مَدْحُ الْفَتَى وَذَمُّهُ فِي السِّيَاقِ الشِّعْرِيِّ نَمَاذِجُ مِنْ مُعْجَمِ لِسَانِ الْعَرَبِ

مَدْحُ الْفَتَى وَذَمُّهُ فِي السِّيَاقِ الشِّعْرِيِّ نَمَاذِجُ مِنْ مُعْجَمِ لِسَانِ الْعَرَبِ

يُعد لفظ «الفتى» من الألفاظ الشائعة التناول في اللسان العربي ولا سيّما الشعري منه. وهناك صفات ذهنية إيجابية كثيرة اشتهر بها لفظ الفتى، وهي مُتَخيَّلَة، وتختلف من ذهنٍ إلى غيره. ومن بين هذه الصفات: القوة، والشجاعة، والإقدام، والشباب، والجمال، والغنى، والكرم، والعشق، والعلم، والسعادة، والصواب.
وفي كلٍّ فقد امتدح الشاعر العربي القديم الفتى، وذَمَّه حين قلب الصورة الذهنية له لدى المتلقي؛ ليراه فقيرًا من ظنَّه غنيًّا، وضعيفًا من ظنَّه قويًّا، وكبيرًا هرمًا من ظنَّه شابًا، وحقيرًا من ظنَّه عظيمًا، ومخطئًا من ظنَّه صائبًا. 

 

وُصِفَ الفتى بالتواضع وقد تَصوَّر الذهنُ اختياله، وصُوِّر بالجاهل وقد خاله الذهنُ عالمًا، وقد جعل الشاعرُ الهمَّ من متلازمات الفتى، وقد رأى أنَّ الموت يلقاه قبل أن يهرم، ورأى أنَّ الدهر قد يغلب الفتى، وقد يغلب الفتى الدهر. ومن الشعراء مَن امتدح فقر الفتى، ومنهم مَن امتدح غناه، ومنهم من ذمَّ سعيه، ومنهم من أشاد به، ومنهم من لم يره إِلاَّ مجازفًا مخالفًا، ومنهم من رآه خائفًا. 
وكان للسياق دور واضح في قلب المفهوم، وتغيير الصورة الذهنية للفظ الفتى، وهو لا ينفي المعنى المعجمي للفتى الذي ورد في المعاجم العربية. 
وسوف نُدلل على ما سبق من خلال استشهادات معجم لسان العرب لابن منظور (ت 711 هـ) في مواطن متفرقة مما ورد فيها لفظ الفتى.
وكان يمكن لهذه الدراسة أن تستمد شواهدها من الدواوين المفردة للشعراء، أو من خلال الموسوعات الشعرية الكبرى، إلَّا أنَّ المقصد من وراء وقوفها على معجم لسان العرب، هو الإسهام في الدعوة إلى التوسع بالتناول المعجمي بصفة عامة، و«لسان العرب» بصفة خاصة؛ ذلك لتعدد وظائفه، وتنوّع مجالات البحث فيه، كذلك فإن المادة الشعرية الموجودة فيه تغني كثيرًا من الدراسات على اختلاف اتجاهاتها البحثية، ولعل هذا يكون مدعاة للاستمرار والتواصل في التنقيب عن الخبايا والأسرار المعجمية.
 ولمعجم لسان العرب ميزات انفرد بها عن غيره من المعاجم، ولا سيما تعدد مصادر مادته التي استمدها من «المحكم» لابن سيده، و«التهذيب» للأزهري، و«الصّحاح» للجوهري، و«حواشي ابن بري»، و«النهاية» لابن الأثير. 
