عن بلاغة المقموعين

عن بلاغة المقموعين

في مطلع التسعينيات، وحين كنتُ أقوم بتدريس مادتَي النقد والبلاغة، في قسم اللغة العربية، لَفَت انتباهي أن بعض القدماء يُعرِّف «البلاغة» بأنها الصمت. وهو تعريفٌ أوقفني عنده طويلًا، فقد تعوَّدتُ أن «البلاغة» يمكن أن تكون في الإطناب أو الإيجاز، أو حتى في الاهتمام بالتفاصيل هنا أو هناك، ولكن أن تكون «البلاغة» في الصمت فحسب، فإن العلاقة دالّة ولافتة لِمَن كان مثلي في ذلك الوقت، خصوصًا بعد أن قرأتُ بيتين لأبي نواس يقول فيهما:
مُت بِداءِ الصَمتِ خَيرٌ      
لَكَ مِن داءِ الكَلامِ
إِنَّما السَّالِمُ مَن أَلـ             
جَمَ فاهُ بِلِجامِ
وهما بيتان يفتحان في ذهني آفاقًا أخرى للصمت.

 

لذلك‭ ‬وجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬أطرح‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬أرَّقني‭ ‬وحيَّرني،‭ ‬وهو‭ ‬عن‭ ‬إمكان‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬البلاغة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬نُدرِّسُها‭ ‬لتلامذتنا‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬بلاغة‭ ‬السُّلطة‭ ‬فحسب‭. ‬أعني‭ ‬أنها‭ ‬بلاغة‭ ‬تتوجه‭ ‬للمُخاطِب‭ ‬الذي‭ ‬يتوجَّه‭ ‬بخطابه‭ ‬عادة‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬رفيع‭ ‬المقام،‭ ‬أميرًا‭ ‬أو‭ ‬قائدًا‭ ‬أو‭ ‬وزيرًا‭ ‬أو‭ ‬إمامًا‭ ‬أو‭ ‬خليفة،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يكون‭ ‬معه‭ ‬المخاطِب‭ (‬بكسر‭ ‬الطاء‭) ‬أقلّ‭ ‬رتبة‭ ‬ومقامًا‭ ‬من‭ ‬المُخاطَب‭ (‬بفتح‭ ‬الطاء‭) ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتوجه‭ ‬الخطاب‭ ‬البلاغي‭ ‬إليه‭ ‬بكل‭ ‬تكريمٍ‭ ‬وإعزازٍ‭ ‬وتقديرٍ‭ ‬وتفخيم،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬مُبالغة،‭ ‬ولذلك‭ ‬أوقفونا‭ ‬عند‭ ‬ما‭ ‬عَدُّوه‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬مقتضى‭ ‬الحال،‭ ‬مُتمثِّلين‭ ‬له‭ ‬بقول‭ ‬جَرير‭ ‬الذي‭ ‬خاطب‭ ‬به‭ ‬الخليفة‭ ‬الأموي‭ ‬بمطلع‭ ‬قصيدته‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

 

أَتَصحو‭ ‬بَل‭ ‬فُؤادُكَ‭ ‬غَيرُ‭ ‬صاحِ

عَشِيَّةَ‭ ‬هَمَّ‭ ‬صَحبُكَ‭ ‬بِالرَّواحِ

 

فانتفض‭ ‬الخليفة‭ ‬وردَّ‭ ‬عليه‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬بل‭ ‬فؤادك‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬الفاعلة‮»‬‭. ‬وأمر‭ ‬بعقابه،‭ ‬فظل‭ ‬الشاعر‭ ‬يُضرب‭ ‬على‭ ‬قفاه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬الخليفة‭ ‬مدحورًا،‭ ‬مغمومًا،‭ ‬مُحقَّرًا،‭ ‬نائلًا‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬من‭ ‬لومٍ‭ ‬وعقابٍ؛‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يُراعِ‭ ‬مقام‭ ‬الخليفة‭ ‬وأسمعه‭ ‬مطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التجريد،‭ ‬يتحدث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بضمير‭ ‬المُخاطِب‭ ‬الذي‭ ‬يقصد‭ ‬به‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬وليس‭ ‬الخليفة‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭.‬

