معهد الفنون الجميلة بتطوان...رهانات متعددة

معهد الفنون الجميلة  بتطوان...رهانات متعددة

من المؤكد أن تطوان المغربية مدينة مفتوحة ومنفتحة، تقنع زائرها بيُسر أن الآخر جزء محوري في وجودها.
وما كان بإمكانك أحيانًا، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأنت تتجول بين شوارعها وأزقّتها الأنيقة، أن تميز بين سحنات مغربية وأخرى إسبانية، كما أن اللغتين العربية والإسبانية كانتا تتداخلان وتغنيان بعضهما البعض، إلى درجة أن هنالك من كان يستعمل تعابير إسبانية معتقدًا أنها من صميم لغته الأم.
وبالرغم من الجراح الأليمة التي تخلّفها وضعيّة شاذة هي وضعية الاستعمار، فقد كان هنالك تزاوج بين المغاربة والإسبان، وارتباطات وصراعات وتواطؤات. 

 

لعل ذلك ما انتبه إليه الأديب عبداللطيف اللعبي حينما سجل في يومياته المعنونة بـ «شاعر يمرّ» الملاحظة التالية: «شهدت المنطقة التي تشرف عليها إسبانيا امتزاجًا في الأعراق على مستوى الأساس، كانت الفئة الكبيرة من الإسبان تتكون من عامة الشعب، وكانوا يقطنون، كما في طنجة وتطوان مثلًا، في الأحياء نفسها التي يقطنها المغاربة» (ورد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2010، ص. 70).
وبالفعل، فإن الإسبان شيّدوا مدينتهم الحديثة بجوار المدينة العتيقة التي كانت قائمة، وكان المعمار المتبنّى من طرفهم موسومًا بنوع من التقشف والبساطة. 
لم يكن الانفتاح إذن، وما يرافقه من استعداد لقبول الآخر، اختيارًا تبنّته مدينة تطوان، بل كان «قدرًا» بدأ يرسم ملامحه الأولى منذ استضافة المدينة وأهلها للأندلسيين الذين تم تهجيرهم من منازلهم ومدنهم وتعرّضوا للطرد من «فردوس الأندلس» ومن حواضر فاتنة بمعمارها وعراقتها وفن عيشها؛ قرطبة، وإشبيلية، وروندة، ومورسيا.
وما زالت عائلات تطوانية إلى الآن تحتفظ بأسمائها ذات الإحالة الإسبانية الأندلسية (آل مورسيا، آل بايص، آل لوقاش، آل مولينا...)، كما احتفظت بعاداتها وبأسلوب حياتها اللذين أتت بهما من الضفة الأخرى من المضيق، مما جعل البعض يطلق على تطوان اسم «أخت غرناطة».
ومن غرناطة تحديدًا أتى مؤسس «مدرسة الفنون الجميلة بتطوان» الفنان ماريانو بيرطوتشي. فمن هو هذا الفنان الذي تعهّد مشروعًا طلائعيًا في سياق اجتماعي وفكري وثقافي ينظر بعين الريبة للصورة ولكل ما أنتجته الحداثة من أشكال تعبيرية ومن توق للحرية؟
إنه مثقف إسباني متعدد الاهتمامات ومبدع ذو فضول معرفي قويّ، عمل على التعريف بشمال المغرب كوجهة سياحية، وحرص على تغيير بعض الصور النمطية المرتبطة بهذه المنطقة، واشتغل في المجال التربوي والتلقيني، ونقل سمات الحياة اليومية والعادات التطوانية إلى الملصقات الإشهارية والطوابع البريدية التي تزيّنت بإبداعاته التشكيلية، كما أسندت له مهمة إدارة «المدرسة الأهلية للصنائع» التي تخصصت في تعليم وتدريس المهن التقليدية للمغاربة، وعرف عنه حرصه على تطوير تلك المهن ومحاولة حفظها من الاندثار.

