أخلاق العرب في الشِّعر الجاهلي

أخلاق العرب  في الشِّعر الجاهلي

كان للعرب، على امتداد جغرافية المكان والزمان قبل ظهور الرسالة الإسلامية، أخلاق وعادات وقيم في منتهى الالتصاق بالروح الإنسانية التي تؤمن بانتصار القيم العليا في نهاية أيّ صراع. وكانت أخلاق العرب وقتئذ مؤتلفة ومتطابقة مع سلوكهم، على الرغم من قساوة الجغرافيا المكانية ويباب الأرض التي عاشوا عليها، والتي فرضت عليهم التقاتل والتناحر من أجل البقاء.
إن هذه الأخلاقية الفكرية والسلوكية كانت عالية الحضور وشائعة بين العرب، وكانت حديثَ مجالسهم، حتى لكأنها غذاء أعلى من الغذاء، وكانت مُكلِفة، والحفاظ على القيم العليا له ثمن باهظ بمستوى القيمة التي يُدافَع عنها، كما يقول المتنبي: «الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتّالُ».

 

هذه الأصالة التكوينية فكرًا وسلوكًا جعلت العرب مؤهلين لحمل رسالة كونية، وقد ذكر القرآن الكريم أهلية العرب لحمل هذه الرسالة العظيمة والمُكلفة، حيث جاء فيه {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، (سورة الأنعام - آية 124)، نعم إن القرآن خصَّ الرسول بهذه الآية، لكن محمدًا [ كان عربيًا، وكان صفوة العرب، وهو الذي اعترف بِقيم عربية خالدة قبل بعثته حين قال في «حلف الفضول»: لقد حضرت في دار  عبدالله بن جدعان حلفًا لهُو أَحبُّ إليّ من حُمر النّعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت»، والرسول نفسه يقول: «إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». 
ولو تأمّلنا كلمة «لأتمّم» في الحديث الشريف لأدركنا أن مكارم الأخلاق كانت موجودة قبل البعثة النبوية، وكانت رسالة النبي العربي هادفة لإتمام هذه المكارم الأخلاقية. والرسول العربي أطلق سراح بنت حاتم الطائي إكرامًا لأبيها الذي مات قبل البعثة النبوية، والرسول نفسه كان معجبًا بقول الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:

وأغضُّ طرفي إنْ بدتْ لي جارتي     
حتى يواري جارتي مأواها

وأنا أعتقد أن الصدق في الكلمة قبل البعثة النبوية كان سببًا عاليًا لقيمة الكلمة وحضورها الموازي للفعل نفسه، ولذا أنصت العرب للكلمة، وصدّقوها وبنوا على أساسها موقفًا.
لأن الكلمة كانت عندهم تعبيرًا عن حقيقتهم، وكان صدقها يجبر العربي على الاعتراف بما ليس له، وبما عليه. فقد سأل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشاعر المخضرم عمرو بن معدي كرب الزبيدي، الذي كان يلقب بفارس العرب: هل كان مَن هو أشجع منك في فرسان الجاهلية؟ فقال عمرو: والله يا أمير المؤمنين ما كذبت في الجاهلية، أفأكذب في الإسلام؟، والله ما خفت إلّا من حُرّيْها وعبدَيْها، وكان يعني بعبدَيْها عنترة بن شداد والسليك بن السلكة، ويقصد بِحُرَّيْها عامر بن الطفيل وربيعة بن زيد المكدّم.
ولنستمع لعباس بن مرداس وهو يصف قتال أعدائه في معركة معهم بقوله: 

سقيْناهمُ كأسًا سقوْنا بمثلها      
ولكنّهمْ كانوا على الموتِ أصبر

هذا الاعتراف المكلّف نتج عن صدق الكلمة ومدى تأثيرها في النفس العربية، الشاعر هنا يعترف بأن أعداء قومه كانوا أثبت من قومه في الحرب، وكان عنترة بن شداد يصف خصمه في المعركة بصفات الرجل الذي لا يستطيع أحد مُنازلته، والذي لم ينهزم يومًا بمعركة، ويصفه بأنه رجل كريم فيقول:

ومدجَّجٍ كرهَ الكماةُ نزاله    
لا ممعنٍ هربًا ولا مستسلمِ
فشككتُ بالرمح الأصم ثيابه
ليس الكريم على القنا بمحرَّم 
بطلٌ كأنّ ثيابه في سرْحةٍ
يُحذى نِعال الِسبْتِ ليس بتوأم
صحيح أن عنترة يعظّمُ نفسه بمدح خصمه، لكنه يعترف بأن خصمه بطل عنيد لم ينهزم يومًا في معركة، ولم يستسلم لأحد، وهو كريم الفعل والأصل. والكلمة التي وجّهتها أم الملك عمرو بن هند بإهانة إلى أم الشاعر التغلبي عمرو بن كلثوم جعلت الشاعر يقتل الملك دفاعًا عن أمه التي أُهينت، وهو يدري كم كان ذلك خطيرًا عليه، ومعلّقته مشهورة، وفيها يخاطب الملك المقتول بقوله منفعلًا ومحتدمًا وصادقًا في تصرفه:

أبا هندٍ فلا تعجلْ علينا 
وأنظرْنا نخبّرْكَ اليقينا
تهدّدنا وتوعدُنا رويدًا        
متى كنّا لأمّك مقتوينا
فإنّ قناتنا يا عمرو أعيتْ
على الأعداء قبلك أن تلينا

وكان العربي، ولو خليفة، يستشهد بخوالد الشعر الجاهلي في مواقفه الصعبة، فقد تضايق معاوية بن أبي سفيان في معركة صفين، وفكّر بالفرار، فعدل عن ذلك مستشهدا بقول الشاعر الجاهلي عمر بن الأطنابة:

أبتْ لي شيمتي وأبى بلائي 
وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ
وإقدامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيحِ
وقولي كلما جشأتْ وجاشتْ 
مكانَكِ تُحمَدي أو تستريحي

وتتجلّى عظمة الموقف في البيت الثالث، فقد جاشت نفسه واضطربت من شدة الهول، فراح يطلب منها الثبات في المعركة، فإمّا تُحمَدُ بثباتها أو تموت مستريحة لموقفها الصحيح. وكان العربي يعتبر أن رجولته لا تستقيم إلا بإغاثة الملهوف ونجدة العاني وإكرام نزيله، يقول طرفة بن العبد في معلّقته: 

وكرّي إذا نادى المضافُ محنّبًا
كسيد الغضا ذي السوْرة المتورّدِ 
ولستُ بحلاّلِ التلاع مخافةً  
ولكن متى يسترفد القوم أرفدِ  
إذا القوم قالوا من فتىً خلتُ أنني
عُنيتُ فلم أكسلْ ولم أتبلّدِ

وقصة الحارث بن عبّاد معروفة في حرب البسوس، حيث اعتزل الحرب بين وائل وتغلب، وأرسل ابنه بجيرًا إلى المهلهل طلبًا للصلح بين أبناء العمومة بكر وتغلب، ليقول له: «إن أبي الحارث بن عباد يقول لك: إنك قد أسرفت في القتل وأدركت ثأرك، وهذا بجير ابني، فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيَّين، وإما أطلقته وأصلحت ذات البين.
لكن المهلهل قال لبجير حين جاءه ساعيًا بالصلح بين بكر وتغلب: بؤ بشِسع نعل كليب، (يقصد أنت مقابل قطعة من حذاء كليب).
وكان الحارث بن عباد من فرسان بني وائل المعدودين، وكان من أحلم أهل زمانه وأشدهم بأسا وأقواهم بدنا، فلما قيل للحارث بن عباد أن المهلهل قد قتل بجيرًا ابنه قال: نِعْمَ القتيل بجيرٌ أصلح بدمه بين ابنَيْ وائل. فلما قيل له: إن المهلهل قد قال لابنه بجير: «بؤ بشسع نعل كليب»، ثار غضبه وقال قصيدته المعروفة:

قرِّبا مربط النعامة مني 
لقحت حربَ وائلٍ عن حِيال

ومن شدة غضبه قال: والله لا أكفُّ عن تغلب حتى تكلمني فيهم الأرض، ودارت الدوائر على تغلب، بعد أن انضمّ ابن عبّاد إلى بكر في حربها على تغلب، وفي المعركة وقع أسرى من تغلب، ومنهم المهلهل قاتل بجير في يد الحارث بن عباد، وكان الحارث قد ضعُف بصرُه، واقترب من المهلهل دون أن يعرفه، وقال له: دلّني على المهلهل، فقال له المهلهل: وما جزائي إن دللْتك عليه، فقال له العباد: أعفو عنك إذا دللتني.
فقال له المهلهل: أنا المهلهل، فعفا عنه، على الرغم من أن المهلهل قاتلُ ابنِه. إن الوفاء للكلمة إلى هذه الدرجة شيء مذهل بصدوره عن أهل الجاهلية. وما زلنا نذكر قول الشاعر الجاهلي السموءل بن عادياء، وهو يخاطب الحارث بن ظالم، الذي كان قد أسر ابن السموءل، وهو خارج حصن أبيه «الأبلق الفرد» في تيماء، والذي خاطب السموءل المحاصر: إمّا أن تعطيني دروع امرئ القيس ومتاعه، أو اقتل ابنك، فردّ عليه السموءل: «اقتلْ أسيرَكَ إني مانعٌ جاري»، وكان امرؤ القيس قد أودع أمانته عند السموءل وهو ذاهب إلى بلاد الروم، مستنجدًا بقيصر ليثأر لأبيه.
أمّا في إكرام الضيف فقد كانت لهم مواقف عظيمة رغم إملاقهم وفقرهم، فكانوا يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وكان عروة بن الورد يرى أن أفضل ساعات سعادته «منادمة الضيوف على الطعام». وما زلنا نذكر قصيدة الحطيئة المعروفة: «وطاوي ثلاث عاصب البطن مرملٍ». 
لقد جاء هذا البدوي المملق ضيفٌ، وكان هذا البدوي المملق قد أفراد عائلته في شعبٍ ولا طعام لهم، وهم كما يقول الحطيئة:

حفاةٌ عُراةٌ ما اغتذوا خبز ملةٍ 
ولا عرفوا للبُرِّ مذ خُلِقوا طعما

ومع ذلك، لا بد من قِرى الضيف الذي جاء طارقًا، والعجيب أن الكرم كان طبيعة أصيلة في أطفالهم، فالطفل يقف أمام أبيه هذا ليقول له:

وقالَ ابنه لما رآه بِحَيْرةٍ   
أيا أبتِ اذبحْني ويسِّرْ له طعما
ولا تعتذرْ بالعدم عَلّ الذي طرا 
يظنُّ لنا مالًا فيوسعنا ذمّا

أمّا الأب:

فروّى قليلًا ثم أحجم برهةً 
وإن هو لم يذبحْ فتاهُ فقد همّا

في هذا الكلام قد نجد مبالغة، لكنه تعبير أصيل عن طبع العربي في جاهليته. إن الكرم كان من أعلى الصفات عند الإنسان العربي، والسبب أن الكرم كان يعني الإيثار، فأن تعطي رغيفك لجائعٍ وأنت جائع فهذا إيثار وكرمُ أخلاق وائتلاف إنسانية الإنسان مع أخيها الآخر. وكان الكرم يغدو مكرمة عليا كلما اشتدت قساوة الطبيعة، فالخنساء في رثاء أخيها صخر تشير إلى أن كرم أخيها كان يتجلى كلما قست الطبيعة على فقير معدم في الشتاء القاسي، وعبّرت عن هذا الإيثار في الشدة بقوله في رثاء أخيها:

طويل النجاد رفيع العماد
كثير الرماد إذا ما شتا

إن رماد نار أخيها يزداد في فصل الشدة، وهذا يعني أن الكرم يسكن في المناطق العميقة من النفسية العربية، وأعتقد أن مشاهير الكرماء عند العرب لا يزالون مضرب المثل حتى اليوم. وأن يُعجَب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاتم الطائي، رغم جاهليته، فهذا اعتناق لمبدأ الكرم، واعتباره جزءًا من الإيمان. لقد كان حاتم الطائي يقول لعبده في الليلة القارسة:

أوقدْ فإنّ الليلَ ليلٌ قرُّ    
عسى يرى نارك من يمرُّ
إن جلبتْ ضيفًا فأنت حرُّ

إن قساوة الحياة الصحراوية كانت تفرض القحط، وكان الجوع يزداد كلما ازداد جفاف الغيم، وقتها يغدو الكرم مأثرةً وإيثارًا. وبعضهم كان يصل به الكرم إلى درجة تجعله يزداد واضح الفرح والتهلل كلما جئته طالبًا:

تراه إذا ما جئته متهلِّلًا     
كأنك تعطيه الذي أنت سائلُهْ

وكان حفظ الأمانة عند العربي في جاهليته عهدًا، لأن الأمانة تجعله مسؤولًا أمام مجتمعه عن صونها وحفظها، كما مرّ في ذكر السموءل، وكان العربي يأخذ حضورًا عاليًا بحفظه الأمانة، يقول لبيد بن ربيعة العامري في معلقته:

وإذا الأمانةُ قُسِّمَتْ في معشرٍ
أوفى بأوفر حظّنا قسّامُها

وكانوا يتباهون بالذود عن أحواضهم وديارهم باعتبارها وطنًا لأنه مصدر عيشهم وبقائهم. لقد استقبل الشاعر الشيباني أبطال معركة ذي قار بعد عودتهم منتصرين بقوله مخاطبًا فتيات بني شيبان وهنّ يستقبلن الأبطال العائدين:
إن كنتِ ساقيةً يومًا على كرمٍ 
فاسقي فوارس من ذهل بن شيبانا
واسقي فوارسَ حامَوا عن ديارهمُ    
واعْلي مفارقهم مسكًا وريحانا

ولعل حكم معلقة زهير بن أبي سلمى كانت جامعة لكثير من الفضائل العليا التي يعتز الإنسان العربي بامتلاكها، فهو يقول في صون الوطن، وهو يرمز له بالحوض:

ومن لم يذدْ عن حوضهِ بسلاحهِ
يُهَدَّمْ ومن لا يظلم الناس يُظلمِ
ومن هاب أسبابَ المنايا ينلنه  
وإن يرقَ أسباب السماءِ بسُلّم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفرْهُ، ومن لا يتّقِ الشتمَ يُشتمِ
ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضله
على قومه يُستغنَ عنه ويُذممِ
ومن يوفِ لا يُذْمَمْ ومن يُهدَ قلبُهُ      
إلى مطمئن البرّ لا يتجمجمِ
إنها قيم عليا أقرّتها رسالة السماء، وجعلت العربي الذي كان يحمل هذه المكارم الأخلاقية مؤهلًا لاستقبال رسالة السماء، وهذه هي الأخلاق العربية السامية التي جاءت رسالة السماء لتأمر حامل هذه الرسالة بأن يقول: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
وكانت هذه المكارم متأصلةً في الذات الفردية التي أصبحت ذاتًا جمعية تقوم على الحريّة والتمسك بها كالتمسك بمكارم الأخلاق، ولم تصبح ذات فعل اجتماعي لو لم تحملها نفس طيّبة وحرّة ومتمسكة بقيم الخير والاعتزاز بحملها. يقول عنترة بن شداد، واصفًا ذاته الفردية التي أصبحت ذاتًا جمعية بقيمها:  

أثني عليّ بما علمتِ فإنني
سمحٌ مخالطتي إذا لم أُظلَمِ 
فإذا ظُلمتُ فإنّ ظلمي باسلٌ 
مرٌّ مذاقته كطعم العلقمِ