لكن‭ ‬الخليفة‭ ‬لم‭ ‬يفهم‭ ‬توجُّه‭ ‬الخطاب،‭ ‬وإنما‭ ‬فهمه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬خطاب‭ ‬موجَّه‭ ‬إليه‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التجريد‭. ‬وهكذا‭ ‬حدثت‭ ‬الواقعة‭ ‬وعاقب‭ ‬الخليفة‭ ‬الشاعر‭ ‬البائس‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يُدرك‭ ‬أن‭ ‬‮«‬البلاغة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬مطابقة‭ ‬الكلام‭ ‬لمُقتضى‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬فصاحته،‭ ‬وهو‭ ‬تعريفٌ‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬معنى‭ ‬اللياقة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬خطاب‭ ‬العامة‭ ‬مُختلفًا‭ ‬عن‭ ‬خطاب‭ ‬الخاصة،‭ ‬كما‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬خطاب‭ ‬الأمير‭ ‬مُختلفًا‭ ‬عن‭ ‬خطاب‭ ‬الرجل‭ ‬المتواضع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬وزن‭ ‬له‭.‬

هكذا‭ ‬وجدتني‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬احتمال‭ ‬وجود‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬‮«‬البلاغة‮»‬،‭ ‬وبعد‭ ‬تأمّل‭ ‬طال‭ ‬مداه‭ ‬نوعًا،‭ ‬وجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬أنتهي‭ ‬إلى‭ ‬افتراض‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬بلاغتينِ‭: ‬بلاغة‭ ‬هي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مُطابقة‭ ‬الكلام‭ ‬لمقتضى‭ ‬الحال،‭ ‬وهي‭ ‬البلاغة‭ ‬التي‭ ‬نعرفها،‭ ‬والتي‭ ‬ترتبط‭ ‬بأوضاع‭ ‬اجتماعية‭ ‬طبقية‭ ‬يتوجه‭ ‬فيها‭ ‬العامة‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬لهم‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬إلى‭ ‬الخاصة‭ ‬الذين‭ ‬يحتكرون‭ ‬القوة‭ ‬والسُّلطة‭ ‬والثروة‭ ‬والسلاح‭.‬

 

بلاغة‭ ‬مُعارِضة

أما‭ ‬البلاغة‭ ‬الأخرى‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هي‭ ‬بلاغة‭ ‬مُعارِضة،‭ ‬أعني‭ ‬أنها‭ ‬بلاغة‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬المقموعين‭ ‬إزاء‭ ‬قامعيهم،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬يجعلهم‭ ‬يُنفِّسون‭ ‬عن‭ ‬المكبوت‭ ‬من‭ ‬مشاعرهم‭ ‬أو‭ ‬آرائهم‭ ‬أو‭ ‬أفكارهم،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬شِعرهم‭ ‬ونثرهم‭ ‬وطُرق‭ ‬إبداعاتهم‭ ‬المُتعددة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬مكانة‭ ‬وأفهام‭ ‬ذوي‭ ‬السُّلطة‭ ‬من‭ ‬القامعين‭ ‬أو‭ ‬الحاكمين‭ ‬الذين‭ ‬يعتمدون‭ ‬على‭ ‬البطش‭ ‬المُطلق،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬حُكمهم،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الشعراء‭ ‬أو‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الأدب‭ ‬الذين‭ ‬يتوجهون‭ ‬إليهم‭ ‬طلبًا‭ ‬للعطاء‭ ‬أو‭ ‬الثروة،‭ ‬فيضطرون‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بالرجل‭ ‬الكريم‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬يقوله‭ ‬طلبًا‭ ‬للعطاء‭ ‬أو‭ ‬المدح‭. ‬ولا‭ ‬يفوتني‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬الشاعر‭ ‬حيص‭ ‬بيص‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬مُحتجًّا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭:‬

 

