صباح الأحمد... رائد الفكرة

صباح الأحمد... رائد الفكرة

«إن اقتضى الأمر دفعتُ نفقة إخراج العربي من جيبي»  
(صباح الأحمد)

 اختزلت تلك الكلمات العلاقة الخاصة التي ربطت بين أمير دولة الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح (1929 – 2020) ومجلة العربي، والتي لم تنقطع بعد مرحلة تأسيس المجلة وانطلاقها في ديسمبر 1958م، بل استمرت طوال مسيرتها، رغم تقلّد سموه العديد من المناصب، وآخرها أمير دولة الكويت.
لقد كانت كلماته بمنزلة العهد الذي قطعه صباح الأحمد على نفسه لكي يضمن للمجلة الثقافية الجديدة استمرارها في دائرة الحضور السامق، ليس فقط على الصعيد المحلي، بل لكي تكون على قدر التحدي والأمل بأن تكون هدية الكويت لكل العرب ولكل قارئ للغة العربية.

بعد مسيرة حافلة بالإنجازات والبصمات الفريدة، فقدت الكويت والعالم في التاسع والعشرين من شهر سبتمبر الماضي قائدًا مميزًا هو أمير الإنسانية، حضرة صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، كما فقدت مجلة العربي بشكل خاص مؤسس مشروعها الذي غرس بذرته الأولى وسقاها من حكمته ورعايته حتى كبرت وأثمرت، لتصبح أهم مطبوعة ثقافية على مستوى الوطن العربي.
لقد امتلك صباح الأحمد رؤية بعيدة أدركت مكامن القوة التي يمكن للثقافة أن تؤديها في تكريس رسالة الكويت بخدمة القضايا العربية ولمّ شمل العرب على الصعيد الثقافي، فكانت «العربي» جامعة عربية تجسدت الوحدة العربية على صفحاتها التي جمعت أقلام المبدعين العرب من الخليج إلى المحيط، وعرّفت العرب على بلدان ومدن وقرى العرب تحت شعار «اعرف وطنك أيها العربي». 

الثقافة من أركان الدولة
من خلال موقعه كرئيس لدائرة المطبوعات والنشر عام 1956، ظهر الوجه الثقافي لصباح الأحمد الذي آمن بأن الثقافة يجب أن تكون مكونًا رئيسيًا من مكونات الدولة التي ستنهض قريبًا وتحصل على استقلالها الكامل بعد خمس سنوات، وقبل أن نخوض في استعراض أبرز محطات تلك المرحلة، يجب أن نشير إلى أن الفترة الطويلة التي قضاها الأمير الراحل في منصب وزير الخارجية (1963 - 2003) غطت بشكل كبير على منجزاته التي حققها في دائرة المطبوعات والنشر ووزارة الإرشاد والأنباء، وبخاصة دوره في تأسيس مجلة العربي وتطوير مطبعة الحكومة وتبنّيه لمشروع طبع المخطوطات القديمة.

«النهّاض لكل جليلة عظيمة»
في العدد رقم 50 من مجلة العربي، الذي صدر في يناير 1963، تحدث رئيس التحرير الأول د. أحمد زكي حديث الشهر الذي تزامن مع الذكرى الرابعة لميلاد «العربي»، عن بعض الخفايا التي حصلت في السنوات الأولى بعد صدور المجلة وأسباب تميزها التي أفرد لها، ومنها عدد النسخ المطبوعة من المجلة الذي وصل إلى ثمانين ألفًا.  وتوقّف زكي عند حوار مهم دار بينه وبيــــن وزيــر الإرشاد والأنباء الشيخ صباح الأحمد، ورد فيه ما يقطع الشك باليقين عن الدور الأساسي الذي قام به الأمير الراحل من أجل صدور مجلة العربي جاء فيه:  
«واغتبط الوزير، وزيرنا، وزير الإرشاد والأنباء، الشاب المتفتح للمستقبل، النّهاض لكل جليلة عظيمة من الأعمال، وقد كان رائد الفكرة، فكرة إصدار مجلة تكون لشتى أبناء العرب قاطبة». وقد نشر د. أحمد زكي في حديث الشهر المذكور أعلاه التصريح المهم لوزير الإرشاد والأنباء، والذي استفتحنا به هذا المقال: «إن اقتضى الأمر دفعتُ نفقة إخراج العربي من جيبي». 