تلاقح ثقافي
أعلن بيرطوتشي، منذ البدء، ولاءه للجيش الإسباني، وعمل على تنزيل رؤية هذا الأخير على المستويين الثقافي والفني، وبهذا المعنى، فقد كان «المثقف العضوي» للجهاز العسكري الإسباني. وكان على مستوى الاختيارات الفنية متأثرًا بالتيار الرومانسي الاستشراقي الذي احتفى ببعض الجوانب الغرائبية من «الموضوع المغربي»، واحتفى بالضوء الذي يشعّ في هذه الأرض. 
وفي هذا السياق، أسس بيرطوتشي المعهد التحضيري للفنون الجميلة بتاريخ 11/12/1945. وكان من ضمن مهام المعهد التعريف بمدارس الفن الغربي، وتلقين مبادئها للإسبان والمغاربة المقيمين بمنطقة الحماية الإسبانية على حد سواء، ليصبح نموذجًا للتلاقح الثقافي والتبادل الإبداعي بين المغرب وإسبانيا، مما سهّل مأمورية مجموعة من المغاربة الشباب لدراسة الفنون الحديثة، ولإكمال هذه الدراسة بإشبيلية ومدريد، وصاروا فيما بعد فنانين ذاع صيتهم في المحافل الوطنية والدولية والإسبانية على الخصوص، طوال النصف الثاني من القرن الماضي، نذكر من بينهم محمد السرغيني ومكي مغارة وسعد بن شفاج ومحمد المليحي وأحمد العمراني وأحمد بن يسف وعبدالسلام نوار.
وعلى يد هذا الجيل الأول من الفنانين تمت «مغربة» هذا المعهد الذي تشترك الأعمال الفنية لأغلبية خريجيه في بعض السمات، أهمها: رسم المناظر الطبيعية وأزقة مدينة تطوان العتيقة ومراكب البحر والأسطح والشرفات والموديلات العارية، وتميّزت هذه الأعمال كذلك بتصويرها للحشود، مع اعتماد على استثمار الضوء، وتركيز واضح على الألوان: الأبيض والأحمر والأزرق، واستثمار للخط العربي (الكاليغرافيا)، وميل للتشخيص ومزج بين الرصيد الفني الكلاسيكي وبعض أساليب التعبير الطليعي، مما يعد خطوة أساسية ساهمت في بروز أولى تمظهرات التشكيل المغربي المعاصر. 

صدمة حداثة
واصل المعهد التحضيري للفنون الجميلة، الذي أصبح سنة 1993 معهدًا جامعيًّا، اشتغاله وتكويناته، أي أن صدمة الاستعمار التي رافقت لحظة تأسيسه تحولت إلى صدمة حداثة بما تحمله من تحديّات وأوجاع وإنجازات. 
وكما سجل الباحث في الجماليات والأستاذ بالمعهد د. شرف الدين ماجدولين، فإن: «المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، عرف تحوّلات في بنيته ووظائفه وعقيدته الفنية، منذ تأسيسه, بوصفه مدرسة عمومية للفنون الجميلة، تستقطب التلاميذ الراغبين في اكتساب مهارات بفنون النحت والرسم والصباغة والحفر، من شتى الأعمار والمستويات الدراسية، إلى أن أصبح مؤسسة جامعية وحيدة تستقبل الحاصلين على الباكالوريا من الطامحين إلى استكمال دراساتهم العليا في أحد التخصصات الفنية التي يكفلها المعهد، بعد أن استحدثت في نطاقه شُعب «الفن» و«التصميم»، أولاً، أضيف لهما بعد ذلك تخصص «الأشرطة المرسومة» النادر في كليات الفنون الجميلة عبر العالم». 
ويضيف د. ماجدولين أن «الشيء الأكيد هو أن تاريخ أداء هذه المؤسسة الرائدة، في شتى مراحلها، لم يكن لينفصل عن عقيدتها الفنية الأساس، تلك التي أسهمت في بروز فنانين بصيت عالمي من السرغيني إلى المليحي، ومن المكي مغارة وسعد بنسفاج وأحمد بن يسف إلى عبدالكريم الوزاني، ومن بوزيد بوعبيد إلى حسن الشاعر.
بيد أن تأثيرها في مجالها الوطني ثم في محيطها المتوسطي تجلّى عبر مرور السنين في مظاهر أغنى وأكثر عمقًا واتساعًا، عبر تشكيل صيغ وأساليب واقتراحات جمالية دانت بأصولها الأكاديمية لوجود المدرسة».
وقد عرفت هذه المؤسسة الفنية مسارًا غنيًّا ومحطات لافتة، وتعاقب على إدارتها فنانون مرموقون، مثل السرغيني والوزاني ومحمد الفخار ومحمد شبعة.

مصادفة نادرة
حكى لنا الوزاني عن مصادفة نادرة، هي أنه قد ترعرع بالحي الذي يوجد به المعهد، وأسرّ لنا بما يلي: «كان المعهد يثير فضولي وشهيتي، وكانت الأحلام تجنح بي بعيدًا، وكنت أتمنى أن تتاح لي الدراسة به». 
وكذلك كان، حيث درس بالمعهد، ثم التحق به أستاذًا ثم مديرًا. وما احتفظ به من علاقته بهذه المؤسسة في مختلف المراحل التي عاشها هو «أن ذلك الفضاء كان دومًا ضاجًا بالحياة، وأن الحب والحميمية والإخلاص كانت هي كلمات السر في العلاقات التي كانت سائدة، سواء مع بقية المدرسين أو مع الطلبة والمهتمين». 
ثم إن مجاورة هذه المؤسسة للمعهد الموسيقي ولبعض المؤسسات التعليمية بحيّ يُدعى الحي المدرسي، جعل منه رأس الحربة في فضاء يتميّز بالانفتاح وبعض البوهيمية وبكونه قبلة للحالمين وبجعله من التعلّم احتفالًا واختبارًا للأفكار الأكثر غرابة. 
وكما أكدت لنا الكاتبة العامة للمعهد ليلى العلوي، فإن الطلبة الذين يقصدونه «يأتون من سائر أنحاء المغرب، وهم حاصلون على شهادة الباكالوريا بجميع أنواعها، وتتراوح أعمارهم بين 17 و26 سنة لاجتياز مسابقة القبول، على أن تكون لهم دراية أوّلية بالفنون التشكيلية.
وهؤلاء الطلبة يختارون المعهد لأنهم يحلمون ويطمحون لأن يصبحوا فنانين مرموقين. وقد لا يهمهم أحيانًا حضور محاضرات باحثين معروفين ودروس دسمة لأساتذتهم من ذوي الخبرة والتجربة، في حين يبالغون في الاهتمام بمظهرهم الخارجي وبتسريحة شعرهم، حتى يقول عنهم الآخرون إنهم فنانون ومتميزون عن بقية الطلبة». 
وما يزال المعهد يواصل إسهامه في إغناء الحقل الفني المغربي، وهو يوجد الآن في أيدٍ أمينة تعمل على تطوير أدائه ومقرراته.

