تجليّات الحداثة في قصيدة الهايكو العربية

شهدت القصيدة العربية، عبر تاريخها، تحولات جوهرية، سواء على مستوى الشكل أو المضمون، بدءًا بالقصيدة العمودية ومرورًا بالموشح والزجل، ووصولا إلى القصيدة الحداثية، التي قطعت بدورها أشواطًا كبيرة في مسارها وتحولاتها، بل إن الأمر تجاوز حتى الأجناس الأدبية نفسها، فاخترقت قصيدة النثر فضاءات الكتابة لتتحول الشعرية من التجنيس إلى الكتابة بفضاءاتها الأوسع، وذلك كله بفعل شيوع حرية الإبداع والتجريب، وكذا الانفتاح على الإبداع العالمي تلقيًّا وترجمة وتحليلا.
على هذا الأساس تلقى الشعراء العرب قصيدة االهايكوب التي بدأت تتسرب من الشعر الياباني لتكتسح العالم في العقود الأخيرة، ولتحتل في الآونة الأخيرة مكانة مهمة في الشعر العربي، فاتجه عدد من الشعراء العرب نحو هذه القصيدة، مستطلعين إمكاناتها وطاقاتها التعبيرية.
االهايكوب أو االهايكايب فن شعري شكّل ثورة على الأنماط الشعرية التي كانت سائدة في الثقافة الشعرية، وهو بذلك يعد مظهرًا حداثيَّا يتجاوز الأشكال والمضامين القديمة. ويتشكل هذا المصطلح من مقطعين، الأول اهايب، الذي يحيل إلى معنى الإمتاع والتسلية، والثاني اكوب يحيل إلى اللفظ أو العبارة. والكلمة ككل تشير في معناها الحرفي إلى العبارة الممتعة أو الألفاظ المسلية والماتعة. وقد نشأت قصيدة الهايكو في منتصف القرن السادس باليابان في أحضان ديانة (الزن) أو البوذية، حسب ما يرجع أغلب الباحثين في الهايكو، وقد بدأت هذه القصيدة بسيطة وساذجة لم تعْدُ أن تكون أغانيَ للفلاحين، ثم تحولت إلى فن شعري قائم بذاته.
وقد ولدت هذه القصيدة في ظل التطورات المتعاقبة التي أدت في منتصف القرن السادس عشر إلى ولادة شكل شعري فلاحي يتسم بالخفة والحيوية، ليزاحم الأشكال الشعرية الوقورة العائدة إلى الماضي، سمي هذا الشكل هايكاي.
وقد شهد هذا النمط الشعري قفزة نوعية خلال القرن السابع عشر مع الشاعر الياباني ماتسو باشو (1644 - 1694)، الذي منح هذه القصيدة دينامية جديدة ورؤية أخرى تتمثّل في الاهتمام بعالم الطبيعة باعتبارها مصدرًا للتأمل، وذلك بأسلوب سلس يتصف بالبساطة المطلقة والجمالية الروحية، فأغلب قصائده يعكس مسيرة حياته التي قضاها في الأسفار وتماهيه مع عناصر الطبيعة.
وقد كانت تجربة هذا الشاعر بداية الانطلاقة الحقيقية لشعر الهايكو، لتفسح المجال بعد ذلك لعدد من الشعراء اليابانيين الذين أسهموا في تطوير هذا الفن، من أمثال كوباياشي إيسو ويوسا باسون. وسينفتح الغرب عن طريق الترجمة على هذا الشعر من خلال بعض الشعراء الغربيين من أمثال جاك كورواك وريشارد رايت وإزرا بوند.