تطوير مطبعة الحكومة
بعد تلك الشهادة التي وثّقها رئيس التحرير الأول، نأتي إلى التقرير التاريخي الذي رفعه الأستاذ أحمد السقاف بتاريخ 25 يناير 1958م إلى رئيس دائرة المطبوعات والنشر الشيخ صباح الأحمد، الذي كلّف السقاف أواخر عام 1957م بالسفر إلى مجموعة من الدول العربية، للتعاقد مع مَن يقع عليه اختياره من محررين وفنيين لإصدار مجلة ثقافية تكون بمنزلة هدية الكويت لكل العرب. 
ودوّن السقاف تفاصيل رحلته إلى العراق وسورية ومصر ولبـــنان، واختيــــاره للدكتــور أحمد زكي وسليـــم زبّال وأوسكـــار متري وقدري قلعجـــــي وآخريــــن، للعمــــل عــلى إطــــلاق مشـــروع المجلة الثقافية من أرض الكويت، كما أوضح بشكــــل مفصل طرق تأميـــن مواد الأرشيف من الصور الفوتوغرافيـــة والمستلزمات الفنية التي تحتاج إليها المجلة في عملية الطباعة. 
وقادت تلك المهمة العظيمة لأحمد السقاف إلى مهمة أخرى لا تقل عنها أهمية، وهي تطوير مطبعة الحكومة التي أُسست عام 1956م لطبـــاعة الجريدة الرسمية (الكويت اليوم)، فبعد أن دخل مشروع إصدار المجلة الثقافية (مجلة العربي) حيّز التنفيذ، كان لا بدّ من إيجاد مطبعة توازي إمكاناتها حجم الطموحات التي تتطلع لطباعة كميات تكفي للتوزيع في أرجاء الوطن العربي.
وصدر أمر التكليف للسقاف من رئيس دائرة المطبوعات والنشر الشيخ صباح الأحمد، للسفر إلى مدينة دوسلدورف الألمانية في مايو 1958م لحضور معرض الطباعة هناك، وشراء كل ما تحتاج إليه المجلة الجديدة من أحدث وأفضل مكائن الطباعة، وهذا ما كان، بعد أن أتم السقاف مهمته بنجاح وأرسى لمجلة العربي الأرضية المتينة للانطلاق.
 
مشروع طبع المخطوطات القديمة
لم يتبق من منجزات الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد عندما كان رئيسًا لدائرة المطبوعات والنشر، ثم وزيراً للإرشاد والأنباء، سوى مشروع طبع المخطوطات القديمة، وقد ورد ذكرها في تقرير السقاف. 
وملخص ذلك المشروع أن تختار دائرة المطبوعات والنشر ستة كتب مخطوطة سنويًا بمعدل كتاب واحد كل شهرين من المخطوطات الموجودة في جامعة الدول العربية التي كانت تحتوي حينذاك على 15 ألف مخطوط، وتحال إلى محققين أجلّاء لتحقيقها، ثم تذهب بعد ذلك إلى مدير معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية وقتها، د. صلاح الدين المنجد، وأخيرًا تعود تلك الكتب بعد مراجعتها وتحقيقها إلى دائرة المطبوعات والنشر لطبعها ونشرها في الوطن العربي.
 وقد اختار السقاف عدة كتب عبارة عن فاتحة المشروع الجديد هي: العبر للحافظ الذهبي الدمشقي، والذخائر والتحف للقاضي الزبير بين النعمان، وأخبار البحتري وأبي تمام لابن الأثير الجزري، والأضداد في اللغة للأنباري، وديوان عبدالله بن قيس الرقيات. 

الثقافة قبل الاستقلال
في الختام، لقد أدرك سمو أمير البلاد الراحل الشيخ صباح الأحمد أهمية الثقافة وقوتها الناعمة في التأثير الإيجابي على مجريات لبلد صغير المساحة مثل الكويت، لذلك لم يكن مستغربًا أن تحوز المشاريع الثقافية، ومن بينها مجلة العربي، الكثير من الاهتمام قبل حصول دولة الكويت على استقلالها عام 1961م، وجدير بالذكر هنا أن انطلاقة «العربي» في ديسمبر 1958م تزامنت مع انعقاد المؤتمر الرابع لاتحاد الأدباء العرب في دولة الكويت، وهو ما يدلل على مكانتها الثقافية بين أشقائها العرب ■