رمزيّة الأم بين محفوظ وإدريس

رمزيّة الأم بين محفوظ وإدريس

تمثّل‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬بإشكالياتها‭ ‬المغايرة‭ ‬للسائد،‭ ‬ورمزيتها‭ ‬الفنية‭ ‬الفاعلة‭ ‬الموازية‭ ‬للواقع‭ ‬والمتقاطعة‭ ‬معه،‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الكاتبين‭ ‬العظيمين‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬ملمحًا‭ ‬مائزًا‭ ‬ومؤثرًا‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬التجربة‭ ‬الإبداعية‭ ‬الكبيرة‭ ‬لكل‭ ‬منهما،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تمثّل‭ ‬لدى‭ ‬إدريس‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬بقعة‭ ‬الضوء‭ ‬الساطعة‮»‬‭ ‬لإبداعه‭ ‬السردي،‭ ‬الذي‭ ‬تراوح‭ ‬بين‭ ‬القصة‭ ‬أولًا‭ ‬ثم‭ ‬الرواية،‭ ‬ثم‭ ‬المسرح‭.‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬تواريها‭ ‬المتوهم‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬محفوظ‭ ‬بفعل‭ ‬الآلة‭ ‬الإعلامية‭/ ‬النقدية،‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬أنكرت‭ ‬عليه‭ ‬ريادته‭ ‬وسابقيته‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬أعماله،‭ ‬فكلاهما‭ ‬قاصّ‭ ‬من‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬يضع‭ ‬كلّا‭ ‬منهما‭ ‬على‭ ‬ناصية‭ ‬من‭ ‬نواصي‭ ‬فن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬الأصعب‭ ‬والأجدر‭ ‬بتمثيل‭ ‬خلجات‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والتعبير‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬أقسى‭ ‬حالاتها‭ ‬مع‭ ‬المعاناة‭ ‬البشرية‭ ‬والإنسانية‭ ‬النفسية‭ ‬العميقة‭.‬

ثمة‭ ‬نقاط‭ ‬تـــــــماسّ‭ ‬وتـــــقاطع‭ ‬واختـــلاف‭ ‬
وتمايز‭ - ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬لعبة‭ ‬المقارنة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يعقدها‭ ‬
البعض‭ ‬‭- ‬في‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬الكاتبين،‭ ‬وثمّة‭ ‬علامات‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬إبراز‭ ‬آليات‭ ‬الكتابة‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬منهما،‭ ‬فتشغل‭ ‬الرمزية‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ - ‬ركنًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬صناعة‭ ‬الدلالة،‭ ‬للعملية‭ ‬الإبداعية‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يقدمه‭ ‬نصان‭ ‬قصصيان‭ ‬هما‭ ‬االصدىب‭ ‬لنجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬واأمهب‭ ‬لإدريس،‭ ‬فالتوجه‭ ‬في‭ ‬النصين‭ ‬يمضي‭ ‬نحو‭ ‬غاية‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬حضن‭ ‬الأم‭/ ‬الطبيعة‭/ ‬الوطن‭.‬

 

الصدى‭... ‬والصراع‭ ‬الأزلي

في‭ ‬نص‭ ‬االصدىب‭ ‬تبدو‭ ‬عودة‭ ‬الشخصية‭ ‬الغائبة‭ ‬إلى‭ ‬الأم‭/ ‬الوطن‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إشكاليات‭ ‬عدة‭ ‬تتناوب‭ ‬الحدوث‭ ‬على‭ ‬وعيها‭ ‬المختزن‭ ‬لمرارات‭ ‬من‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬وكنموذج‭ ‬للهروب‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬يفرض‭ ‬سلطته‭ ‬وحاكميته،‭ ‬ويربطه‭ ‬مع‭ ‬الأم‭/ ‬الرمز‭ ‬بهذه‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬بعثت‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬العدم‭:‬

‭ ‬ادخل‭ ‬الحجرة‭ ‬متمهلاً‭ ‬وبلا‭ ‬صوت،‭ ‬وبقلب‭ ‬يزداد‭ ‬انفعاله‭ ‬بصلابة‭ ‬معهودة،‭ ‬ثم‭ ‬أغلق‭ ‬الباب‭ ‬وراءه‭. ‬وقف‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الحجرة‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬بتمعّن‭ ‬واستطلاع‭. ‬ورغم‭ ‬غلظته‭ ‬تأثر‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭. ‬تسربت‭ ‬إلى‭ ‬أنفه‭ ‬الأفطس‭ ‬رائحة‭ ‬غريبة‭ ‬وأليفة‭ ‬معًا،‭ ‬كما‭ ‬تنبلج‭ ‬ذكرى‭ ‬ضائعة،‭ ‬فدفعته‭ ‬إلى‭ ‬أحضان‭ ‬الماضي‭... ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬صميم‭ ‬نفسه‭.. ‬وتربعت‭ ‬المرأة‭ ‬على‭ ‬كنبة‭ ‬قابضة‭ ‬بأصابعها‭ ‬على‭ ‬مسبحة‭ ‬طويلة‭ ‬لامست‭ ‬شرَّابتها‭ ‬البساط،‭ ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬ترفع‭ ‬رأسها‭ ‬إليه،‭ ‬وكأنما‭ ‬لم‭ ‬تشعر‭ ‬بوجودهب‭.‬

تفرض‭ ‬الحالة‭ ‬المشهدية‭ ‬المواجهة‭ ‬المرتقبة‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬يشي‭ ‬السرد‭ ‬بتهتّك‭ ‬وشيجة‭ ‬العلاقة‭ ‬معها‭ ‬بفعل‭ ‬تلك‭ ‬الهوة‭ ‬البعيدة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وبانسلاخها‭ ‬إلى‭ ‬عالمها‭ ‬الجديد‭ ‬المتوحد‭ ‬بالاتجاه‭ ‬إلى‭ ‬طقوس‭ ‬العبادة،‭ ‬المنفصل‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الابن‭/ ‬الشخصية‭ ‬العائدة‭ ‬بشهوة‭ ‬المعرفة،‭ ‬وتلك‭ ‬الملامح‭ ‬المتعطشة‭ ‬إلى‭ ‬الجذور‭ ‬التي‭ ‬تحتوي‭ ‬وتعرّش‭ ‬على‭ ‬البدن‭ ‬المتلهف،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬حالة‭ ‬السكون‭ ‬والجمود‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬عليها‭ ‬المرأة‭/ ‬الرمز،‭ ‬التي‭ ‬يتحول‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬اختراقها‭ ‬إلى‭ ‬مناجاة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬واحد،‭ ‬ترمز‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬انقطاع‭ ‬هذا‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬التواصل،‭ ‬والذي‭ ‬أدت‭ ‬إليه‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التداعيات‭ ‬والحوادث‭ ‬المريرة،‭ ‬فهي‭ ‬التي‭ ‬تفتح‭ ‬باب‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬الانفعالي‭ ‬الذي‭ ‬يساعد‭ ‬في‭ ‬فك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬للعلاقة‭ ‬المتوترة‭:‬

اومذ‭ ‬قدمت‭ ‬وأنا‭ ‬أتكلم‭ ‬وأنت‭ ‬تقتلين،‭ ‬سأذهب‭ ‬أقسى‭ ‬مما‭ ‬جئت،‭ ‬والساقية‭ ‬تدور‭ ‬ولا‭ ‬تحمل‭ ‬من‭ ‬باطن‭ ‬الأرض‭ ‬إلا‭ ‬العلقم،‭ ‬لم‭ ‬يجئ‭ ‬الأبناء‭ ‬خيرٌ‭ ‬منا،‭ ‬هيهات‭ ‬أن‭ ‬أعترض،‭ ‬اليوم‭ ‬يقطبون‭ ‬ويتبادلون‭ ‬نظرات‭ ‬ممتعضة،‭ ‬وغدًا‭ ‬ينطلق‭ ‬الرصاص،‭ ‬ها‭ ‬أنا‭ ‬أرى‭ ‬المستقبل‭ ‬بعين‭ ‬الماضي‭ ‬الدامية،‭ ‬واليوم‭ ‬تجمعهم‭ ‬صورة‭ ‬عائلية،‭ ‬كما‭ ‬جمعتنا‭ ‬صورة‭ ‬يومًا‭ ‬ما،‭ ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬الغد؟ب‭. ‬

 