الخصائص البنائية
تتكون قصيدة الهايكو من ثلاثة أبيات، ويشير عاشور الطوايبي إلى أن هذه القصيدة ارتبطت في منشئها الأصلي بمجموعة الخصائص البنائية، ففي اليابانية تتكون قصيدة الهايكو من سبعة عشر مقطعًا مرتّبة بنظام 5 7- - 5، وموزعة على ثلاثة جمل تكتب في سطر واحد من أعلى إلى أسفل، لكن شاعت كتابته في الغرب على هيئة ثلاثة أسطر، وهناك الآن من يكتبه على سطر واحد، يضبطها وزن مكوّن من سبعة عشر مقطعًا صوتيًّا، وهو ما يجعل هذه القصيدة تتسم بقصر حجمها مركزة على اللحظة الإنسانية الشاعرة في تفاعلها مع الطبيعة، مما يتيح مساحات شاسعة للتأويل وفضاء للمتخيل الشعري. ومن شروط هذا النوع الشعري أنه يتضمن ذكرًا لفصل من فصول السنة أو اسم نبات أو حيوان أو ظاهرة طبيعية، وزمنه المضارع ومواضيعه مأخوذة من الطبيعة عن طريق التجربة المباشرة كما تقدم صورتين متجاورتين.
كما يشترط في هذه القصيدة أن تكون ذات الشاعر غير ماثلة في القصيدة التي تخلو من المشاعر الصريحة، لذا تكون لغة الهايكو محايدة، وعادية تمامًا، حتى لكأن الهايكو يتبرأ من اللغة.
إن لغة القصيدة تتميز بأنها سهلة وبسيطة تجنح نحو السلاسة والتركيز، وهي بذلك تنفر من كل مظاهر التعقيد، فألفاظها بسيطة بعيدة عن زخرف الكلام، وتركيبها ينمّ عن إحساس عميق من التأمل يظهر الشاعر من خلالها دهشة جمالية، مما يجعل المتلقي في لحظة ذهول أمام هذا العمق للجمال والحركات البسيطة التي من حوله، والتي عادة لا ينتبه لها.
يقول باشو:
يَنْزَوِي الرَّبِيع
تَصْرُخُ الطُّيُور
عُيُونُ الأَسْمَاكِ مَمْلُوءَةٌ بِالدُّمُوع
وتشير الباحثة بشرى البستاني إلى أن احركة الهايكو حركة حرة في اتجاهات عدة، ولعل في اختلافه عن شروط الشعرية المتعارف عليها عربيَّا وغربيًّا ما يفسر ذلك أولًا، وثانيًا يكاد نقاد الهايكو يجمعون على أنه يتسم بسهولة اشتراطاته البنيوية التي تتلخص في أن شروط كتابته لا تتسم بالعسر والتعقيد، بل تتكون بنيته من جملة شعرية تتوزع على ثلاثة أسطر ذات تشكيل موجز باقتصاده اللغوي وتحرره من ملحقات التزيينب، إضافة إلى أن بناء القصيدة يتسم بالتماسك الشكلي والمعنوي، ذلك أن هذه القصيدة مبنية على وحدة الموضوع، وغالبًا ما يكون في ارتباط بالطبيعة ومكوناتها أو إشارات لأحد المواسم السنوية.
الخصائص الفنية
ترتكز قصيدة الهايكو على مجموعة من الخصائص الفنية والسمات الأسلوبية المتعارف عليها عند شعراء هذا النمط الشعري:
أ - التكثيف الدلالي
إن ما يميز قصيدة الهايكو أنها ذات طاقة مكثفة قادرة على إطلاق دلالات عدة يتيحها تعدد القراءات وتباينها، وقد تقوم لغته على المقابلة والتوازي والمفارقات لدى مقاربتها نقديًّا، وعلى اكتنازها لحظة جمالية يشتبك فيها الساكن بالمتحرك وهما يلامسان فاعلية المادة وحيويتها من خلال ملامسة الوعي الإنساني لها، وقدرتها على البث الدلالي حال تشكيل العلامة، فالعلامة تتكون من عنصرين، مادي مقروء أو منطوق مسموع، ومكون ذهني يعمل بتنبيه من الدال على تشكيل العلامة. فالهايكو مشهد يبدو ساكنًا، لكنه يختزن طاقة حركية تكمن شعريتها في هذا اللبس الكامن بين الصمت الظاهر والحركية المضمرة، بين التعبير المقتصد لغويًّا والدلالة المطلقة ذهنيًّا. فالقصيدة تعتمد على تقنية الحذف والاختصار من خلال الإيجاز المضمر للإيحاءات، لتكون الجملة الناتجة عن القطع والوصل قادرة على الانفتاح بين يدي المتلقي، وتمنحه بذلك تلك الدلالة المحذوفة.
