبْقَرِيّ لا يَنِي 
يَفْرِي الْفَرِيّ بِكُلِّ قَوْلٍ مُحْكَمِ

بين البعث والإحياء
علينا ألا ننسى - من هذا المنظور - أن صفتي: «الإحياء» و«البعث» تعنيان - فيما تعنيان - نوعًا من العَود على بدء بالمعنى الذي ينفي أصالة الجدة الحقة، أو الإضافة المُغايرة. أعني الجدة والإضافة التي دفعت البارودي إلى الانفتاح على الثقافات الشرقية، وشوقي على الثقافة الغربية، وخصوصًا الفرنسية، فتأثر بالشعراء الفرنسيين الذين اجتذبته تجاربهم من أمثال لافونتين (1621 - 1695)، ولامارتين (1790 - 1869)، وفيكتور هوجو (1802 - 1885)، فحاول أن يكتب أليجوريات على طريقة الأول، ويصف على طريقة الثاني، ويقتحم عوالم التاريخ كما فعل الثالث في ديوانه: «حديث القرون» أو «أسطورة العصور» الذي ترك أصداءه على مطوَّلة شوقي «كبار الحوادث في وادي النيل»، التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين الذي عُقِد في مدينة جنيف سنة 1894، وكان مندوبًا لمصر في هذا المؤتمر.
ولولا هذا التأثر ما اقترب شوقي من المسرحية التاريخية التي كتبها للمرة الأولى في باريس سنة 1892، مُستخدمًا شخصية علي بك الكبير موضوعًا للمسرحية التي أعاد كتابتها في سنواته الأخيرة. 
وعندما نُضيف إلى شوقي، حافظ إبراهيم (1871 - 1932) الذي ترجم أجزاء من رواية فيكتور هوجو الشهيرة «البؤساء» سنة 1903، وحاول أن يدخل عالم القص، كما دخل شوقي عالم المسرحية، أقول عندما نضيف إلى شوقي محاولات حافظ للتجديد، بصفته مِثالًا على غيره، نجد عسيرًا على التَّقبُّل وصف ما فعله هؤلاء الشعراء وأمثالهم بأنه «إحياء» أو «بعث» فحسب، إلا إذا فهمنا الإحياء أو البعث بالمعنى الذي يضيف فيه اللاحق على السابق؛ إذ تظل هذه الإضافة في إطار السابق المُحدد سلفًا، وفي حدود النوع الأدبي الذي يتحقق فيه وبه البعث أو الإحياء.
والأمر مع جديد أمثال شوقي وحافظ والرصافي أكبر من أن يكون مجرد عَودٍ على بدء أو منافسة لفحول القدماء، فكل ذلك موجود حقًّا، لكن يوجد إلى جواره أُفق مُغاير، وأنواع أدبية مُغوية بوعودها التي جعلت من الشاعر قاصًّا وكاتبًا مسرحيًّا، وداعية تغريبٍ في بعض الحالات، خصوصًا في تلك الحال التي أشار إليها حافظ إبراهيم بقوله:

آن يا شعر أن نفكّ قيودًا
قيدتنا بها دُعاة المحال 
فارفعوا هذه الكمائم عـنّا 
ودعونا نشمّ ريحَ الشمال

نوع إبداعي جديد
من المؤكد أن ريح الشمال ما كان يمكن أن تهبّ، وما كان يمكن أن تؤثر، بل ما كان يمكن أن تجد لها صدى على مستويي الإبداع والتلقّي، إلا إذا كانت الظروف والأحوال قد اكتملت، لتؤكد تفاعل الوافد مع الأصيل الراسخ في نوعٍ من الكيمياء الجديدة التي يتولد بها نوع إبداعي جديد، يصل ما بين الموروث والوافد في حركةٍ جدليةٍ يتولَّد عنها فعلٌ إبداعيّ جديد، هو الروايات التي ظلت مُحتفظة بملامحها التراثية الغالبة في البداية، لكنها تخلَّت عن هذه الملامح التراثية تدريجيًّا لتأخذ شكلًا أقرب إلى التجاوب مع ريح الشمال، فتأسس فنّ الرواية في سياقاته العربية الجديدة التي أنتجت من الروايات الواعدة ما كان تبشيرًا مُرهِصًا بزمن الرواية أو زمن القص على السواء، جنبًا إلى جنب زمن المسرح الذي وازى، بدوره، زمن الشعر الذي لم يختفِ أو يبهت، بل ظل مُحافِظًا ومُناضلًا من أجل أن يكون فنّ العربية الأول، لكنه شيئًا فشيئًا أخذ يدرك أنه ليس الفن الأوحد في زمنٍ جديدٍ من الاستنارة، وعهدٍ جديدٍ من القراءة، ونوعٍ أجدّ من القراء الأفندية والأوانِس، القادرين والقادرات على قراءة الجورنالات التي أصبحت تُقدّم لهم من أنواع القصّ ما يُرضِي حاجاتهم، إضافة إلى أنواع جديدة من الإبداع الروائي والمسرحي على السواء، خصوصًا بعد أن انتشرت التياترات التي لحقت بها دور العرض السينمائي منذ ما يقرب من قرنٍ ونصف القرن من الزمان، فَغَدَونا إزاء عهدٍ جديدٍ من النهضة والثقافة الواعدة لطبقة وسطى صاعدة اقترن حضورها المؤثر بإبداعات جديدة تؤكد حضور الطبقة الصاعدة التي أحلت «الأفندية» محل «المشايخ»، والتي أضافت إلى المرأة الأُميَّة، المرأة المُتعلّمة التي أصبحت قادرة على أن تقرأ الجورنالات في الصباح، وأن تذهب مع زوجها إلى التياترات في المساء.

