نفقُ الحياةِ ذاكرةُ النضالِ البوسني

نفقُ الحياةِ ذاكرةُ النضالِ البوسني

في بيتٍ من بيوتِ سراييفو الجريحةِ، لا يحملُ من الناحيةِ المعماريةِ والشكليةِ أيّ ملمحٍ مميزٍ يجعله مختلفًا عن بقيةِ بيوتِ المدينة، ثمَّة قصةٌ عظيمةٌ تقبعُ داخلَه وتسكنُ زواياه؛ قصةٌ يمكنُ القولُ إنها تختزلُ الذاكرةَ البوسنيةَ الحديثةَ التي تسكنُها أوجاعُ التاريخِ وآلامُه.

 

قصةٌ‭ ‬تروي‭ ‬أنَّ‭ ‬أعظمَ‭ ‬البيوتِ‭ ‬هي‭ ‬تلكَ‭ ‬التي‭ ‬أُسستْ‭ ‬على‭ ‬الوطنيةِ‭ ‬والشرفِ‭ ‬والنضالِ‭ ‬في‭ ‬وجهِ‭ ‬كلِ‭ ‬معتدٍ‭ ‬آثم‭. ‬أما‭ ‬البيتُ‭ ‬فهو‭ ‬بيتُ‭ ‬عائلةِ‭ ‬كولر‭ ‬لصاحبِه‭ ‬بايرو‭ ‬كولر‭ ‬وأمِه‭ ‬العجوز‭ ‬شيدا‭ ‬كولر،‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬منطقةِ‭ ‬بوتمير‭. ‬وأما‭ ‬القصةُ‭ ‬فنفقٌ‭ ‬أنقذَ‭ ‬مدينةً‭ ‬بأكملِها‭ ‬من‭ ‬حصارٍ‭ ‬ظالمٍ‭ ‬ضربَه‭ ‬الصربُ‭ ‬في‭ ‬حربٍ‭ ‬غيرِ‭ ‬متعادلةِ‭ ‬القِوى‭ ‬ولا‭ ‬متكافئةِ‭ ‬الموازينِ‭.‬

في‭ ‬بدايات‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬حوصرت‭ ‬سراييفو،‭ ‬المدينة‭ ‬الوادعة‭ ‬الهانئة‭ ‬الطيبة،‭ ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬القوات‭ ‬الصربية‭. ‬كان‭ ‬الحصار‭ ‬يسيّج‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهات،‭ ‬وظن‭ ‬أهل‭ ‬سراييفو‭ ‬أنهم‭ ‬قد‭ ‬أُحيط‭ ‬بهم‭. ‬وبدأ‭ ‬القصف‭ ‬يدكّ‭ ‬الأنحاء‭. ‬لم‭ ‬يدخل‭ ‬المدينة‭ ‬غذاء‭ ‬ولا‭ ‬دواء،‭ ‬حتى‭ ‬جاءت‭ ‬الفكرة‭ ‬المستحيلة؛‭ ‬بناء‭ ‬نفق‭ ‬يصل‭ ‬المدينة‭ ‬بمنطقة‭ ‬المطار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬تحت‭ ‬إمرة‭ ‬قوات‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭. ‬فكرة‭ ‬بدت‭ ‬لأول‭ ‬وهلة‭ ‬مجرّد‭ ‬خيال‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الخيالات‭ ‬البعيدة‭ ‬التي‭ ‬تعيث‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬اليائس‭ ‬البائس‭. ‬بيدَ‭ ‬أن‭ ‬الآمال‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬أفعال‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬صادفت‭ ‬إرادة‭ ‬وعزيمة‭ ‬لست‭ ‬تجدهما‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الأبطال‭. ‬هو‭ ‬نفق‭ ‬الأمل‭ ‬الذي‭ ‬حُفر‭ ‬بأيدي‭ ‬كرام‭ ‬عِظامٍ‭ ‬ليكون‭ ‬بمنزلة‭ ‬رئة‭ ‬سراييفو،‭ ‬منه‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬تتنفس‭ ‬المدينة‭ ‬وتبقى‭ ‬حيّة‭ ‬وعظيمة‭. ‬إنه‭ ‬نفق‭ ‬الحياة‭.‬