ب - التركيز على اللحظة الجمالية
تهتم هذه القصيدة باللحظة الآنية وتحقيق الدهشة الجمالية عند المتلقي، وتشير البستاني إلى اأن الهايكو لحظة جمالية لا زمنية في قصيدة مصغرة موجزة ومكثفة تحفز المخيلة على البحث عن دلالاتها، وتعبّر عن المألوف بشكل غير مألوف، عبر التقاط مشهد حسي طبيعي أو إنساني ينطلق عن حدس ورؤية مفتوحة تتسع لمخاطبة الإنسان في كل مكان، من خلال ومضة تأملية صوفية هاربة من عالم مادي ثقيل محدود ضاق بأهله حتى تركهم باقتتال ومعاناةب، ذلك أن الشاعر يحاور وصف مشهد بعفوية من خلال ألفاظ بسيطة بعيدة عن التأنق وزخرف الكلام، والتعبير عن مشاعر جياشة وأحاسيس عميقة بنظرة تأملية، وهذا هو منبع الدهشة.
ج - الومضة الشعرية
تتسم اللغة الشعرية في قصيدة الهايكو ببساطة الألفاظ التي غالبًا ما تنحو إلى السهل الممتنع، وصياغة المعاني في تراكيب تتأسس على الخيال والإيحاءات وتكثيف اللغة، كما أن الكلمة الواضحة في الهايكو لا تستعمل لوضوحها، بل لأدائها دلالة أبعد من الوضوح، وهذه سمة أخرى من سماته.
إن كل زهرة وفراشة في الهايكو، وكل حبة رمل، وكل شجرة تمثّل صورة مصغرة للحياة التي نعيشها، وللعالم المعاصر الذي يمور بالواقع.
ولاهتمامه بالطبيعة وإشراقاتها، بحقولها ورياضها، أُطلق عليه شعر الربيع أو الشعر الأخضر، ولذلك رأى بعضهم أنه يقوم على الوصف، وخالفهم آخرون بأنه يمكن أن يتناول مختلف الموضوعات الشعرية لو توفرت فيها سمات هذا الفن بنيويًّا. فشعر الهايكو يختزن شحنة دلالية ومعاني مضمرة غنية بالرموز والإيحاءات التي تحقق حالة من المفارقة الشعرية، المستخلصة من حالة شعورية وتأملية في لحظة خاطفة، مما يتولد عنه ومضة شعرية تعكس شعرية هذه القصيدة.
تلقّي الهايكو في الشعر العربي
تلقى الشعراء العرب قصيدة الهايكو اليابانية عن طريق المثاقفة وحركة الترجمة. ومن أبرز الأعمال المترجمة اكتاب الهايكوب الذي ضمّ ألف هايكو عن دار التكوين بدمشق عام 2010، لمترجمه محمد عضيمة عن اللغة اليابانية مباشرة، معتمدًا مئة مرجع، ومستوعبًا ما يقرب من خمسة، موضحًا مسيرة هذا الفن ومراحل تطوره وأبرز شعرائه، وما زاد الكتاب قيمة، إدراج النص الأصلي بلغته اليابانية مع المترجَم.
كما تعَرّف بعض الشعراء إلى هذه القصيدة عبر لغات وسيطة خصوصًا الإنجليزية، من خلال أعمال تشامبرلين، والشاعر الأميركي إزارا باوند، وكذلك بول إيلوار الفرنسي وإمي لول. وخصصت مجموعة من المجلات منذ نهاية العقد السابع من القرن العشرين مساحة للهايكو، كما هو الشأن بالنسبة إلى مجلة عالم الفكر الكويتية سنة 1979، ومجلة الآداب الأجنبية سنة 1983، ممهدة بذلك الطريق للمزيد من الدراسات والإبداعات في هذا المجال، مما فسح المجال لعدد من الشعراء من أمثال: سعدي يوسف وعِذاب الركابي ومحمد الأسعد ولؤي ماجد سليمان، وغيرهم، ممن حملوا على عاتقهم مهمة الإبداع في هذا الفن، وسبر عوالمه عبر تطويع اللغة العربية واستنباط نماذج جديدة، بهوية عربية يعتد بها على المستوى العالمي. وسنتوقف في هذا الصدد عند بعض النماذج الشعرية للشاعر العراقي عِذاب الركابي.