كما‭ ‬أذَلْتُ‭ ‬المديح‭ ‬في‭ ‬حمد‭ ‬قوم‭    

كان‭ ‬كفرًا‭ ‬بالمجد‭ ‬هذا‭ ‬الحمدُ

حَرجًا‭ ‬ألجأ‭ ‬الصدوق‭ ‬إلى‭ ‬الميـ‭    

ن،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬لوازم‭ ‬العيش‭ ‬بُدُّ

 

ولم‭ ‬يكن‭ ‬كل‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬تواضع‭ ‬هذا‭ ‬الشاكي‭ ‬البسيط،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬شعراء‭ ‬كبار‭ ‬مثل‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ ‬أو‭ ‬المتنبي،‭ ‬فقد‭ ‬تحدث‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬ممدوحيه‭ ‬قائلًا‭:‬

 

جذبت‭ ‬نداه‭ ‬غدوة‭ ‬السبت‭ ‬جذبة‭    

فخَّر‭ ‬صريعًا‭ ‬بين‭ ‬أيدي‭ ‬القصائد

 

وهو‭ ‬بيتٌ‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬دلالته،‭ ‬خصوصًا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المادح‭ ‬والممدوح،‭ ‬فالأول‭ ‬يُجاذب‭ ‬الثاني‭ ‬العطاء،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يتذلل‭ ‬إليه‭ ‬وإنما‭ ‬يفرض‭ ‬عليه‭ ‬العطاء،‭ ‬سواء‭ ‬بصيته‭ ‬الأدبي‭ ‬أو‭ ‬وزنه‭ ‬الشعري،‭ ‬فيصرعه‭ ‬بشعره‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يخر‭ ‬صريعًا‭ ‬بين‭ ‬أيدي‭ ‬القصائد‭.‬

أما‭ ‬المتنبي‭ ‬فقد‭ ‬تعلَّم‭ ‬من‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ ‬المعنى‭ ‬الواضح‭ ‬للسخرية‭ ‬الماكرة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يستخدمها‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬الممدوحين‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬يراهم‭ ‬أقل‭ ‬منه‭ ‬شأنًا‭ ‬أو‭ ‬مرتبة،‭ ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يخاطب‭ ‬كافور‭ ‬الإخشيدي‭ ‬بقوله‭:‬

 

وَمَا‭ ‬طَرَبِي‭ ‬لمّا‭ ‬رَأيْتُكَ‭ ‬بِدْعَةً‭ ‬

لقد‭ ‬كنتُ‭ ‬أرْجُو‭ ‬أنْ‭ ‬أرَاكَ‭ ‬فأطرَبُ

 

وهو‭ ‬بيتٌ‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬الذم‭ ‬فيه‭ ‬وضوحًا‭ ‬عن‭ ‬المدح،‭ ‬بل‭ ‬يختلط‭ ‬المعنيان‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬ماكر‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬معه‭ ‬البيت‭ ‬مدحًا‭ ‬وذمًّا‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬وليست‭ ‬السخرية‭ ‬في‭ ‬الحالين‭ ‬سوى‭ ‬أداة‭ ‬بلاغية‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬بلاغة‭ ‬المقموعين‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تتسلح‭ ‬بالسخرية‭ ‬الماكرة‭ ‬أو‭ ‬الكتابة‭ ‬الملتوية‭ ‬أو‭ ‬التورية‭ ‬المُراوِغة‭ ‬لكي‭ ‬تُتيح‭ ‬للمقموعِ‭ ‬أن‭ ‬يُنفِّس‭ ‬عن‭ ‬قمعه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬القامع،‭ ‬أو‭ ‬يجعله‭ ‬ينطق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬المقموع‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬القامع،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬المراوَغة‭ ‬الأسلوبية‭ ‬والبلاغية،‭ ‬التي‭ ‬تُناوش‭ ‬تجبّر‭ ‬القامعين‭ ‬وتسلُّطهم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬المقموعين‭ ‬بطشٌ‭ ‬أو‭ ‬انتقام،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عقاب‭ ‬كذلك‭ ‬العقاب‭ ‬الذي‭ ‬نال‭ ‬جريرًا‭ ‬حينما‭ ‬أخطأ‭ ‬في‭ ‬مقتضى‭ ‬الحال،‭ ‬فأخذ‭ ‬غلمان‭ ‬الخليفة‭ ‬يُشيِّعونه‭ ‬إلى‭ ‬الباب‭ ‬وهم‭ ‬يصفعونه‭ ‬على‭ ‬قفاه‭. ‬