وقبل أن نتطرق إلى شواهدنا على اختلاف دلالة لفظ الفتى في السياق الشعري، نُورِدُ المعنى المعجمي الذي اهتدى إليه اللغويون القدامى لهذا اللفظ، وقد انحصرت دلالته في معانٍ عدة هي «الشاب، والكامل الجزل من الرجال، والغلام، والشباب من كل شيء، والعبد المملوك، وطريّ السّن، والسخيّ الكريم»، غير أن الشاعر العربي القديم قد حرَّك لفظ الفتى، ومنحه مرونةً عصفت بذهن المتلقي، وهذه هي طبيعة اللغة التي يُقلقها الثبات، لكنَّها تتجلى، وتزداد تيهًا ودلالًا كلما اشتبكت مفرداتها، وتعددت دلالاتها بتعدُّد سياقاتها، على سبيل المثال: 

الفتى في سياق الشرط 
أوقف الشاعر مدح الفتى وذمّه على شرط؛ متى ما تحقق هذا الشرط حُقَّ مدح الفتى أو ذمه. وشواهدنا على الحالين من لسان العرب كثيرة، منها قَول الكَروّس بْن حِصْنٍ:
وقائلةٍ: نِعْمَ الفَتى أَنت مِنْ فَتىً؛      
إِذا المُرْضِعُ العَرْجاءُ جالَ بَريمُها
والبَريمُ: حَبْل فِيهِ لَوْنان، مُزَيَّن بجَوْهر تشدُّه المرأَة عَلَى وَسَطها وعَضُدِها.
وَقال عُبَيْدٌ القُشَيْرِيّ يذمُّ الفتى إذا تقاصرت همته:
رأَيتُ عُمَيرًا والِبًا فِي دِيارِهِمْ
وَبِئْسَ الفَتى، إِن نابَ دَهْرٌ بِمُعْظَمِ
ويمتدحه تميم بن مقبل حين يكون الفتى صلدًا قويًّا تمر به الأحداث فلا تؤثّر فيه:
مَا أَنْعَمَ العَيْش! لَوْ أَنَّ الفَتَى حَجَرٌ،        
تَنْبُو الحَوادِثُ عَنْهُ، وَهْوَ مَلْمُومُ
على النقيض يراه الشاعر: 
أَنتَ الفَتى، مَا دامَ فِي الزَّهَرِ النَّدَى،     
وأنتَ، إِذا اشْتَدَّ الزمانُ، لَكُوعُ
ويدخل تحته قول لبيد:
قَضَيْتُ لُباناتٍ، وسَلَّيْتُ حَاجَةً،
ونَفْسُ الفَتَى رَهْنٌ بِقَمْرةِ مُؤْرِبِ
الفتى في سياق الغنى والفقر
لم مدح الشعراء غنى الفتى مطلقًا كما لم يذمّوا فقره مطلقًا، بل جعل الشعراء من فقره مفخرةً، ومن سعيه شرفًا، ومنهم من جعل فقر الفتى بابًا لتأخره:
وقد مدح الشاعر الفتى وجعله ملازمًا للسمو لولا فقره، كما في قول حميد بن أبي شِحاذٍ الضَّبِّي، وقِيلَ هُوَ لخالدِ بْنِ عَلْقَمةَ الدَّارمي:
فَقَدْ يَقْصُرُ القُلُّ الفَتى دونَ هَمِّه،      
وَقَدْ كانَ، لَوْلا القُلُّ، طَلَّاعَ أَنجُدِ
يَقُولُ: قَدْ يَقْصُرُ الفَقْرُ عَنْ سَجِيَّتِه مِنَ السَّخَاءِ فَلَا يَجِدُ مَا يَسْخُو بِهِ، وَلَوْلَا فَقْرُهُ لسَما وَارْتَفَعَ.
وقد ذُمَّ مال الفتى في قول الشاعر:
لَعَمْرُكَ! مَا مالُ الفَتَى بِذَخِيرَةٍ،
ولكنَّ إِخْوانَ الصَّفَاءِ الذَّخائِرُ
ومن صور مديح الفتى ما أَنشد ثَعْلَبٌ:
ويُعْطِي الفَتَى فِي العَقْلِ أَشْطارَ مالِه،    
وَفِي الحَرْب يَرْتاسُ السِّنانَ فَيَقْتُل
وارْتَأَسَ الشيءَ: رَكب رأْسه.
ومن مديح سعي الفتى:
وَبَيْضَاءُ مِنْ مالِ الْفَتَى إِن أَراحَها     
أَفادَ؛ وإِلا مَالَهُ مَالُ مُقْتِر
وإِذا قَالُوا: فُلَانٌ أَبْيَض الْوَجْهِ وَفُلَانَةٌ بَيْضاءُ الْوَجْهِ أَرادوا نقاءَ اللَّوْنِ مِنَ الكَلَفِ والسوادِ الشَّائِنِ. 