علاقات‭ ‬مبتورة

هذا‭ ‬الذي‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬ميراث‭ ‬مُر‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬المبتورة‭ ‬والمغرقة‭ ‬في‭ ‬الدم‭ ‬والصراعات،‭ ‬وما‭ ‬يعمق‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الرمزية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬أنجبت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الرموز‭ ‬الأخرى‭ ‬الممسوسة‭ ‬بالصراع،‭ ‬والتي‭ ‬يرى‭ ‬السارد‭ ‬برؤيته‭ ‬الاستشرافية‭ ‬انحدار‭ ‬الكل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬السبيل‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬صورة‭ ‬كربونية‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬الملوث،‭ ‬والذي‭ ‬تشير‭ ‬كل‭ ‬أصابع‭ ‬الاتهام‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأم‭/ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬الحال‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬التشرذم‭ ‬والضياع،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الدلالة‭ ‬العكسية‭ ‬التي‭ ‬تسوقها‭ ‬رمزية‭ ‬الصورة‭ ‬العائلية‭ ‬التي‭ ‬تضغط‭ ‬على‭ ‬الوعي‭ ‬لتفرز‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬الثقة‭ ‬والأمان‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬الشخصية‭ ‬تعود‭ ‬لتقف‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الحقائق‭ ‬الغائبة‭ ‬حين‭ ‬تغيب‭ ‬الأم‭ ‬وتصبح‭ ‬في‭ ‬مرمى‭ ‬العدم‭ ‬بهذه‭ ‬الحالة‭ ‬من‭ ‬الصمت‭ ‬والقهر،‭ ‬لتمثّل‭ ‬بعدًا‭ ‬أكثر‭ ‬التصاقًا‭ ‬بالمعنى‭/ ‬المفهوم‭ ‬الأعلى‭ ‬للوطن‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬راح‭ ‬في‭ ‬غيبوبة‭ ‬يجسدها‭ ‬السارد‭ ‬بضميره‭ ‬الواخز‭ ‬له،‭ ‬والمخاطب‭ ‬لذاته‭ ‬المقموعة‭ ‬والنادمة،‭ ‬لتتجسد‭ ‬علاقة‭ ‬شائكة‭ ‬ربما‭ ‬أسقطها‭ ‬النص‭ ‬ــ‭ ‬بدهائه‭ ‬ــ‭ ‬على‭ ‬جيل‭ ‬كامل،‭ ‬وجب‭ ‬عليه‭ ‬تحمّل‭ ‬المسؤولية‭ ‬تجاه‭ ‬الوطن‭/ ‬الأم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تعنيه‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬احتواء،‭ ‬وبما‭ ‬يبرز‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬عكسية‭. ‬

الم‭ ‬يكن‭ ‬الموقف‭ ‬كما‭ ‬تصورت،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬أفظع‭. ‬وأنت‭ ‬شريك‭ ‬في‭ ‬الخيانة‭ ‬لا‭ ‬مفر‭. ‬جئت‭ ‬تتخفف‭ ‬من‭ ‬أثقالك‭ ‬فضاعفتها‭ ‬أضعافًا‭ ‬مضاعفة‭. ‬وها‭ ‬هي‭ ‬أنفاسها‭ ‬تتردد‭ ‬على‭ ‬يديك،‭ ‬ولكنها‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬نجم‭. ‬كالموت‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬ينضح‭ ‬بالعذاب‭. ‬وها‭ ‬هو‭ ‬الصمت‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬السرب‭. ‬

 

أمه‭... ‬وأنسنة‭ ‬الطبيعة

ثمة‭ ‬اتجاه‭ ‬مغاير،‭ ‬واختلاف‭ ‬في‭ ‬التناول‭ ‬والتوجه،‭ ‬لتحقيق‭ ‬غاية‭ ‬من‭ ‬غايات‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬نص‭ ‬اأمهب‭ ‬لإدريس،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يتجه‭ ‬إليها‭ ‬الرمز‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الشجرة‭/ ‬الطبيعة‭ ‬الأم،‭ ‬وما‭ ‬تمثله‭ ‬من‭ ‬ملجأ‭ ‬للتائه‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬وجود‭/ ‬حضن‭/ ‬احتواء،‭ ‬ضد‭ ‬واقع‭ ‬يفرض‭ ‬عليها‭ ‬سماته‭ ‬وشذوذه،‭ ‬ويقرّبه‭ ‬من‭ ‬الاندثار‭ ‬والعدم،‭ ‬وما‭ ‬يجعله‭ ‬إيجابيًّا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬ظروف‭ ‬أكثر‭ ‬إحباطًا‭ ‬وسلبية،‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬نص‭ ‬االصدىب‭ ‬على‭ ‬مستويات‭ ‬عدة،‭ ‬فالمسرود‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬تنطرح‭ ‬سماته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجسيد‭ ‬حكاية‭ ‬السارد‭ ‬له،‭ ‬بنفس‭ ‬ضمير‭ ‬الغائب‭ ‬الراصد‭:‬