 

بين‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر

عندما‭ ‬اتسعتُ‭ ‬بتأملاتي‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬العربي،‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬أن‭ ‬بلاغة‭ ‬المقموعين‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬الأدب‭.‬

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬أدركتُ‭ ‬بعد‭ ‬بحثٍ‭ ‬بسيط‭ ‬واختيارات‭ ‬أوَّلية‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬بين‭ ‬بلاغة‭ ‬القامعين‭ ‬وبلاغة‭ ‬المقموعين‭ ‬تتخلل‭ ‬حتى‭ ‬الثنائية‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭. ‬فقد‭ ‬اختص‭ ‬الشعر‭ ‬بصفات‭ ‬السُّلطة‭ ‬واعتُبر‭ ‬رمزًا‭ ‬من‭ ‬رموزها‭ ‬ومظهرًا‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الوجاهة‭ ‬والسيادة‭ ‬فيها،‭ ‬بينما‭ ‬ارتبط‭ ‬النثر‭ ‬بنقيض‭ ‬السُّلطة،‭ ‬فارتبط‭ ‬بالناس‭ ‬البسطاء،‭ ‬المقموعين‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬المجتمع‭ ‬ولا‭ ‬سلطة‭ ‬لهم‭ ‬إزاء‭ ‬القامعين‭ ‬الكبار،‭ ‬وهم‭ ‬شرائح‭ ‬التجار‭ ‬والمعلمين‭ ‬ومن‭ ‬في‭ ‬حُكمهم‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬الكوفة‭ ‬والبصرة‭ ‬وليس‭ ‬انتهاء‭ ‬ببغداد‭ ‬أو‭ ‬القاهرة‭ ‬أو‭ ‬الشام‭.‬

ولقد‭ ‬كان‭ ‬لهؤلاء‭ ‬فنَّهم‭ ‬النثري‭ ‬الذي‭ ‬يُعبِّر‭ ‬عن‭ ‬مطامحهم‭ ‬الجديدة‭ ‬أو‭ ‬أشواقهم‭ ‬المُرتبطة‭ ‬بأحلامهم‭ ‬العِرقية‭ (‬التي‭ ‬تُقاوم‭ ‬التمييز‭ ‬القُرشيّ‭ ‬العربي‭)‬،‭ ‬والاجتماعية‭ (‬التي‭ ‬تُقاوم‭ ‬التمييز‭ ‬الاجتماعي‭)‬،‭ ‬والدينية‭ (‬التي‭ ‬تُقاوم‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬وغير‭ ‬المسلمين‭)‬،‭ ‬والجنسية‭ (‬التي‭ ‬تقاوم‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة‭).‬

هكذا‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬فيما‭ ‬رأيتُ‭ ‬بمنزلة‭ ‬جدارية‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬سرديات‭ ‬تتحدى‭ ‬التمييز‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والديني‭ ‬والسياسي‭ ‬والعِرقي،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬كونها‭ ‬تنويعة‭ ‬فانتازيا‭ ‬ضخمة‭ ‬تصل‭ ‬المعقول‭ ‬باللا‭ ‬معقول،‭ ‬وتلجأ‭ ‬إلى‭ ‬أساليب‭ ‬كرنـفالية‭ ‬تعصف‭ ‬بأنواع‭ ‬التراتب‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وأشكال‭ ‬التمييز‭ ‬العرقي‭ ‬أو‭ ‬الديني‭ ‬أو‭ ‬الجنسي،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يجعلنا‭ ‬نرى‭ ‬معنى‭ ‬لتلك‭ ‬الطرائف‭ ‬والغرائب‭ ‬التي‭ ‬تمتلئ‭ ‬بها‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬تُحيل‭ ‬الملوك‭ ‬إلى‭ ‬صعاليك،‭ ‬أو‭ ‬تضع‭ ‬الصعاليك‭ ‬موضع‭ ‬الأمراء،‭ ‬أو‭ ‬تعصف‭ ‬بكل‭ ‬الأشكال‭ ‬المألوفة‭ ‬من‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والعرقية‭ ‬والجنسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والدينية‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭ ‬رغبة‭ ‬تدميرية،‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬حالة‭ ‬كي‭ ‬تعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬الأوضاع‭ ‬اللا‭ ‬إنسانية‭ ‬كي‭ ‬تجعل‭ ‬منها‭ ‬إنسانية‭.‬