وقال الشاعر وقد سلب الفتى القوة، لكن لم يسلبه التفوق: 
  وقَد يَجْمَعُ المالَ الفَتى، وَهُوَ شاحِبٌ،    
وَقَدْ يُدْرِكُ المَوْتُ السَّمِينَ البَلَنْدَحا
ومن صور مدح الفتى وهو فقير قَول ابْن هَرْمَةَ:
عَجِبَتْ أُثَيْلةُ أَنْ رأَتْني مُخْلِقًا؛
ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ! أَيُّ ذَاكَ يَرُوعُ؟
قَدْ يُدْرِكُ الشَّرَفَ الفَتى، ورِداؤه
خَلَقٌ، وجَيْبُ قَميصِه مَرْقُوعُ
وَيُقَالُ: أَخْلَقَ الرَّجُلُ إِذا صَارَ ذَا أَخْلاق.
ومن صور مدح الفتى أنَّ المال لا يغني عنه، قَوْلُ حَاتِمٍ:
أَماوِيَّ، مَا يُغْني الثَّراءُ عَنِ الفَتَى،      
إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا، وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ؟
يَعْنِي النفْسَ.
وقَالَ لَبِيدٌ يمدح المعروف لدى الفتى:
وإِذا جُوزِيتَ قَرْضًا فاجْزِه، 
إِنما يَجْزِي الفَتَى ليْسَ الجَمَلْ
 مَعْنَاهُ إِذا أُسْدِيَ إِليكَ مَعْروفٌ فكافِئْ عَلَيْهِ.

تحولات الفتى
لقد فرض اختلاف السياق الذي شهده لفظ الفتى كثيرًا من التحولات التي شاركت في تكوين الصفات الانطباعية عن مفهوم الفتى، على سبيل المثال:  
ــ تحوّل حال الفتى من الفقر إلى الغنى، كما أَنشد أَبو زَيْدٍ فِي نَوَادِرِهِ للبُعَيْث فِي الشَّمَل:
وَقَدْ يَنْعَشُ اللهُ الفَتى بعدَ عَثْرةٍ،      
وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيتَ مِنَ الشَّمَلْ
وَجَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهم أَي مَا تَشَتَّتَ مِنْ أَمرهم. وفَرَّق اللهُ شَمْلَه أَي مَا اجْتَمَعَ مِنْ أَمره.
ومنه أيضًا قول الشاعر:
إنَّ الفَتى يُقْتِرُ بعدَ الغِنى،
ويَغْتَني مِنْ بَعْدِ مَا يَفْتَقِرْ
والحَيُّ كالمَيْتِ ويَبْقى التُّقى 
والعَيْشُ فَنَّانِ: فحُلْوٌ، ومُرْ
ــ وَمن صور مدح الفتى ضمنًا تصوير حال تحوّله بفعل العشق، قَالَ الرَّاعِي:
لهنَّ حديثٌ فاتِنٌ يَتْرُك الفَتى      
خفيفَ الْحَشَا، مُسْتَهْلِكَ الرِّبْح، طامِعا
ويرى الشاعر الفتى (مرحلة) تتمثل في الشباب، ثمَّ لا يلبث أن تدركه مرحلة أخرى يتحول على إثرها شائبًا: 
فَقُلْتُ لَها: لَا تُنْكِرِيني فَقَلَّما
يَسُودُ الفَتَى حَتَّى يشِيبَ ويَصْلَعا
أَنشد أَبوعُبَيْدٍ لِلرَّبِيعِ بْنِ ضَبْعٍ الْفَزَارِيِّ:
إِذَا عاشَ الفَتَى مائتَينِ عَامًا 
فَقَدْ ذهَبَ اللَّذاذةُ والفَتَاء 

الفتى كغيره تجري عليه الحوادث
ومن الشعراء من رأى الفتى كأيّ إنسان ينهزم أمام القوى:
إِني إِذا ضَنَنٌ يَمْشي إِلى ضَنَنٍ،   
أَيْقَنْتُ أَنَّ الفَتى مُودٍ بِهِ الموتُ
وَرَجُلٌ ضَنَنٌ: شُجَاعٌ.