فنون متعددة
هكذا فارقنا «زمن الشعر» الذي لا ينازعه فن آخر بوصفه «ديوان العرب»، وأصبحنا إزاء فنون متعددة يسعى فن القصّ فيها إلى أن يصبح هو الفن المُهيمن على غيره، خصوصًا في الفترات التاريخية التي يعوق فيها غياب الديمقراطية فن المسرح من الازدهار.
وكانت النتيجة ازدهار فن القص الذي أخذ ينافس فن الشعر ويغالبه، تأكيدًا لحضور الطبقة الصاعدة الواعدة؛ أعني الطبقة الوسطى التي واصلت صعودها، وواصلت نشر ثقافة الاستنارة بواسطة الصياغات الرمزية لفنّها المراوِغ؛ أعني فن القص الذي استطاع أن يراوِغ الرقابة، وأن ينطق المسكوت عنه والممنوع من النُّطق به في الوعي الاجتماعي المُتحوِّل، أو الوعي المديني الذي أصبح يؤسِّس أو يُلازم حضور الطبقة الوسطى الصاعدة، سواء بوعيها المديني المحدث، أو برؤيتها للاستنارة التي غدت أساسًا لوعي جديدٍ لا يكف عن الحلم بالتقدم، ولا عن الحلم بِقيم الاستنارة وما يصحبها، أو يلزم عنها، من مبادئ الدولة المدنية الواعدة لمباهج التقدم وأحلام الحرية والعدالة في دولةٍ مدنيةٍ عصريةٍ تحقق أحلام «الحرية» و«الإخاء» و«المساواة».
هكذا انبثق فن الرواية العربية جامعًا ما بين أصول الماضي التراثي العظيم، ومُكتسبات الحاضر الواعد بأحلام الدولة العصرية المُبهجة التي رآها القراء فيما كتبه علي مبارك أو رفاعة الطهطاوي وفرانسيس فتح الله المراش عن «لندره»، أي لندن و«باريس»؛ حيث التقدم المذهل والقطارات التي تُسابق الرياح، والبواخر التي تشق المحيطات، ناشرة أحلام التقدم والعدالة والحرية إلى آخر كل قيم النهضة التي حملتها روائع الإبداع الأوربي، وخايلت بها عقولٌ مُتطلِّعة مُتلهِّفة عند أبناء وبنات الطليعة العربية، تلك العقول التي أخذت تضع «الروايات المُفيدة» في برنامجها الثقافي اليومي، ساعية - عبر طلائعها الفتيَّة - إلى تحقيق كل ما كان يحلم به رجل النهضة العربية وقرينته من طليعة الحركة النسوية العربية على السواء. 
وهذا هو ما جعلني أُطلق على هذا الكتاب اسم «الرواية والاستنارة» في طبعته الأولى. وهأنذا - في طبعته الثانية - أؤكدُ القيم نفسها التي ينبغي أن نتواصل معها، ونضيف إليها ما ورثناه عن أمثال الطهطاوي وعلي مبارك وفرانسيس المراش وزينب فواز، لنضيف إليهم ما ظل متواصلًا في روايات نجيب محفوظ ومن جاءوا بعده، خصوصًا ما كان يحلم به صابر الرحيمي من قيم الحرية والأمن والسلام، وأخيرًا وليس آخرًا، التقدم وكل أحلام المستقبل الواعد بالحرية والعدل ■

 

شخصيات عربية أدبية وثقافية وفكرية أثرت في الزمن الروائي العربي