 

تجليات‭ ‬أخرى

كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تستعين‭ ‬بلاغة‭ ‬المقموعين‭ ‬في‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬بالسِّحر‭ ‬والخرافة‭ ‬أو‭ ‬التحولات‭ ‬اللا‭ ‬منطقية،‭ ‬لكي‭ ‬تُحقق‭ ‬أغراضها‭ ‬في‭ ‬التنفيس‭ ‬عن‭ ‬عنف‭ ‬اللا‭ ‬وعي‭ ‬المقموع،‭ ‬وهو‭ ‬يتصدى‭ - ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الخيال‭ - ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يؤرِّقه‭ ‬ويحول‭ ‬بينه‭ ‬وحريته‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬مجتمع‭ ‬قَمعي‭ ‬يتشبث‭ ‬فيه‭ ‬أصحاب‭ ‬السُّلطة‭ ‬بسُلطتهم‭ ‬وأصحاب‭ ‬الثروة‭ ‬بثروتهم،‭ ‬ويتحالف‭ ‬كلاهما‭ ‬مع‭ ‬حملة‭ ‬أقلام‭ ‬يُمكِّنون‭ ‬لهم‭ ‬الأمر‭ ‬أو‭ ‬استمرار‭ ‬القمع‭ ‬أو‭ ‬الحكم‭ ‬بخطابات‭ ‬أيديولوجية‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬البلاغة‭ ‬القمعية‭ ‬وتُجسِّدها‭.‬

ولقد‭ ‬حاولتُ‭ ‬أن‭ ‬أُعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬كما‭ ‬حاولتُ‭ ‬أن‭ ‬أصل‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬أرى‭ ‬فيها‭ ‬تجليات‭ ‬أخرى‭ ‬لبلاغة‭ ‬المقموعين،‭ ‬وما‭ ‬فعلته‭ ‬في‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬،‭ ‬عندما‭ ‬رأيتُ‭ ‬فيها‭ ‬أمثولة‭ ‬من‭ ‬أمثولات‭ ‬تحرير‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬تحرير‭ ‬المواطن‭ ‬المقموع،‭ ‬رأيته‭ ‬في‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬فيها‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬سطوة‭ ‬السلطان‭ ‬القامع‭ ‬وضعف‭ ‬موقف‭ ‬المثقف‭ ‬المقموع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬إلا‭ ‬مقاومة‭ ‬السلطان‭ ‬بالحيلة‭ ‬والرمز‭ ‬الذي‭ ‬يفتح‭ ‬له‭ ‬أبواب‭ ‬النجاة‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المقاومة‭ ‬بالحيلة‭ ‬اللفظية‭ ‬أو‭ ‬الرمزية‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

وتوقفتُ‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬المظاهر‭ ‬الأخرى،‭ ‬وذلك‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬بحثٍ‭ ‬لي‭ ‬عن‭ ‬‮«‬بلاغة‭ ‬المقموعين‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أصدرته‭ ‬في‭ ‬مطالع‭ ‬التسعينيات،‭ ‬ولقي‭ ‬البحث‭ ‬ما‭ ‬جعلني‭ ‬أَرضَى‭ ‬عن‭ ‬استجابات‭ ‬المختصين‭ ‬فيه،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يدفعني‭ ‬إلى‭ ‬معاودة‭ ‬النظر‭ ‬فيه‭.‬