امنذ‭ ‬أن‭ ‬طرده‭ ‬زوج‭ ‬أمه‭ ‬وهو‭ ‬يطفش،‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬أمه،‭ ‬وكانت‭ ‬أمه‭ ‬تحبه،‭ ‬وأبدًا‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬أباه،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬وبدأت‭ ‬أمه‭ ‬تبدو‭ ‬ضعيفة‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬لها‭ ‬أمامه،‭ ‬سكران‭ ‬يأتي‭ ‬هائجًا‭ ‬ومسطولًا‭ ‬مرة‭ ‬يأتي‭ ‬ويفرغ‭ ‬هياجه‭ ‬وسطلته‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬أمه‭ ‬المسجاة‭ ‬تتلوى،‭ ‬يأتيه‭ ‬صوت‭ ‬أنينها‭ ‬ولهاثها‭ ‬وقد‭ ‬أحاله‭ ‬وأحالها‭ ‬الزوج‭ ‬الجديد‭ ‬إلى‭ ‬سائل‭ ‬أنثوي‭ ‬ذائب‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬طيّع‭ ‬وقلب‭ ‬بالتدريج‭ ‬يلين،‭ ‬وعنه‭ ‬يتحول‭ ‬ويبتعدب‭. ‬

على‭ ‬عكس‭ ‬الأم‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬االصدىب،‭ ‬يأتي‭ ‬هنا‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الأم‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬يلتمس‭ ‬منها‭ ‬الولد‭ ‬الحنان‭ ‬والمقاومة‭ ‬من‭ ‬أجله،‭ ‬لتذيبها‭ ‬أحوالها‭ ‬الجديدة،‭ ‬فتضع‭ ‬لها‭ ‬ملامح‭ ‬مغايرة‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬مختلف‭ ‬يعانق‭ ‬ضغوط‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬ردود‭ ‬الأفعال‭ ‬المحتملة‭ ‬والمتوقع‭ ‬صدورها‭ ‬من‭ ‬الولد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬إلا‭ ‬الشارع‭ ‬كي‭ ‬يتلقفه‭ ‬ببراحة‭.‬

 

أمّ‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر

هنا‭ ‬تبدو‭ ‬صورة‭ ‬الأم‭ (‬الحقيقية‭) ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الرمزية‭ ‬التي‭ ‬يُعوّل‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬السلبي‭ ‬لها،‭ ‬لتفسح‭ ‬المجال‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النص‭ ‬القصصي‭ ‬لأم‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭ ‬ــ‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬نموذجي‭ ‬الأم‭ ‬والزوج‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬استهلكها‭ ‬ووضعها‭ ‬في‭ ‬الخانة‭ ‬السلبية‭ ‬والسليبة‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته،‭ ‬والطاردين‭ ‬لهذا‭ ‬الكيان‭ ‬الصغير‭ ‬في‭ ‬العراء‭ ‬بلا‭ ‬مأوى‭ - ‬ربما‭ ‬لكي‭ ‬تلعب‭ ‬الشجرة‭/ ‬الطبيعة‭/ ‬الأم‭ ‬البديلة‭ (‬التي‭ ‬صارت‭ ‬حقيقية‭) ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تلعبه‭ ‬الأم‭ ‬الأصلية،‭ ‬لتصير‭ ‬الشجرة‭ - ‬برغم‭ ‬قسوة‭ ‬الطبيعة‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحيان‭ - ‬رمزًا‭ ‬مجسدًا‭ ‬للإحساس‭ ‬بالأمان‭:‬

اولجأ‭ ‬إلى‭ ‬الشجرة‭ ‬يحتمي‭ ‬من‭ ‬السيول‭ ‬التي‭ ‬بللته‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬لنخاع‭ ‬عظمه،‭ ‬وعلى‭ ‬الضوء‭ ‬القليل‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬عامود‭ ‬نور‭ ‬ساطع‭ ‬الضوء،‭ ‬رأى‭ ‬الفتحة‭ ‬واقترب،‭ ‬وبعينيه‭ ‬راح‭ ‬يتفحصها‭ ‬واستغرب‭ ‬حين‭ ‬وجد‭ ‬لها‭ ‬عمقًا‭ ‬وكأنها‭ ‬كهف،‭ ‬وللكهف‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬بروزات‭ ‬وتجعيدات،‭ ‬وكأنه‭ ‬فم‭ ‬عجوز‭ ‬يحفل‭ ‬ببقايا‭ ‬أسنان‭ ‬معوجة‭... ‬دخل،‭ ‬وكأنه‭ ‬إلى‭ ‬سرداب‭ ‬سعادة‭ ‬دخل،‭ ‬فمجرد‭ ‬إحساسه‭ ‬أن‭ ‬قذائف‭ ‬الأمطار‭ ‬وسباخها‭ ‬المائية‭ ‬قد‭ ‬كفّت‭ ‬عن‭ ‬الدق‭ ‬فوق‭ ‬رأسه‭ ‬واختراق‭ ‬أسماله،‭ ‬وأنه‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬في‭ ‬مأمن،‭ ‬مجرد‭ ‬إحساسه‭ ‬بهذا،‭ ‬سعد،‭ ‬فرحة‭ ‬كبرى‭ ‬غمرته،‭ ‬وكأنه‭ ‬الصعلوك‭ ‬قد‭ ‬أهدته‭ ‬السماء‭ ‬قصرًا‭ ‬من‭ ‬عجبب‭. ‬

