علم الاقتصاد السلوكي الجديد
شهدت العقود الماضية بداية نشوء فكر جديد في أدبيات الاقتصاد والتمويل، مما قلب بعض المفاهيم والنظريات التي طوّرها وعمل بها علماء الاقتصاد التقليدي خلال العقود الثلاثة الماضية، وجعل كثيرًا من الباحثين يتحفز إلى العمل الدؤوب في عمل المزيد من البحوث لتأكيد هذه النظريات الجديدة أو نفيها. كانت النظريات الاقتصادية التقليدية، وخاصة في مجالات الاقتصاد المالي، تفترض أن المستثمرين يتمتعون بالرشادة الكافية في اتخاذ قراراتهم الاستثمارية.
من أبرز علماء ذلك النهج البروفيسور الأمريكي من جامعة شيكاغو يوجين فاما حائز جائزة نوبل بالمشاركة مع روبرت شيلر ولارس هانسن عن علم الاقتصاد في عام 2013، وهم نخبة من علماء الاقتصاد المنتمين للمدرسة الفكرية ذاتها، وقد اشتهر فاما بفرضيته المشهورة التي أدخلها إلى أدبيات علم التمويل في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وهي عن كفاءة أسواق الأسهم، حيث يفترض فيها أن المستثمرين في تلك الأسواق يتميزون بالرشادة في اتخاذ قراراتهم الاستثمارية، وأن أسعار الأسهم تتحدد وفقًا لمعطيات المعلومات المتوافرة في السوق، والتي تنعكس بالأسعار، وأن المتداولين لا يستطيعون بأي حال من الأحوال التغلب على السوق، أو تحقيق أرباح من خلال المضاربات، لأن آلية السوق ستعيد الأسعار إلى مستوياتها الحقيقية.
وقد صنّف أسواق الأسهم إلى ثلاثة أسواق؛ سوق يتمتع بكفاءة ضعيفة، وفيها تعكس الأسعار المعلومات التاريخية فقط، وبالتالي لا يستطيع المستثمر أن يستفيد من تحليل الأسعار التاريخية للحصول على أي أرباح إضافية.
أما النوع الثاني فهو السوق شبه القوي، وفي هذه الحالة فإن الأسعار تتضمن البيانات التاريخية والمعلومات الأساسية للسهم. وفي هذا السياق، لا يستطيع المتداول أن يستفيد من التحليل الفني، أو التحليل الأساسي، الذي يعتمد على تحليل ميزانية الشركات ووضعها المالي في التنبؤ بأسعار الأسهم، لأن الأسعار قد احتوتها.
أما النوع الثالث فهو السوق القوي، وفي هذه الحالة فإن السعر يعكس جميع البيانات والمعلومات المعلنة وغير المعلنة، وهنا لا يستطيع المستثمر بأي حال أن يتنبأ بأسعار الأسهم.
دراسات جادة
استند إلى هذه الفرضيات عدد كبير من الباحثين وقدّموا المزيد من البحوث والدراسات والتطبيقات في المجال ذاته، وتم نشرها في الدوريات الاقتصادية المختلفة، حيث ناهزت عشرات الآلاف، سواء كانت على شكل دراسات جادة تم استخدام الاقتصادي القياسي فيها، أم على شكل تقارير مختلفة.
وظلت أدبيات علم الاقتصاد والتمويل، لمدة طويلة ناهزت 4 عقود، تهمل الجانب الأساسي في منظومة الاقتصاد، وهو الإنسان وسلوكياته التي تؤثر بلا شك في آلية عمل الاقتصاد، فصحيح أنها وضعت الأسس السليمة لآلية عمل الاقتصاد ونظرياته في مجال الاقتصاد الكلّي والجزئي، إلا أن الجانب النفسي للإنسان، سواء كان مستثمرًا أم مستهلكًا، في طريقة اتخاذ قراراته لم تُعط الاهتمام الكافي، كما أعطاها رواد الاقتصاد السلوكي الحديث، واستمر هذا الوضع حتى العقد الحالي، حيث قدّم علماء النفس أفكــارهم ونظرياتهم إلى الاقتصاديين الذين استفادوا منها جميعًا في بلورة أفكارهم، وبالتالي نظرياتهم، والشيء اللافت للنظر أن علماء الاقتصاد الذين جاؤوا بفلسفة الاقتصاد السلوكي هم أيضًا من جامعة شيكاغو المعروفة، فقد نشأ الاقتصاد السلوكي من خلال مساهمات بعض علماء النفس في تلك الجامعة.