هنا يظهر العربي واضح الطوية والسجيّة، ويظهر عاليًاٍ بسمحه وعاليًا بظلمه الباسل المرّ. إن نفوسًا تسجّل ذاتها في كلمات لا تستطيع أن تفرّق بين الفعل والكلمة، ولذا كانت الكلمة تورث قائلها احترام القوم أو ذمّهم إياه.
كان أبو سفيان زعيم الفرع الأموي من قريش، قبل دخوله في الإسلام، من ألدّ خصوم النبي العربي محمد بن عبدالله [، وقاتَلَه في معركة أُحد، وتوعَّد النبي بعد «أحُد» قائلًا له: «يا محمد يومٌ بيوم بدر، وموعدنا العام المقبل».
هذا الرجل الذي كان عدوًا للنبي شهد بالنبي شهادة تليق بصفات الرسول العربي، وتقر بعظمة محمد، من دون زيف أو خلل، وكان ذلك حين استدعاه ملك الروم، حين جاء إلى القدس بعد استرداد الصليب من الفرس، وكان قد سمع، وهو في القدس، أن نبيًا قد ظهر عند العرب. 
وطلب هرقل من أتباعه أن يأتوه بشخص يعرف محمدًا وأخلاقه، وجيء إليه بأبي سفيان العائد بتجارته وقافلته من دمشق، ودخل أبو سفيان وصحبه في رحلته على مجلس ملك الروم، وطلب من أبي سفيان بعد أن عرف أنه سيد قومه، ومن قريش بالذات، عبر مترجمه أن يصف له شخصية محمد، في الوقت الذي كان فيه أبو سفيان يريد قتال محمد.
وراح أبو سفيان يصف محمدًا بصفاته، ويقول لملك الروم: محمد هو الأمين فينا، وهو سيد قريش وأعلى ذوابتها، ولا يدانيه أحد بأخلاقه. واستمر وقتًا طويلًا يصف محامد محمد بن عبدالله. وقد أعجب ملك الروم بكلام أبي سفيان، وقال في محمد: والله ليأخذنّ ما بين قدميّ هاتين، ويعني القدس. وكان صحب أبي سفيان قد تعجّبوا من مدحه محمدًا، وقالوا له: هل صبأتَ عن دين أجدادك، أي: هل آمنت بمحمد؟ فقال أبو سفيان: لا، والله ما زلت عدوًا لمحمد، لكنني وصفته بحقيقته خوفًا من أن تسجلوا عليّ كذبة في حياتي. أخلاقية الكلمة عند العربي كانت عقيدة يؤمن بقداستها ويعتبرها موثقًا وشهادة. 
وكان في الشعر الذي نسمّيه جاهليًّا عمق فكري يرقى إلى أعلى ما وصلت إليه الحضارات في تلك العصور القصيّة البعيدة. تقرأ شعر شعراء الجاهلية فيذهلك فيه وميض فكري مستقىً من تجربة ووعي، ففي قول عنترة بن شداد:

نُبِّئْتُ عَمْرًا غيرَ شاكرِ نعمتي 
والكفرُ مَخبثةٌ لنفس المنعم

إذا أحسنت لأحدهم، وتنكّر لإحسانك، فإنّ كفره نعمتَك يترك فيك غضبًا داخليًا، ويجعلك تضمر له عكس ما أسديت إليه. وعنترة هو الذي قال أيضًا:

لا يحملُ الحقد من تعلو به الرُّتبُ    
ولا ينالُ العلا من طبعه الغضبُ

الصفات الوضيعة لا تليق بالإنسان الشهم، وذو المعالي لا يذهب الغضب بحلمه، والرُّتب العليا هي رتب أخلاقية قبل أن تكون رُتبًا سلطوية. وهذا ما كان واصلًا إلى حد اليقين في ذهن العربي الذي كان يمثّل القدوة للإنسان العربي الذي له مكان عالٍ في الوجدان الجمعي العربي. هذه الصفات المثلى للإنسان التي كان الإنسان يتعالى بها حتى في جاهليته، لقد كانت القيم العليا موجودة بغزارة في المجتمع الجاهلي. وكان الحفاظ على العرض سمة متمركزة في وجدان الإنسان الجاهلي. لقد كان السموءل شاعرًا جاهليًّا، وكان يؤمن إيمانًا عميقًا بأن نقاء الجوهر الإنساني ونظافته هما أساس إنسانيته، أما القشرة المظهرية فلا تعني عنده شيئًا، لقد كان يؤمن بالإنسان الذي يضمن نظافة عرضه وخلقه، إيمان بالعمق التكويني للقيم العليا، وسكناها النفس العربية منذ جاهليتها. يقول السموءل:

إذا المرء لم يدنسْ من اللؤم عرضهُ     
فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
وإنْ هو لم يحملْ على النفس ضيمها    
فليس إلى حُسن الثناء سبيلُ

هذا الشعر يتعامل مع العمق الإنساني خارج زيف المظهر المعبّر عن خواء الجوهر. وكان يعتبر أن إرث الخير يتحدر سلاليًّا في إنسان العشيرة آنذاك، لأن العشيرة كانت تعني الفرد كما كانت تعني الجمع:

إذا سيدٌ منا خلا قام سيدٌ 
خؤولٌ لما قال الكرامُ فعول

آمن الإنسان العربي في مرحلة ما قبل الإسلام أن الإنسان لا ينجو من الحتوف إذا تجنّب الاقتحام والذود عن الكرامة والشهامة والعرض، وآمن أن الموت له وقته الغيبي، فإذا آنَ أوان الموت فلا يمكن أن تصدّه وقاية البشر، وإذا نصحت عبلة عنتر بتجنّب موارد الحتوف وخوض المعارك، فقد كان يرد عليها بلغة الواثق:
بكرتْ تخوّفني الحتوف كأنني
أصبحتُ عن عرض الحتوف بمعزلِ
فأجبتها إن المنيّة منهلٌ        
لا بد أن أُسقَى بكأس المنهلِ
فاقني حياءك لا أبًا لك واعلمي 
أني امرؤ سأموت إنْ لم أُقتَلِ

وكان طرفة يشبّه الموت بالحبل المرخى، لكنّه ممسوك من طرفيه، ويعبّر عن فكرة الموت في صورة بدوية جميلة يوحي بها البيت التالي:

لعمرُكَ إنّ الموت ما أخطأ الفتى 
لَكَالطِوَلِ المرخى وثنياهُ باليد

وكان طرفة يرى أن الموت يساوي بين البشر، فليس في الموت غني وفقير أو كريم وبخيل أو قويّ أو ضعيف، إن قبر الفقير من تراب كقبر الغني نفسه:

أرى قبرَ نحّامٍ بخيلٍ بمالهِ 
كقبر غَوِيٍّ في البطالةِ مفسدِ
ترى جثوتين من ترابٍ عليهما 
صفائحُ صمٌّ من صفيحٍ مُنَضَّدِ

كان الفكر العربي عميقًا إلى حد قدرته على استيعاب رسالة السماء واستقبالها، وكانت أخلاق العرب في الشعر الجاهلي تتسم بالقيم العليا التي جاء الإسلام معبّرًا عنها بحديث الرسول: «إنما بُعثتُ لأتممَ مكارم الأخلاق».
وكان العربي في مرحلة ما قبل الإسلام يمتلك عزة نفس عميقة وداخلة في عناصر تكوينه، لقد تعلّم الصلابة من الصحراء وتعلّم الكرم من بخل الطبيعة، وتعلّم من عزة نفسه عدم الاستجداء وعدم الخضوع لأصحاب الثروة، يقول الشاعر الصعلوك، الشّنفرى، مبينًا عزة نفسه وهو يصارع الجوع ويماطله:
أديمُ مطالَ الجوعِ حتى أُميته  
وأضرِبُ عنه الذكرَ صفحًا فأذهلُ
وأستفُّ تُربَ الأرض كي لا يرى له   
عليّ من الطَوْلِ امرؤٌ متطوِّلُ ■