 

في‭ ‬داخلِ‭ ‬البيتِ

لدى‭ ‬وصولنا‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬وجدناه‭ ‬بيتًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬ليست‭ ‬مزدحمة‭ ‬بالبيوت‭ ‬والمنازل،‭ ‬واقعًا‭ ‬بمحــاذاة‭ ‬مـــدرج‭ ‬الطائرات‭ ‬لمطار‭ ‬سراييفو‭. ‬

البيت،‭ ‬كما‭ ‬كثير‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬بيوت‭ ‬سراييفو،‭ ‬تملؤه‭ ‬ندوب‭ ‬الرصاص‭. ‬وإلى‭ ‬الشمال‭ ‬من‭ ‬المدخل‭ ‬الصغير،‭ ‬أعلام‭ ‬البوسنة‭ ‬ترفرف‭. ‬أمام‭ ‬المدخل‭ ‬هناك‭ ‬شباك‭ ‬لبيع‭ ‬التذاكر‭. ‬ابتعنا‭ ‬تذاكر‭ ‬الدخول‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ثمنها‭ ‬رمزيًّا‭. ‬مشينا‭ ‬خطوات‭ ‬قليلة‭ ‬يمينًا،‭ ‬فاجتزنا‭ ‬الباب،‭ ‬وكنا‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الداخلية‭ ‬للبيت‭. ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المعروضات،‭ ‬وفِي‭ ‬عمق‭ ‬الساحة،‭ ‬باتجاه‭ ‬المطار،‭ ‬ثمة‭ ‬غرف‭ ‬متجاورة‭ ‬لها‭ ‬رواق‭ ‬خشبي‭. ‬آثرنا‭ ‬استكشاف‭ ‬فناء‭ ‬البيت‭ ‬تاليًا‭.‬‭ ‬انعطفنا‭ ‬يمينًا‭ ‬لنجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬المتحف،‭ ‬فصرنا‭ ‬إلى‭ ‬ممر‭ ‬مسقوف‭ ‬بالخشب،‭ ‬وتتدلى‭ ‬منه‭ ‬أغلفة‭ ‬رصاصات‭ ‬ومقذوفات‭ ‬حقيقية‭ ‬من‭ ‬مخلّفات‭ ‬الحرب،‭ ‬وبه‭ ‬صورة‭ ‬كبيرة‭ ‬لعائلة‭ ‬كولر،‭ ‬التي‭ ‬وقع‭ ‬الاختيار‭ ‬على‭ ‬منزلهم‭ ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬مساعد‭ ‬الفرقة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬البوسني،‭ ‬صاحب‭ ‬فكرة‭ ‬النفق،‭ ‬الجنرال‭ ‬راشد‭ ‬زولراك،‭ ‬ليكون‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬الحفر‭ ‬ومدخل‭ ‬النفق‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬المحاصرة،‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬موقع‭ ‬البيت،‭ ‬وفق‭ ‬المهندس‭ ‬المعماري‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬مخطط‭ ‬الحفر،‭ ‬برانكوفيتش‭ ‬نجاد،‭ ‬هو‭ ‬أقصر‭ ‬مسافة‭ ‬ممكنة‭ ‬لوصل‭ ‬المنطقة‭ ‬المحاصرة‭ ‬بالمنطقة‭ ‬الحرّة،‭ ‬اللتين‭ ‬يفصلهما‭ ‬مدرج‭ ‬مطار‭ ‬سراييفو‭.‬