فكر جديد
تبلور الاقتصاد السلوكي بشكله الحالي على يد البروفيسور رتشارد ثلر حائز جائزة نوبل عن الاقتصاد في عام 2017 حول كتابه المسمى «التنبيه»، الذي حقق رقمًا عالميًّا بالمبيــــعات، والذي تناول العوامل التي تدعو الأشخاص إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية التي ينجم عنها سلوك غير رشيد، الأمر الذي يلغي بعض الفرضيات التي اعتمد عليها علم التمويل والاقتصاد التقليدي المشار إليها في هذا البحث، والتي تفترض أن الأشخاص يتخذون القرارات بطريقة عقلانية، لأنهم يتطلعون إلى تحقيق أهدافهم بطريقة سليمة، في حين جاء الفكر الجديد يخالف بعض هذه النظريات، حيث يرى أن قرارات الأشخاص قد لا تكون بالضرورة عقلانية، إذ تلعب العوامل النفسية دورًا كبيرًا فيها، مشيرين إلى أن الأزمات المالية العالمية التي حدثت وآخرها تلك الأزمة المالية في عامي 2007 و2008 دليل واضح على أن الأشخاص يقدّمون على تصرفات غير عقلانية ينجم عنها، على سبيل المثال، فقاعات وتذبذبات في أسواق المال العالمية.
وتجدر الإشارة إلــــى أن سلوكيـــات الأشخاص، سواء كانوا مستثمــرين أم منتجين أم مستهلكين قد أشار إليها الاقتصادي المعروف آدم سميث في القرن الثامن عشر، عندما لفت إلى أن سلوكيات الإنسان غير كاملة، وقد تؤثر في أداء الاقتصاد، وقد تم إهــــمال هذه الإشارة إلى أن حدث الكساد العظيم في عام 1929، حيث حاول الاقـــتصاديان إيرفنغ فـــيشر وفلــــيردو بيريفو تقديم بحث يتناول العوامل التي تتعلق بتصرفات الأشخاص وسلوكياتهم في الأسواق خلال تلك الأزمة.
نظرية الاحتمالات
استمر الفكر الاقتصادي غافلاً عن هذا الموضوع حتى عام 1979 عندما نشر كل من أموس تفيرسكي ودانيال كايهنمان بحثهما تحت عنوان نظرية الاحتمالات، حيث تمت مناقشة موضوع كيفية اتخاذ الأشخاص قراراتهم الاقتصادية بشأن الربح والخسارة، وقد أدخلا المفاهيم الأولية للاقتصاد السلوكي الذي صاغه وطوره إلى الشكل الحالي رتشارد ثلر من خلال أبحاثه الميدانية المختلفة.
وأخذ هذا العلم ينمو، حيث تمت الاستفادة من علم النفس، والاجتماع، وعلم الأحياء في التعرف على نمط التفكير الإنساني، من خلال رصد خلايا العقل الإنساني.
ويمكن إيجاز أهم الأسس التي اعتمد عليها الاقتصاد السلوكي في أنه ركّز على الجانب النفسي والاجتماعي لكي يستنبط العوامل المؤثرة في اتخاذ قرارات الأشخاص.
ونستطيع في هذا المقال أن نجزم بأن الاقتصاد السلوكي جاء مكمّلاً للاقتصاد التقليدي وليس بديلاً له، فهو بمنزلة إضافة لعلم أسّسه الرواد الكبار مثل آدم سميث، جون كينز، ميلتون فريدمان، وديفيد ريكاردو ■