ومن صور انهزام الفتى قول زيادٍ المِلْقَطيّ:
يَا مَنْ لِقَلْبٍ قَدْ عَصاني أَنْهَمُهْ
أُفْهِمُه، لَوْ كَانَ عَنِّي يَفْهَمُهْ
مِنْ ذِكْرِ لَيْلَى دَلَّهم تَهَكُّمُهْ،
والدَّهْرُ يَغْتالُ الفَتى ويَعْجُمُهْ
وَحَكَى ابْنُ بَرِّيٍّ عَنِ أَبي عَمْرٍو: التَهَكُّم حديثُ الرجلِ فِي نفسِه.
وقَالَ طَرَفَةُ:
لَعَمْرُكَ إِنَّ الموتَ، مَا أَخْطَأَ الفَتَى،   
لَكَالطِّوَلِ المُرْخَى، وثِنْياهُ باليَدِ

واسْتَطَالَ الشَّقُّ فِي الْحَائِطِ: امتدَّ وَارْتَفَعَ؛ حَكَاهُ ثَعْلَبٌ، وَهُوَ كاسْتَطار. والطِّوَلُ: الحَبْلُ الطويلُ جِدًّا.
 وقَالَ طَرَفَةُ:
عَلَى مَوْطِنٍ يَخْشَى الفَتَى عِنْدَهُ الرَّدَى،    
مَتَى تَعْتَرِكْ فِيهِ الفَرائصُ تُرْعَدِ
والمَوْطِنُ: المَشْهَدُ مِنْ مَشَاهد الْحَرْبِ.
ومنه أيضًا قول الشاعر:
فَلَا تَأْمُري، يَا أُمَّ أَسماءَ، بِالَّتِي     
تُجِرُّ الفَتى ذَا الطَّعْمِ أَن يتَكَلَّما
أَي تُخْرِسُ، وأَصله مِنَ الإِجْرارِ، وَهُوَ أَن يُجْعَلَ فِي فَمِ الفَصيل خشَبةٌ
وَرَجُلٌ ذُو طَعْمٍ أَي ذُو عَقْلٍ وحَزْمٍ.
 قال الشاعر:
إِذا لَمْ تَكُ الحاجاتُ مِنْ همَّة الفَتى،    
فَلَيْسَ بمُغْنٍ عنكَ عَقْدُ الرَّتائِمِ

 الفتى في السياق المعرفي
قد يشار بالفتى إلى شخص بعينه، مثلما أشارت أخت تأبّطَ شرًّا إليه في رثائها له، ولعل ذكر «الفتى» هنا يستدعي كل الصفات الذهنية الإيجابية:
نِعْمَ الْفَتَى غادَرْتُمُ بِرَخْمانْ،
بثابِتِ بْنِ جابِرِ بْنِ سُفْيانْ،
مَنْ يَقْتل القِرْنَ ويَرْوي النَّدْمَانْ
(رَخْمانُ: اسْمُ غارٍ بِبِلَادِ هُذَيلٍ فِيهِ رُمِي تأبَّطَ شَرًّا بَعْدَ قَتْلِهِ).
 وَقَالَ آخَرُ:
وعَسْعَسٌ، نِعْمَ الفَتى، تَبَيَّاهْ    
مِنَّا يَزيدٌ وأَبو مُحَيَّاهْ
قَالَ ابْنُ الأَثير: أَبو مُحَيَّاةٍ كُنْيَةُ رَجُلٍ، وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ يَعْلَى. وَقِيلَ: بَيَّاك جاءَ بكَ. وَهُوَ هَيُّ بنُ بَيٍّ وهَيّانُ بنُ بَيَّانَ أَي لَا يُعْرَفُ أَصله وَلَا فَصْلُهُ.
ومن صور الفتى الممدوح علمًا قول الشاعر:
وَإِذَا قِيلَ: مَنْ هِجانُ قُرَيْشٍ؟  
 كنتَ أَنتَ الفَتى، وأَنتَ الهِجانُ
وأَصلُ الهِجانِ البِيضُ، وكلُّ هِجان أَبيضُ. والهِجانُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الخالصُ.
وجاء في ديوان عبيدالله بن قيس الرقيّات يمدح عبدالله بن الزبير:
وَإِذَا قِيلَ: مَنْ هِجانُ قُرَيْشٍ؟    
كنتَ أَنتَ الفَتى، وأَنتَ الهِجانا
وجاء الفتى في سياق الضعف والتهكم كما في قَول أَبي جُنْدُبٍ الْهُذَلِيّ:
أَيْنَ الفَتى أُسامةُ بْنُ لُعْطِ؟
هلَّا تَقُومُ أَنتَ أَو ذُو الإِبْطِ؟
لَوْ أَنَّه ذُو عِزّةٍ ومَقْطِ،
لمنَعَ الجِيرانَ بعْضَ الهَمْطِ
قِيلَ: المَقْطُ الضرْب، يُقَالُ: مقَطه بالسَّوطِ. قِيلَ: وَالْمَقْطُ الشِّدّة.