استثمار حركية الصورة
يشير الركابي في ديوانه ارسائل المطرب: افي مجموعتي هذه، كانت الكلمات صاحبةَ المبادرة، ولهذا جاءت مشاغبة، والبلاغة مستفزة، والخيال أكثر جنوحًا وشرودًا وابتكارًا أيضًا، والحالة الشعرية أكثر نضوجًا...ب، فقصائده تنقل القارئ من المحسوس إلى المعنوي، إذ يغدو المألوف غريبًا والغريب مألوفًا معتادًا. يعقد الركابي في معظم قصائد المجموعة حلفًا مع الطبيعة في مختلف أطوارها، ويستهل ديوانه باستقلال الخريف لينتقل للشتاء برسائل المطر، وأخيرًا حلول الربيع ليتوقف عند سيرة القرنفل، وكبرياء الفراشة، وفضاء العصافير، فيخوض في تشعّبات عناصر الطبيعة من شمس وعواصف وصحراء وعصافير وشجر الزيتون والسنابل والزهور والريحان، ويرسم مظاهرها بالكلمات في تناغم وانسجام، ويجعل منطقها المضمون العام والفعلي الذي يوحي غالبًا الأمل والفرح وكل ما هو جميل ومضيء، والانتصار على اليأس وكل ما هو محزن وكئيب.
اقْتِيدَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
إِلَى غُرْفَةِ التَّحْقِيقِ،
فَأُدِينَ اللَّيْلُ لِظُلْمَتِهِ،
وَأُفْرِجَ عَن النَّهَار...
بِآيَاتِ نُورِهِ
ويقول في قصيدة سيرة القرنفل:
يُصَافِحُ الصَّبَاحُ
بِضَوْءِ قَلْبِهِ
قَطَرَات النَّدَى!!
إن الشاعر هنا وكأنه يلتقط صورة يصافح فيها الصباح قطرات الندى إشارة إلى بداية يوم مشرق مفعم بالأمل والسعادة، إن القصيدة عند الركابي تقوم على بناء يستثمر حركية الصورة بإيقاع يتخذ من شعرية الومضة وفلسفة المعنى بناء شعريًّا ظاهره المباشرة السريعة، وباطنه كثافة دلالية من الإيحاءات والصور المركبة المتداخلة مع ما يحمله كل فصل من دلالات بلغة بسيطة تبتعد عن كل مظاهر التعقيد.
يقول في قصيدة رسائل المطر:
سَأَلَ الخَرِيفُ
عَنْ السِّرِّ فِي حُبِّ الرَّبِيعِ
فَجَاءَ الجَوَابُ:
صَحْوًا،
وَوَرْدًا،
وَعَصَافِير
إن هذه النصوص تشكّل تمثيلاً حقيقيًا لشعر الهايكو في فرادته وبساطته التي يكسوها عمق وتزيّنها دقة متناهية في القبض على الصورة ونسجها في لغة سهلة وبديعة وبعيدة عن السرد، معتمدًا على تحقيق الومضة الشعرية التي تجمع بين المعنى الحسي والمعنى الذهني، ومن خلال ما تشمله الصور من العمق والسطح في الآن نفسه.
وعلى المستوى الفني تتميز هذه المجموعة بالبراعة في خلق الصور وعمقها، سواء تلك المرتبطة بالطبيعة، كما كان يفعل شعراء الهايكو اليابانيون الأوائل، أو صور أخرى نسجها الشاعر من خياله وترتبط بواقعه المحيط.
لقد بدأ شعر الهايكو العربي يأخذ مكانته المهمة ضمن الأجناس الأدبية؛ سواء الشعرية أو النثرية، نظرًا لما يتميز به من سلاسة اللغة واختزالها واستعمال مفردات وتراكيب سهلة عمومًا، وكل هذه المميزات جعلت قصيدة الهايكو تدخل عالم الإبداع العربي من بابه الواسع، مشكّلة بذلك ميسمًا حداثيًّا في الشعر العربي الحديث .