في‭ ‬الصورة،‭ ‬تظهر‭ ‬العجوز‭ ‬شيدا‭ ‬بين‭ ‬أحفادها،‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكتفِ‭ ‬بتكريس‭ ‬بيتها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬بلادها،‭ ‬وإنما‭ ‬نذرت‭ ‬نفسها‭ ‬لخدمة‭ ‬الجنود‭ ‬بتوفير‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب‭ ‬والمعاونة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تملك‭. ‬أكملنا‭ ‬المسير‭ ‬فشدّتنا‭ ‬تلك‭ ‬المقتنيات‭ ‬واللوحات‭ ‬والصور‭ ‬والمعروضات‭ ‬التي‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حقيقي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬حقبة‭ ‬الحرب،‭ ‬ومنها‭ ‬بعض‭ ‬الدمى‭ ‬التمثيلية؛‭ ‬مثل‭ ‬امرأة‭ ‬تحمل‭ ‬رضيعًا‭ ‬وجندي‭ ‬يرتدي‭ ‬البزة‭ ‬العسكرية‭. ‬واصلنا‭ ‬فوصلنا‭ ‬إلى‭ ‬القبو‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬مدخل‭ ‬النفق‭.  

 

معولٌ‭ ‬ومجرفةٌ‭... ‬وأمل

في‭ ‬أجواء‭ ‬من‭ ‬التكتم‭ ‬والسرية،‭ ‬وباستخدام‭ ‬أدوات‭ ‬بدائية‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬المعول‭ ‬والمجرفة،‭ ‬مع‭ ‬جرعات‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الأمل،‭ ‬حُفر‭ ‬النفق‭ ‬من‭ ‬الجانبين،‭ ‬واستغرق‭ ‬العمل‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬بين‭ ‬يناير‭ ‬ويوليو‭ ‬عام‭ ‬1993،‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحصار‭ ‬الصربي‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬البوسنية،‭ ‬ليلتقي‭ ‬الطرفان‭ ‬في‭ ‬المنتصف‭ ‬في‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬يوليو،‭ ‬هي‭ ‬لحظة‭ ‬لا‭ ‬تُنسى،‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬فكّر‭ ‬ودبّر‭ ‬وعمل‭ ‬وحفر‭. ‬فكرة‭ ‬النفق‭ ‬خطرت‭ ‬للجنرال‭ ‬راشد‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬لحظات‭ ‬الزحف‭ ‬على‭ ‬مدرج‭ ‬الطائرات‭. ‬وقد‭ ‬سُمّي‭ ‬النفق‭ ‬بنفق‭ ‬‮«‬د‭. ‬ب‮»‬،‭ ‬اختصارًا‭ ‬لاسم‭ ‬المنطقتين‭ ‬اللتين‭ ‬يربط‭ ‬بينهما؛‭ ‬دوبرينيا‭ ‬وبوتمير‭. ‬

واستمر‭ ‬النفق‭ ‬شريانًا‭ ‬رئيسًا‭ ‬للمدينة‭ ‬المحاصرة‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬وحتى‭ ‬انتهاء‭ ‬الحصار‭ ‬عام‭ ‬1996‭. ‬أما‭ ‬الحفارون‭ ‬فثلّة‭ ‬من‭ ‬المتطوعين‭ ‬الذين‭ ‬يتقاسمون‭ ‬العمل‭ ‬بثلاث‭ ‬نوبات‭ ‬يومية؛‭ ‬ثماني‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬المستمر،‭ ‬يُخرجون‭ ‬الأتربة‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يواجههم‭ ‬أثناء‭ ‬عملية‭ ‬الحفر‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬مدرج‭ ‬الطائرات‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬بعربة‭ ‬يد‭ ‬بدائية‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬نفقُ‭ ‬الحياة‭ ‬الحيلةَ‭ ‬الوحيدة‭ ‬لإعادة‭ ‬ربط‭ ‬مناطق‭ ‬سراييفو‭ ‬وإنقاذها‭ ‬من‭ ‬حصار‭ ‬الجمهورية‭ ‬الصربية‭ ‬إبان‭ ‬حقبة‭ ‬الحرب‭ ‬البوسنية‭. ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تمكّن‭ ‬المدنيون‭ ‬والقوات‭ ‬البوسنية‭ ‬من‭ ‬العبور‭ ‬من‭ ‬المنطقة‭ ‬المحاصرة‭ ‬إلى‭ ‬المنطقة‭ ‬الحرة،‭ ‬مما‭ ‬فتح‭ ‬خط‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬القوات‭ ‬البوسنية‭ ‬والقوات‭ ‬الحليفة‭ ‬خارج‭ ‬الأراضي‭ ‬البوسنية،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يجري‭ ‬إيصال‭ ‬المساعدات‭ ‬الإنســـــانية‭ ‬عبر‭ ‬النفــــق،‭ ‬فضـــــلاً‭ ‬عن‭ ‬المؤن‭ ‬الـــغذائية‭ ‬والوقود‭ ‬والأسلحة‭ ‬والذخائر،‭ ‬بل‭ ‬والصحف‭ ‬اليومية‭ ‬والسجائر‭. ‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬استعادة‭ ‬تشغيل‭ ‬خطوط‭ ‬الاتصال‭ ‬والطاقة‭ ‬الكهربائية،‭ ‬وحتى‭ ‬وصول‭ ‬الإمدادات‭ ‬النفطية‭. ‬