 ووضع ربيعة الرقي الفتى طرفي نقيض حين قارن بين فتى أزد وفتى قيس:
فَهَمُّ الفَتى الأَزْدِيّ إِتْلافُ مالِه،    
وهَمُّ الفَتى القَيْسِيِّ جمعُ الدَّراهِمِ
فَلَا يَحْسَبُ التَّمْتامُ أَني هَجَوْتُه،   
ولكَنَّني فَضَّلْتُ أَهلَ المكارِمِ
قال الأَصْمَعي: لَا أَقول شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي بَيْتِ رَبِيعَةَ الرَّقِّيِّ: إِنه يَمْدَحُ يزيدَ بنَ حاتِم بْنِ قَبِيصة بْنِ المُهَلَّبِ، ويهجُو يزيدَ بنَ أُسَيْدٍ السُّلَمِيّ.

الفتى من سياق الإقدام والمجازفة إلى «الهوى»
رأى الشاعر أنه ليس على الفتى سوى الإقدام، ولا تنتظر في حقه الهزيمة، ومِثْلُهُ مَا أَنشده عَبْدُالرَّحْمَنِ عَنْ عَمِّهِ الأَصمعي:
غلامُ وَغىً تَقَحّمها فأَبْلى،
فَخَانَ بلاءَه الدهرُ الخَؤُونُ
فَإِنَّ عَلَى الفَتى الإِقْدامَ فِيهَا
وَلَيْسَ عَلَيْهِ مَا جَنَتِ المَنُونُ
 وقَالَ الشَّاعِرُ وهو لا يرى الفتى إلا مجازفًا مخالفًا، ويعد هذه المجازفة دليلًا على رجوليته:
إِذا الفَتَى لَمْ يَرْكَب الأَهْوالا،
وخالَفَ الأَعْمام والأَخْوالا
فأَعْطِهِ الْمِرْآةَ والمِكْحَالا،
واسْعَ لَهُ وعُدَّه عِيَالا
 وقد اختصر شاعر آخر هدف الفتى في الحياة وجعل سعيه لإرضاء شهواته فقط:
أَلم تَرَ أَنَّ الدهْرَ يومٌ وَلَيْلَةٌ،    
وأَنَّ الفتَى يَسْعَىْ لِغارَيْهِ دَائِبَا؟
وفي معنى الغارين قال ابْنُ سِيدَهْ: الغارانِ العَظْمان اللَّذَانِ فِيهِمَا الْعَيْنَانِ، والغارانِ فمُ الإِنسان وفرجُه، وَقِيلَ: هُمَا الْبَطْنُ وَالْفَرْجُ؛ وَمِنْهُ قِيلَ: الْمَرْءُ يَسْعَى لِغارَيْه.

 الفتى في سياق الرضا والسخط
وعلى الرغم مما تقدم، وما سيأتي من مدح الفتى في اللسان العربي، وفي السياق الشعري خاصة، فإنه ليس ثمّة إجماع على مدحه. وهو واضح في كثير من شواهد الشعر العربي في لسان العرب:
 ولعل ما أَنشد ثَعْلَبٌ يتفق مع ما نبحث عنه من اختلاف دلالة الفتى مع اختلاف السياق:
وَقَدْ تَزْدَري العينُ الفَتى، وَهُوَ عاقِلٌ،     
ويُؤفَنُ بَعْضُ القومِ، وَهُوَ جَريمُ
قَالَ ثَعْلَبٌ: الجِرْمُ البَدَنُ. وَرَجُلٌ جَريمٌ: عَظِيمُ الجِرْم.
وقَالَ الشَّاعِرُ يمدح شجاعة الفتى:
إِنّ الشَّجاعَةَ، فِي الفَتى،  
والجُودَ مِنْ كَرَمِ الغَرائزْ
والغَرِيزَةُ: الطبيعةُ والقريحةُ والسَّجِيَّة مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ؛ وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هِيَ الأَصل وَالطَّبِيعَةُ.