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬كتبتُه‭ ‬ونشرتُه‭ ‬هو‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬القليل،‭ ‬فمن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬‮«‬بلاغة‭ ‬المقموعين‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬تخيلتُ،‭ ‬وأنها‭ ‬خَلقت‭ ‬لنفسها‭ ‬تجليات‭ ‬وتقنيات‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬العربي‭ ‬الإبداعي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬السرديات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ندرسها‭ ‬دراسة‭ ‬تَفيها‭ ‬حقَّها‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬استسلامنا‭ ‬للفكرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬سائدة،‭ ‬والتي‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬ديوان‭ ‬العرب‮»‬،‭ ‬فالشعر‭ ‬هو‭ ‬ديوان‭ ‬العرب‭ ‬حقًّا،‭ ‬لكنه‭ ‬ديوان‭ ‬بلاغة‭ ‬القامعين‭ ‬بمعنى‭ ‬أو‭ ‬آخر،‭ ‬بينما‭ ‬النثر‭ ‬بسردياته‭ ‬العديدة‭ ‬هو‭ ‬ديوان‭ ‬العرب‭ ‬المقموعين‭ ‬أو‭ ‬الهامشيين‭ ‬والمُهمَّشين،‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬تمثَّلوا‭ ‬في‭ ‬التجار‭ ‬والصُّناع‭ ‬الذين‭ ‬قرأوا‭ ‬ودروا‭ ‬وتعلَّموا‭ ‬الكتابة،‭ ‬كما‭ ‬تعلّموا‭ ‬بعض‭ ‬علوم‭ ‬العصر‭ ‬التي‭ ‬أتاحت‭ ‬لهم‭ ‬صنوفًا‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬المعرفة‭ ‬بالمعمورة‭ ‬التي‭ ‬حولهم،‭ ‬فعرفوا‭ ‬‮«‬تحقيق‭ ‬ما‭ ‬للهند‭ ‬من‭ ‬مقولة،‭ ‬مقبولة‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬أو‭ ‬مرذولة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬عرفوا‭ ‬عوالم‭ ‬لم‭ ‬يطأوها‭ ‬بواسطة‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭ ‬وابن‭ ‬جبير،‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬الرَّحالة‭ ‬الذين‭ ‬اخترعوا‭ ‬شخصيات‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬سندباد‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يجوب‭ ‬البحار‭ ‬والقارات،‭ ‬مُتحدثًا‭ ‬عن‭ ‬عوالم‭ ‬وأناس‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬بهم‭ ‬عهد‭ ‬وملوك‭ ‬يتّسمون‭ ‬بالعدل،‭ ‬كما‭ ‬قرأوا‭ ‬كتابات‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الذين‭ ‬يلجأون‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬القص‭ ‬الرمزي‭ ‬ناطقين‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬العقيدة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬السياسة،‭ ‬فينطقون‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال‭. ‬هكذا‭ ‬عرفوا‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬الحيوان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬إخوان‭ ‬الصفا‭ ‬ورسائل‭ ‬أخرى‭ ‬موازية‭ ‬عن‭ ‬كائنات‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬حي‭ ‬بن‭ ‬يقظان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تنقَّلت‭ ‬تجليات‭ ‬شخصيته‭ ‬الرمزية‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬وابن‭ ‬طفيل،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬معاني‭ ‬‮«‬رسائل‭ ‬الطير‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كتبها‭ ‬فلاسفة‭ ‬ومتصوفة‭ ‬عرب‭ ‬وعجم‭ ‬وحتى‭ ‬الشعوب‭ ‬البائسة‭ ‬الفقيرة،‭ ‬فإنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬عبَّرت‭ ‬عن‭ ‬أحلامها‭ ‬وآمالها‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬القومية‭ ‬فصاغت‭ ‬لنفسها‭ ‬سيَرًا‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬أبطال‭ ‬يفوقون‭ ‬الأبطال‭ ‬البشريين‭ ‬ويصنعون‭ ‬في‭ ‬الخيال‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬صناعته‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬يجاوز‭ ‬حتى‭ ‬التاريخ‭ ‬المعروف‭.‬