 

المارّونَ‭ ‬في‭ ‬النفقِ

وقد‭ ‬استخدمت‭ ‬العربات،‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة،‭ ‬بداخل‭ ‬النفق‭ ‬لحمل‭ ‬بعض‭ ‬المعدات‭ ‬الثقيلة،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬ثقل‭ ‬وزنها‭ ‬ينوء‭ ‬بظهور‭ ‬الرجال‭. ‬يسمح‭ ‬النفق‭ ‬للبوسنيين‭ ‬بمغادرة‭ ‬سراييفو‭ ‬والعودة‭ ‬إليها‭ ‬بشكل‭ ‬متواصل‭ ‬ومستمر‭. ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬يعبر‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬3‭ ‬و4‭ ‬آلاف‭ ‬جندي‭ ‬بوسني،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬المدنيين‭ ‬الذين‭ ‬يسافرون‭ ‬يوميًا‭ ‬ويصل‭ ‬عددهم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬إلى‭ ‬1000‭ ‬مسافر‭.‬

وقد‭ ‬بلغ‭ ‬عدد‭ ‬المسافرين‭ ‬خلال‭ ‬النفق‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مليونين؛‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬مقصده‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬سراييفو‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬العابرين،‭ ‬جنرالات‭ ‬ومواطنون‭ ‬وسياسيون‭ ‬وغيرهم‭. ‬ولعل‭ ‬مما‭ ‬يجدر‭ ‬ذكره‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬البوسني،‭ ‬آنذاك،‭ ‬علي‭ ‬عزت‭ ‬بيجوفيتش،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬العابرين‭ ‬في‭ ‬نفق‭ ‬الأمل‭. ‬أما‭ ‬البضائع‭ ‬فيصل‭ ‬وزنها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬30‭ ‬طنًّا‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬السلع‭. ‬مدخل‭ ‬النفق‭ ‬كان‭ ‬تحت‭ ‬حماية‭ ‬الجيش‭ ‬البوسني،‭ ‬ولكي‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬العبور‭ ‬من‭ ‬استخدامه‭ ‬يتعيّن‭ ‬عليه‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬إذن‭ ‬أو‭ ‬ترخيص‭ ‬من‭ ‬الجيش‭.   

 

ودخلْنا‭ ‬نفقَ‭ ‬الحياةِ

خطونا‭ ‬خطوات‭ ‬قليلة،‭ ‬فألفينا‭ ‬مدخل‭ ‬النفق‭ ‬على‭ ‬بُعد‭ ‬درجات‭ ‬خشبية‭ ‬معدودة،‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الدرجات‭ ‬هبط‭ ‬البوسنيون‭ ‬وصعدوا‭ ‬مرارًا،‭ ‬وربما‭ ‬تدحرج‭ ‬نفر‭ ‬منهم‭. ‬متكئين‭ ‬على‭ ‬الأخشاب‭ ‬الجانبية‭ ‬دلفنا‭ ‬إلى‭ ‬الدرج،‭ ‬لنكون‭ ‬فورًا‭ ‬في‭ ‬النفق‭ ‬الضيق‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬الدنيا‭ ‬لأهل‭ ‬سراييفو‭. ‬