ومن الشعراء من مدح في الفتى تواضعه، وأزاح عن ذهن المتلقّي اختياله، بترك لبسه للحِلال ومثله ما أَنشد ابْنُ الأَعرابي:
لَيْسَ الفَتى بالمُسْمِن المُخْتال،   
وَلَا الَّذِي يَرْفُل في الحِلال
ولا يُقَالُ لَهَا حُلَّة حَتَّى تَكُونَ مِنْ ثَوْبَيْنِ، وَالْجَمْعُ حُلَل وحِلال.
 قَالَ قَعْنَب بْنُ أُم صَاحِبٍ يذم لائمات الفتى:
اللَّائماتُ الفَتى فِي عُمْرهِ سَفَهًا،      
وهُنَّ بَعدُ ضَعيفاتُ القُوَى وُهُنُ
 وقال طَرَفَة يَمْدَحُ رَجُلًا:
كامِلٌ يَجْمَعُ آلاءَ الفَتَى،    
نَبَهٌ سَيِّدُ ساداتٍ خِضَمّ
ومن وصف الفتى بالبقاء والملك، قول زُهَيْر بْن جَنابٍ الكَلْبي:
ولَكُلُّ مَا نَال الْفَتَى     
قَدْ نِلْتُه إِلَّا التَّحِيَّهْ
والتَّحِيَّة: البقاءُ. والتَّحِيَّة: المُلْك.
وقال الشاعر وكأنَّه يُنبه على كل الصفات الذهنية المحمودة للفتى:
فذاكَ الفَتى، كلُّ الفَتى، كانَ بَيْنه
وبينَ المُزَجَّى نَفْنَفٌ مُتَباعِدُ
والمُزَجَّى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الَّذِي لَيْسَ بِتامِّ الشَّرف وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الخِلال الْمَحْمُودَةِ.
 بينما مدح الشاعر شباب الفتى الغضّ اللين:
فَبَيْنا الفَتى لِلْعَيْنِ ناضِرًا،         
كعُسْلُوجَةٍ يَهْتَزُّ مِنْهَا شَكِيرُها
(العسلج والعسلوج هو ما لانَ واخضرَّ من قضبان الشّجر.
- والشكير هو ما نبت في أصوله).
وقَالَ آخر:
رَأَيْتُ الفَتَى يَهْتَزُّ كالغُصْنِ ناعِمًا،     
تَرَاهُ عَمِيًّا ثُمَّ يُصْبِحُ قَدْ ذَوَى
ابْنُ بَرِّيٍّ: الذَّاوِي الَّذِي فِيهِ بَعضُ رُطُوبَةٍ.
ويمدح الشاعر ضجيع الفتى في وقته:
نِعْمَ ضَجِيعُ الْفَتَى، إِذَا بَرَدَ الـْ      
ليلُ سُحَيْرًا، فقَفْقَفَ الصُّرَدُ
والقَفْقَفَة: الرِّعدة مِنْ حُمَّى أَو غَضَبٍ أَو نَحْوِهِ، وَقِيلَ: هِيَ الرِّعْدة مَغْمُومًا، وَقَدْ تَقَفْقَفَ وقَفْقَفَ.
 ومن صور مدح الفتى وذم إهانته، ما قَالَ قَيْسُ بْنُ الخَطِيم:
وَمَا بَعْضُ الإِقامةِ فِي دِيارٍ،
يُهانُ بِهَا الْفَتَى، إِلا بلاءُ
فَقُلْ للمُتَّقِي غَرَضَ المَنايا:
تَوَقَّ، فَلَيْسَ يَنْفَعُك اتِّقاءُ
الفتى في سياق الهَمّ والمعاناة والإهانة والقيد
 - حيث رآه أحد الشعراء وقد لازمه الهَمّ:
فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الهَمِّ ضاجَعَه الفَتى    
وَلَا كَسَوادِ اللَّيْلِ أَخْفَقَ صَاحِبُهْ
وضاجَعَه الهَمُّ عَلَى الْمَثَلِ: يَعْنون بِذَلِكَ مُلازمَته إِياه.