 

السّيَر‭ ‬الشعبية

هكذا‭ ‬رأينا‭ ‬السّيَر‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬تُبرر‭ ‬سرديًّا‭ ‬امتداد‭ ‬النيل‭ ‬بفضل‭ ‬سيف‭ ‬بن‭ ‬ذي‭ ‬يزن‭ ‬من‭ ‬منابعه‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬إلى‭ ‬مصبِّه‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وتمضي‭ ‬مع‭ ‬عنترة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬وهو‭ ‬يضع‭ ‬مُعلَّقته‭ ‬التي‭ ‬كُتبت‭ ‬على‭ ‬أقمشة‭ ‬الحرير‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬جدران‭ ‬الكعبة‭ ‬المشرّفة،‭ ‬لننطلق‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬العبد‭ ‬سيدًا،‭ ‬ونمضي‭ ‬نحن‭ ‬قراء‭ ‬السّير‭ ‬الشعبية،‭ ‬فنرى‭ ‬الظلم‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬المماليك‭ ‬المصرية،‭ ‬فتخلق‭ ‬سيرة‭ ‬من‭ ‬سيَر‭ ‬العدل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحلم‭ ‬بها‭ ‬الجماهير‭ ‬العريضة‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬الظاهر‭ ‬بيبرس،‭ ‬ولا‭ ‬تترك‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬والروم‭ ‬إلا‭ ‬وهي‭ ‬تبتدع‭ ‬شخصية‭ ‬تحقق‭ ‬أحلام‭ ‬انتصار‭ ‬الدين‭ ‬على‭ ‬أعدائه‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬‮«‬الأميرة‭ ‬ذات‭ ‬الهِمة‮»‬،‭ ‬وتمضي‭ ‬السّيَر‭ ‬الشعبية‭ ‬أو‭ ‬الملاحم‭ ‬الشعبية‭ ‬معتمدة‭ ‬على‭ ‬النثر‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬مسجوع‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الاستشهاد‭ ‬الشعري،‭ ‬عابرة‭ ‬ومحطمة‭ ‬كل‭ ‬القواعد‭ ‬البلاغية‭ ‬التقليدية،‭ ‬وخالقة‭ ‬إبداعًا‭ ‬شعبيًّا‭ ‬يطالب‭ ‬بحقه‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬وساخرًا‭ ‬في‭ ‬حضوره‭ ‬الخلاق‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬السدود‭ ‬والقيود‭ ‬التي‭ ‬نضعها‭ ‬لكي‭ ‬نفصل‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬نُسمِّيه‭ ‬بالأدب‭ ‬الشعبي‭ ‬والأدب‭ ‬الرسمي،‭ ‬مؤكدة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬هو‭ ‬الأدب،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬يتراتب‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬خصوصية‭ ‬شعبية‭ ‬أو‭ ‬صفوة‭ ‬نخبوية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬طبقي‭. ‬فالأدب‭ ‬هو‭ ‬الأدب،‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قولٍ‭ ‬جميلٍ‭ ‬وكل‭ ‬إبداع‭ ‬أصيل‭. ‬ومع‭ ‬الأسف‭ ‬فهذا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نعرفه‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬تراثنا‭ ‬القديم‭ ‬إلى‭ ‬عهدٍ‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬وعينا‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث‭.‬

ولم‭ ‬تتغير‭ ‬الحال‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أعدنا‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬بأعين‭ ‬غير‭ ‬عربية،‭ ‬فاكتشفنا‭ ‬القيمة‭ ‬النادرة‭ ‬لــ‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬،‭ ‬وتعجبنا‭ ‬مما‭ ‬قاله‭ ‬فيها‭ ‬أدباء‭ ‬العالم‭ ‬الكبار‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬فولتير‭ ‬وليس‭ ‬انتهاء‭ ‬بجارثيا‭ ‬ماركيز‭ ‬الذي‭ ‬ألهمته‭ ‬الليالي‭ ‬طريقه‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬نزعة‭ ‬‮«‬الواقعية‭ ‬السحرية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أوصلته‭ ‬إلى‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب‭ ‬عام‭ ‬1982‭.‬