وفي‭ ‬الذاكرة‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬الإخبارية‭ ‬التي‭ ‬تفيض‭ ‬بها‭ ‬نشرات‭ ‬الأخبار،‭ ‬وتحكي‭ ‬قصص‭ ‬أنفاق‭ ‬غزة‭ ‬وجراحاتها‭ ‬المسترسلة،‭ ‬إذ‭ ‬أضحت‭ ‬الأنفاق‭ ‬وسيلة‭ ‬حياة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬حصار‭ ‬المحتل‭ ‬الإسرائيلي‭. ‬لطالما‭ ‬كانت‭ ‬الأنفاق‭ ‬وسيلة‭ ‬لبقاء‭ ‬الشعوب‭ ‬المحاصرة،‭ ‬وحيلة‭ ‬من‭ ‬حيل‭ ‬استمرار‭ ‬المقاومة‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬الحصار‭ ‬الذي‭ ‬تفرضه‭ ‬الجيوش‭ ‬المحتلة،‭ ‬ولعل‭ ‬أنفاق‭ ‬فيتنام‭ ‬الشهيرة‭ ‬مثال‭ ‬تاريخي‭ ‬على‭ ‬ذلك‭.‬

إن‭ ‬النفــــق‭ ‬الضيــــق،‭ ‬بحكــــم‭ ‬الفــــيزياء،‭ ‬الواسع‭ ‬بحكم‭ ‬الإرادة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الصلبة‭ ‬يبلغ‭ ‬طوله‭ ‬720‭ ‬مترًا‭. ‬

وهو‭ ‬مــــمر‭ ‬ضيــــق‭ ‬يزيد‭ ‬عرضه‭ ‬على‭ ‬المتر‭ ‬بقليل،‭ ‬بينما‭ ‬يبلغ‭ ‬ارتفاعه‭ ‬مترًا‭ ‬ونصف‭ ‬المتر‭ ‬تقريبًا‭. ‬وليست‭ ‬هذه‭ ‬الأبعاد‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬النفق،‭ ‬إذ‭ ‬يتفاوت‭ ‬الارتفـــاع‭ ‬في‭ ‬تعرجات‭ ‬مساره‭. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الأحــوال‭ ‬يحــــتاج‭ ‬الســــائر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يمــــيل‭ ‬بجســــده‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يصطدم‭ ‬رأسه‭ ‬بالسقف‭. ‬

واللافت‭ ‬هنا‭ ‬وجود‭ ‬الدعامات‭ ‬الخشبية‭ ‬والحديدية‭ ‬في‭ ‬سقف‭ ‬النفق‭ ‬وجوانبه‭. ‬في‭ ‬وسع‭ ‬الزائر‭ ‬للمتحف‭ ‬أن‭ ‬يسيـــر‭ ‬حتى‭ ‬20‭ ‬مترًا‭ ‬من‭ ‬النفق،‭ ‬فــــهذه‭ ‬هي‭ ‬المســافة‭ ‬المتبقية‭ ‬منه‭. ‬

يا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬شقاء،‭ ‬بل‭ ‬يا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬إرادة‭ ‬قهرت‭ ‬هذا‭ ‬الشقاء‭! ‬يسير‭ ‬السائر‭ ‬هنا‭ ‬متحمّلاً‭ ‬انعدام‭ ‬التهوية‭ ‬واعوجاج‭ ‬القامة،‭ ‬حاملاً‭ ‬أحمالاً‭ ‬يصل‭ ‬وزنها،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬إلى‭ ‬50‭ ‬كليوجرامًا‭. ‬غريب‭ ‬أمر‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الكـــوكـــب،‭ ‬يصـــنع‭ ‬فظائع‭ ‬لا‭ ‬تُصدق،‭ ‬لكنّه‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬يصنع‭ ‬بطولات‭ ‬لا‭ ‬تُصدق‭ ‬أيضًا‭. ‬