 

أركان‭ ‬حياة

هكذا‭ ‬تأسست‭ ‬له‭ ‬أركان‭ ‬حياة،‭ ‬تلعب‭ ‬فيه‭ ‬الطبيعة‭ ‬دور‭ ‬المنقذ،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أنسنتها‭ ‬وتحويلها‭ ‬من‭ ‬جماد‭ ‬أو‭ ‬كائن‭ ‬غير‭ ‬واع‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الكيان‭ ‬الواعي‭ ‬النابض‭ ‬بالحياة‭ ‬التي‭ ‬سلبت‭ ‬من‭ ‬الأم‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وتبادلتا‭ ‬الأدوار،‭ ‬لتكون‭ ‬النتيجة‭ ‬هذا‭ ‬الزخم‭ ‬المعنوي‭ ‬عظيم‭ ‬الشأن،‭ ‬والحائز‭ ‬على‭ ‬نبض‭ ‬الوجود‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬التجويف‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬مثّل‭ ‬حضنًا‭ ‬ورحمًا‭ ‬دافئًا،‭ ‬جاذبًا‭ ‬غير‭ ‬طارد،‭ ‬وممثلاً‭ ‬للجانب‭ ‬الأمومي‭ ‬المفتقد‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬امتلك‭ ‬مفاتيح‭ ‬التفاؤل،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬خوض‭ ‬تجارب‭ ‬الحياة،‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬دورتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬تستقر‭ ‬أموره‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنها،‭ ‬حتى‭ ‬تفاجئه‭ ‬بتحولاتها،‭ ‬لتلعب‭ ‬الشجرة‭ ‬دور‭ ‬الأم‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬بامتياز،‭ ‬بانتقال‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬ودورة‭ ‬الذبول‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الفناء،‭ ‬إليها‭:‬

اوفجأة‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬يقفز‭ ‬من‭ ‬الأتوبيس‭ ‬عند‭ ‬نهاية‭ ‬قصر‭ ‬العيني،‭ ‬ويسرع‭ ‬إليها‭ ‬ويقف‭ ‬مشدوهًا‭ ‬يرقبها‭. ‬كانت‭ ‬أوراقها‭ ‬الخضراء‭ ‬قد‭ ‬جفّت‭ ‬وأعضاؤها‭ ‬الجديدة‭ ‬والقديمة‭ ‬تخشبت‭ ‬وبابها‭ ‬النباتي‭ ‬اندثر،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬ماتت،‭ ‬وأحسّ‭ ‬بغصة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬البكاء،‭ ‬وبكى،‭ ‬أمهب‭. ‬

لتأتي‭ ‬مفارقة‭ ‬النهاية‭ ‬هنا‭ ‬لتجسيد‭ ‬حالة‭ ‬الحزن‭ ‬التي‭ ‬جمعت‭ ‬الشخصيتين،‭ ‬وكل‭ ‬منهما‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬مغاير‭ ‬للآخر،‭ ‬حيث‭ ‬أحس‭ ‬الأول‭ ‬بالندم‭ ‬على‭ ‬رحيل‭ ‬أمه‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬رمزت‭ ‬للوطن‭ ‬أو‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مجملها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬حزن‭ ‬الولد‭ ‬على‭ ‬الرمز‭ ‬في‭ ‬أمه‭ ‬المتأنسنة‭/ ‬الشجرة،‭ ‬كصورة‭ ‬للمفارقة‭ ‬الحسية‭ ‬المجسدة‭ ‬لألم‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر،‭ ‬مما‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬نجاح‭ ‬الرمز‭ ‬في‭ ‬تجسيد‭ ‬القيمة‭ .