انطلاقة جديدة
صرح لنا المدير الحالي للمعهد، الباحث المتخصص في علم الآثار مهدي الزواق بأنه «يمكن القول إن المعهد الوطني للفنون الجميلة بعد 70 سنة من تأسيسه ومساهمته الريادية في التعريف بالفنون البصرية وتلقينها ببلادنا، يعرف اليوم انطلاقة جديدة باندماجه في الإصلاح الجامعي المبرمج، إذ أصبح المعهد مؤهلًا لمنح شواهد الليسانس والماستر والدكتوراه، مما سيمنحه حضورًا وازنًا على مستوى المؤسسات الجامعية الفنية». 
ويضيف الزواق أن المعهد لا يكتفي بالتلقين وتمكين الطلبة من المعارف المتعلقة بتاريخ الفنون البصرية وراهنها، بل «إن المعهد حريص على الاندماج في الحركية الثقافية والفنية للبلاد بتطويره للمنتدى الدولي للأشرطة المرسومة الذي هو تظاهرة فريدة على الصعيد الإفريقي والعربي.
وكذا مواصلة تظاهرة التصميم بمدينة تطوان وإتاحة الفرصة أمام المبدعين لإبراز طاقاتهم ومبادراتهم في هذا المجال، إضافة إلى الاهتمام بالفنون السردية والرقمية، مما سيتيح للمعهد تثبيت ريادته، ليس فقط على المستوى الوطني، بل على المستوى المتوسطي، خصوصًا أن مجموعة اتفاقيات شراكة تربطه بمعاهد فنيّة أوربية، مثل اتفاقية الشراكة التي أبرمها مع المدرسة العليا للفن والتصميم بـ«سان تيتييان» (فرنسا)، وهي مدرسة لها ريادة على الصعيد الأوربي، والاتفاقية التــــي تجمع المعهد مع جامعة إيكس مارسيليا التشكيلية ونحن منكبّون، في إطار هذه الاتفاقية، لوضع تصوّر لإحداث بيينال الفنون التشكيلية، والاتفاقية التي تربطه مع المدرسة العليا لـ «سان لوك» في بلجيكا، والتي ركّزنا فيها على تطوير شعبة الأشرطة المرسومة».

حديث رصين
يبقى الهدف المرسوم وفق مدير المعهد: «هو تكوين طلبة تكوينًا نظريًّا وتطبيقيًّا لتيسير عملية اندماجهم في سوق الشغل، وكذا لتمكينهم من تكوين أكاديمي حديث رصين يجعلهم منافسين مرهوبي الجانب في الساحة الفنية الوطنية والدولية».
وقد يكون انتماء مدينة تطوان إلى الهامش مصدرًا من مصادر قوّتها ومصدر الجاذبية التي يمارسه نورها العتيق على الروائيين والمبدعين والفنانين، كما جعلها هذا الانتماء تستضيف العديد من المبادرات الفنية والإعلامية والثقافية والمؤسسات المتحفية وقاعات السينما ومسرحًا، إضافة بالطبع إلى المعهد الوطني للفنون الجميلة الذي يستقبل مواهب من المغرب كله، ولا يدّخر جهدًا في صقل إمكاناتها وجعلها تجاور تجارب فنية متفردة وثريّة.
ويبدو أن قدَر تطوان هو أن تكون منفتحة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وأن تبادر دومًا، وألّا تتوقف عن تعهّد أحلامها وعن توسيع المدى أمامها، وأن تجعل الآخر، عبر مؤسساتها وتظاهراتها الثقافية والفنية، يندهش أمام إبداعاتها ومنجزها ■

 

الفنان هو الآخر يحتاج إلى دروس وتثقيف

 

حماس التعلم والاكتشاف

 

مدير المعهد الوطني للفنون الجميلة في حوار مع مجلة العربي

 

حصة رسم بالمعهد

 

الفنان عبد الكريم الوزاني الأول على اليمين رفقة المبدعين مكي مغارة وسعد الشفاج ومصطفى اليسفي في لوحة بالمجموعة الفنية

 

الفنان عبد الكريم الوزاني

 

ساحة بمدينة تطوان بمعمارها الكولونيالي