ومما‭ ‬شد‭ ‬انتباهنا‭ ‬تلك‭ ‬الأسلاك‭ ‬الكهربائية‭ ‬وأنابيب‭ ‬النفط‭ ‬المعلقة‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬النفق‭. ‬ولئن‭ ‬نظر‭ ‬الزائر‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬قدميه‭ ‬فسيرى‭ ‬أن‭ ‬أرضية‭ ‬النفق‭ ‬قد‭ ‬صُفّت‭ ‬فيها‭ ‬المزالق‭ ‬الحديدية‭ ‬لتكون‭ ‬مسارًا‭ ‬لعربات‭ ‬النقل‭. ‬وهي‭ ‬فكرة‭ ‬خطرت‭ ‬لأصحاب‭ ‬النفق،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تسهيل‭ ‬حمل‭ ‬الأشياء‭ ‬ثقيلة‭ ‬الوزن،‭ ‬وتخفيفًا‭ ‬على‭ ‬المارّين‭ ‬المرضى‭ ‬والعاجزين‭ ‬والجرحى‭ ‬والمصابين‭. ‬

 

في‭ ‬فناءِ‭ ‬البيتِ

ولما‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬النـــفق‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬الثانية،‭ ‬قفلنا‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭/ ‬المتحف‭. ‬ثم‭ ‬بدأنا‭ ‬بتأمل‭ ‬المقتنيات‭ ‬التي‭ ‬تتنوع‭ ‬من‭ ‬اللباس‭ ‬الرسمي‭ ‬للجيش‭ ‬البوسني‭ ‬إلى‭ ‬أكياس‭ ‬المساعدات‭ ‬الإنسانية‭ ‬وفوارغ‭ ‬الرصاص‭ ‬وبقايا‭ ‬المقذوفات،‭ ‬وكرسي‭ ‬متحرك‭ ‬لنقل‭ ‬الضعفاء‭ ‬والمرضى‭ ‬غير‭ ‬القادرين‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬لمدة‭ ‬ساعتين‭ ‬يقطعها‭ ‬السائر‭ ‬خلال‭ ‬النفق،‭ ‬وبعض‭ ‬الوثائق‭ ‬وغيـــرها‭ ‬مــن‭ ‬آثار‭ ‬الحرب‭.‬

وعندما‭ ‬خرجنا‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬الخارجية،‭ ‬وجدنا‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الأيمن‭ ‬إطارات‭ (‬براويز‭) ‬لصور‭ ‬رجال‭ ‬كثيرين‭ ‬ساهموا‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬الفكرة‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬ماثل‭ ‬ممتثل‭ ‬للإرادة‭ ‬الأبيّة‭. ‬تتجاور‭ ‬الصور‭ ‬مشكّلةً‭ ‬لوحة‭ ‬كبيرة‭ ‬عنوانها‭ ‬الأمل‭ ‬والإرادة‭. ‬

وإذا‭ ‬تقدمت‭ ‬قليلاً‭ ‬إلى‭ ‬حديقة‭ ‬البيت‭ ‬تصادفك‭ ‬حجرات‭ ‬متلاصقة‭ ‬يزيّنها‭ ‬رواق‭ ‬خشبي،‭ ‬وقبلها‭ ‬شجرة‭ ‬يتفيأ‭ ‬ظلالها‭ ‬الزوار‭. ‬بنيت‭ ‬هذه‭ ‬الحجرات‭ ‬لتكون‭ ‬بمنزلة‭ ‬مواقع‭ ‬لإقامة‭ ‬الأنشطة‭ ‬الثقافية‭ ‬الساعية‭ ‬إلى‭ ‬تخليد‭ ‬لحظات‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬البوسني‭.‬

دخلنا‭ ‬إحدى‭ ‬الحجرات‭ ‬فكان‭ ‬بها‭ ‬شاشة‭ ‬عرض‭ ‬كبيرة‭ ‬وكراسي‭ ‬مصفوفة،‭ ‬ولحُسن‭ ‬الحظ،‭ ‬جلسنا‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬الفيلم‭ ‬الوثائقي‭ ‬الذي‭ ‬يحكي‭ ‬قصة‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬الزمان‭. ‬ثمة،‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬البيت،‭ ‬شواهد‭ ‬وآثار‭. ‬هناك،‭ ‬في‭ ‬الزاوية،‭ ‬تقف‭ ‬شاحنة‭ ‬حربية‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬الحرب،‭ ‬بينما‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬بقايا‭ ‬الألغام‭ ‬وآثار‭ ‬القصف‭. ‬وقفنا‭ ‬نقلّب‭ ‬الطرف‭ ‬على‭ ‬آثار‭ ‬الحرب‭ ‬والأسلحة‭ ‬المدمرة،‭ ‬كانت‭ ‬الشمس‭ ‬دافئة،‭ ‬لكن‭ ‬أصوات‭ ‬أزيز‭ ‬محركات‭ ‬الطائرات‭ ‬الهابطة‭/ ‬الطالعة‭ ‬تترامى‭ ‬وتملأ‭ ‬المكان‭.           