 

كنوز‭ ‬نادرة

هكذا‭ ‬اكتشفنا‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬اكتشفنا‭ ‬به‭ ‬غير‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬من‭ ‬السرديات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬كنوز‭ ‬نادرة‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نعرفها،‭ ‬ولن‭ ‬نعرفها‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬توقفنا‭ ‬عن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الشّعر‭ ‬باعتباره‭ ‬فن‭ ‬العربية‭ ‬الأكبر‭ ‬والأعظم‭ ‬والأوحد‭ ‬والأول،‭ ‬فللعربية‭ ‬فنّ‭ ‬آخر‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬بلاغة‭ ‬المقموعين‭ ‬ويضرب‭ ‬بجذوره‭ ‬في‭ ‬القِدم،‭ ‬ويستمر‭ ‬إلى‭ ‬عصرنا‭ ‬الحالي‭ ‬في‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬الخلاق‭ ‬والتنوع‭ ‬الإبداعي‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نعرف‭ ‬أسراره‭ ‬ولن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬عروقه‭ ‬الذهبية‭ ‬التي‭ ‬تتخلل‭ ‬تراثنا‭ ‬كله‭ ‬القريب‭ ‬والبعيد،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬تجاوزنا‭ ‬هذه‭ ‬التقاليد‭ ‬البالية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬الشِّعر‭ ‬إلا‭ ‬فصيحه،‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬النثر‭ ‬القديم‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬‮«‬كتابة‭ ‬فنية‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬المُغاير‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬‮«‬شعبي‮»‬‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬‮«‬الرسمي‮»‬‭.‬

وهذه‭ ‬كلها‭ ‬بطاقات‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالأدب‭ ‬الخلاق‭ ‬الذي‭ ‬يعصف‭ ‬بها‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬وجوده‭ ‬الإبداعي‭ ‬الذي‭ ‬يمتد‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬كما‭ ‬تمتد‭ ‬العروق‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬الرخام،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تفصلها‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬دمرت‭ ‬صفحة‭ ‬الرخام‭ ‬كلها‭.‬

هل‭ ‬ترى‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نظل‭ ‬قانعين‭ ‬بتقسيمنا‭ ‬التراث‭ ‬إلى‭ ‬شعر‭ ‬ونثر،‭ ‬واختزال‭ ‬النثر‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬فنية‭ ‬أرقى‭ ‬في‭ ‬رسائلها‭ ‬وخُطَبِها‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬غير‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬في‭ ‬ملاحم‭ ‬شعبية‭ ‬أو‭ ‬سِير‭ ‬شعبية‭ ‬أو‭ ‬سرديات‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬سرديات‭ ‬رمزية‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬رسائل‭ ‬الطير‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الغُربة‭ ‬الغريبة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬‮«‬حي‭ ‬بن‭ ‬يقظان»؟‭!‬

الحقيقة‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬أعين‭ ‬جديدة‭ ‬تُعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬الإبداعي‭ ‬قديمًا‭ ‬وحديثًا،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬المعايير‭ ‬التي‭ ‬نحدد‭ ‬بها‭ ‬ما‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الرسمي‭ ‬وما‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬شعبي‭ ‬ورسمي‭ ‬في‭ ‬آنٍ،‭ ‬فالأدبُ‭ ‬أدبٌ‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نصفه‭ ‬بصفات‭ ‬من‭ ‬خارجه‭ ‬أو‭ ‬بصفات‭ ‬تحمل‭ ‬أنواع‭ ‬التمييز‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭ ‬وفي‭ ‬وعينا‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬والديني‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬تقليديًّا،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأدب‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬ورثناه‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬مبدعيه‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يهادنوا‭ ‬القمع‭ ‬وظلوا‭ ‬يقاومونه‭ ‬إبداعًا‭ ‬شعريًّا‭ ‬وسردًا‭ ‬نثريًّا‭ ‬على‭ ‬السواء‭ ‬