 وقَالَ مَعْرُوفُ بْنُ ظَالِمٍ، وقد رأى الفتى يعاني الدهر الليل والنهار:
أَلم تَرَ أَنَّ الدَّهْرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ،    
وأَنَّ الْفَتَى يُمْسِي بحَبْلَيْه عانِيا؟
(الحَبْلانِ: الليلُ وَالنَّهَارُ)
وقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ العِبَادي:
أَعاذِل، قد لاقَيْتُ ما يَزِعُ الفَتَى،    
وَطَابَقْتُ فِي الحِجْلَينْ مَشْيِ المقيَّد
(حِجْلا الْقَيْدِ: حَلْقَتاه).

الفتى في سياق الموت
أنشد أحد الشعراء:
ومَوْتُ الفَتى، لَمْ يُعْطَ يَوْمًا خَسِيفَةً      
أَعَفُّ وأَغْنَى فِي الأَنامِ وأَكْرَمُ
(يُقَالُ: رَضِيَ فُلَانٌ بالخَسْفِ أَي بالنَّقِيصة؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَيُقَالُ الخَسِيفَةُ أَيضًا).
 قال زُهير بن جناب الكلبي، وهو أحد المعمرين:
أَبَنـــــــــــــِيَّ إِنْ أَهْــــــــــلــِكْ فــــــــــإِنِّــــــــ
ــــــي قَدْ بَنَيْتُ لَكُمْ بَنِيَّهْ
وجَعَـــــلْتُــــكُم أَوْلادَ ســــا
دات، زِنــادُكُــمُ وَرِيّــه
مِنْ كُلِّ مَا نالَ الفَتَى
قَدْ نِلْتُه، إِلا التَّحِيّه
فالمَوْتُ خَيْرٌ للفَتَى،
فَليَهْلِكَنْ وَبِهِ بَقِيّه،
مِن أَن يَرَى الشَّيخ البَجَا
لَ يُقادُ، يُهْدَى بالعَشِيّه
 وقَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
لتَجْرِ المَنِيَّةُ بعد الفتى الـ    
ـمُغادَر بالمَحْو أَذْلالَها
أَذلالها أَي مَجاريها وَطُرُقُهَا، وَاحِدُهَا ذِلٌّ، أي لتَجْرِ على أذلالها فلست آسى على شيء بعده.
الفتى في سياق الصواب والخطأ
وقد رأى ضابِئٌ البُرْجُمِيُّ أن عاجلات الطير لا تدني من الفتى نجاحًا، ومع ذلك فالفتى يخطئ ويصيب، كما في قوله:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُه،
فإِني، وقَيَّارًا بِهَا، لغَرِيبُ
وَمَا عاجلاتُ الطَّيْرِ تُدْني مِنَ الفَتى
نَجاحًا، وَلَا عَنْ رَيْثِهِنَّ نَحِيبُ
ورُبَّ أُمورٍ لَا تَضِيرُك ضَيْرَةً،
وللْقلب مِنْ مَخْشاتهنَّ وَجِيبُ
وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُوَطِّنُ نَفْسَهُ
عَلَى نائباتِ الدَّهْرِ، حينَ تَنُوبُ
وَفِي الشَّكِّ تَفْريطٌ وَفِي الحزْمِ قُوَّةٌ
ويُخْطِئُ فِي الحَدْسِ الفَتى ويُصِيبُ
وَمِثْلُهُ لمُزاحِمٍ العُقَيْلِي:
وَقَدْ يَفْرُطُ الجَهْل الفَتى ثُمَّ يَرْعَوِي،        
خِلافَ الصِّبا، للجاهلينَ حُلوم
وأَنشده أَبو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجي عَنْ أَبي الْحَسَنِ الأَخفش عَنْ ثَعْلَبٍ لنُويْفِع بْنِ نُفيع الْفَقْعَسِيِّ يَصِفُ الشَّيْبَ وكِبَره فِي قَصِيدَةٍ لَهُ منها:
وإِذا السِّنُونَ دَأَبْنَ فِي طَلَب الفَتَى،
لحِقَ السِّنُونَ وأُدْرِكَ المَطْلُوبُ
فاذْهَبْ إِلَيْكَ، فليْسَ يَعْلَمُ عالمٌ،
لحِقَ السِّنُونَ وأُدْرِكَ المَطْلُوبُ
يَسْعَى الفَتَى لِينالَ أَفْضَلَ سَعْيهِ،
طهيهاتَ ذاكَ! ودُون ذَاكَ خُطوبُ ■