 

شموخُ‭ ‬البيوتِ

حينما‭ ‬تقرع‭ ‬المصائب،‭ ‬وتشتد‭ ‬المحن،‭ ‬وتستباح‭ ‬الأوطان،‭ ‬ويُعاث‭ ‬فيها،‭ ‬وتُغزى‭ ‬الديار،‭ ‬وتُحاصر‭ ‬المدن،‭ ‬تقف‭ ‬البيوت‭ ‬شامخةً‭ ‬رغم‭ ‬الجراح‭ ‬والتهديم‭ ‬تقاوم،‭ ‬كما‭ ‬أصحابها،‭ ‬تحمل‭ ‬العزّ‭ ‬كما‭ ‬أصحابها،‭ ‬وتتحدى‭ ‬العدو‭ ‬بكل‭ ‬أنفَةٍ‭ ‬كما‭ ‬أصحابها‭. ‬في‭ ‬كل‭ ‬مدن‭ ‬العالم،‭ ‬ثمة‭ ‬بيوت‭ ‬تمثّل‭ ‬شاهدًا‭ ‬ودليلاً‭ ‬ومرويّة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬وللتاريخ،‭ ‬لكي‭ ‬يسجل‭ ‬في‭ ‬صفحاته‭ ‬بطولات‭ ‬ومآثر‭ ‬ونضالات‭ ‬الشعوب‭. ‬

بيت‭ ‬القرين‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬الكويت‭ ‬مــثال‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬دبابات‭ ‬العدو‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬شموخه،‭ ‬عندما‭ ‬أقبل‭ ‬رجال‭ ‬صادقو‭ ‬العهد‭ ‬على‭ ‬الموت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحياة‭. ‬هي‭ ‬بيوت‭ ‬أذن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬يُرفع‭ ‬ذِكرها‭ ‬وتستــــعاد‭ ‬ذكراها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬درسًا‭ ‬لا‭ ‬يني‭ ‬يتكرر،‭ ‬ليعلم‭ ‬المعتدون‭ ‬أيّ‭ ‬منقلبٍ‭ ‬ينقلبون‭.‬

وهكذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬قضينا‭ ‬فيه‭ ‬نهارًا‭ ‬فِي‭ ‬سراييفو،‭ ‬لن‭ ‬يزيغ‭ ‬بصر‭ ‬التاريخ،‭ ‬لا‭ ‬ريب،‭ ‬عن‭ ‬مثله؛‭ ‬بيت‭ ‬له‭ ‬كامل‭ ‬صفات‭ ‬تلك‭ ‬البيوت‭ ‬العظيمة‭. ‬وما‭ ‬من‭ ‬زائر‭ ‬يلج‭ ‬هذا‭ ‬البيت،‭ ‬اليوم،‭ ‬إلا‭ ‬وينتابه‭ ‬شعور‭ ‬غريب‭ ‬بأن‭ ‬الفظائع،‭ ‬ولكنّ‭ ‬البطولات‭ ‬أيضًا،‭ ‬لا‭ ‬تنقطع‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية،‭ ‬فها‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬قديم‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬بل‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬قريب،‭ ‬وقريب‭ ‬جدًا‭ ‬‭>‬

جانب‭ ‬من‭ ‬معروضات‭ ‬المتحف

نفق‭ ‬ضيق‭ ‬فتح‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬الدنيا‭ ‬لأهل‭ ‬سراييفو‭ ‬إبان‭ ‬الحصار

صور‭ ‬توثق‭ ‬لحقبة‭ ‬الحرب

لوحة‭ ‬تعرض‭ ‬صور‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬حفر‭ ‬النفق