مُكَوِّنَات أساسية للعمارة الإسلامية المُقَرْنَصَات لآلِئ تُبرز جمالية الفن المعماري للمساجد

مُكَوِّنَات أساسية للعمارة الإسلامية المُقَرْنَصَات  لآلِئ تُبرز جمالية الفن المعماري للمساجد

تشكّل العمارة أحد أهم المصادر المادية الدالة على التطور الحضاري للشعوب، كما تسمح باستخلاص القيم التي قامت عليها الحضارة، على أن العمارة المتفوقة لا تعني أبدا الضخامة في البناء، بل تتعداها إلى التعبير عن روح الإنسان وقيمه، وإذا جاز  أن نبسط المفهوم، فيمكن القول بأن العمارة الإسلامية تعني مختلف الخصائص العمرانية التي اختص بها المسلمون في بنائهم، وهي كل بناء أسسه المسلمون بالمجال الذي وُجدوا فيه، سواء بِحُكمه كما حدث في القرنين الأول والثاني للهجرة بشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر واستمروا في حكمه، أو التي حكموها لفترة معينة وخرجوا منها، كما في الأندلس وصقلية، أو التي دارت في دائرة الثقافة الإسلامية، مثل: ماليزيا وبعض مناطق الصين، أو التي لم تشكل في تاريخها جزءًا من دار الإسلام، ولكن المسلمين عاشوا واستقروا بها كأقليات، كما يحصل حاليًا في بعض دول أوربا الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية.

 

يمتد زمن العمارة الإسلامية بدءاً من القرن الأول للهجرة (القرن السابع للميلاد)، إلى خضوع البلاد الإسلامية للاستعمار في القرن الـ 19م، ثم عاد مفهوم العمارة الإسلامية إلى الظهور بشكل يراعي المتغيرات العالمية بعد حصول هذه البلدان على استقلالها.
وفيما يخص أقسام العمارة الإسلامية فقد دأب المهتمون على التمييز بين أربعة أصناف، وهي:
- العمارة الدينية: وتشمل المساجد والجوامع والمدارس والزوايا.
-  العمارة الجنائزية: وتضم القبور.
- العمارة العسكرية: وتتمثل في القلاع والأربطة (أو الرباطات) والأسوار والقصبات والأبراج.
- العمارة الاجتماعية والاقتصادية: وتتضمن المنازل والقصور والسقايات والحمامات، والقناطر ومختلف المعالم ذات الوظيفة الاقتصادية.

نقلة تاريخية
كان المسجد الفضاء الأول الذي استوعب إبداع الفنان، وكان من الممكن أن يبقى المسجد كما كان عليه مسجد الرسول ([) في المدينة، «سقيفة من النخل وجذوعه  وفناء مُسور»، ولكن الإسلام وقد أصبح قاعدة للحضارة، فإن الناس أخذوا يتسابقون أيضًا في ربط الأشكال المعمارية، والصيغ الفنية بالمفهوم العقدي الذي أخذ يتنامى في أذهانهم وقلوبهم يومًا بعد يوم.
وإذا أردنا أن نحدد تاريخيًا هذه النقلة بخصوص عمارة المسجد في الإسلام من مجرد فضاء، أي مكان طاهر لأداء الصلاة، إلى مَعْلم فني معماري يستقطب كل أنماط الفن الإسلامي، فإن العهد الأول من حكم بني أمية، مَثَّل الإطار الزمني التاريخي لنشأته، وتجلى ذلك لَمَّا بدأ الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، متأثرًا بكنائس النصارى ولا سيما كنيسة النصارى في القدس وقبتها الشاهقة، فعمل على مضاهاة تلك الكنيسة ببناء قبة الصخرة المشهورة، فتشكلت شخصية معمارية وفنية جديدة، نمت في رحاب المسجد أولًا، ثم انتشرت في جميع الأشكال الإبداعية مثل الخط والتصوير.
وتتكون عمارة المساجد من عناصر أساسية تُكَون في مجموعها الطراز الإسلامي، وهذه العناصر مختلفة ومتعددة، ويتضمن العنصر الواحد عدة أشكال، أما هذه المكونات فتتمثل في: الأبواب، والعقود، والأعمدة وتيجانها وقواعدها، والقباب، والمآذن، والشرفات، والمشربيات والمقرنصات... وتعتبر هذه الأخيرة من أبرز ما أبدعته أيادي الفنانين المعماريين لإضفاء صبغة جمالية على المساجد.
يقصد بالمقرنص مفرد «مقرنصات» على أنه أحد عناصر العمــــارة الإسلامیـــة المتمیـــزة، ویشبه المقرنص الواحد محـــرابا صغيرا أو قطاعًا طولیًا منه وله أشكال متعددة، ولا یستعمــــل إلا في مجموعات مدروسة التوزیع والتركیب متجاورة، حیث تبدو كل مجموعة منه وكأنها بیوت النحل في شكل كتل وخطوط متناغمــــة ریاضیة التصمیــــم متناهیــــة في الدقة، وتؤدي وظیفـــة معمــــاریة محددة ودورًا زخرفیًا جمالیًا یتجاوز كل الحدود، وكأنها منحوتات لها مدلول رمزي، ومعها لا تنتهي المساحات بـــل تصل بعض الجدران ببعضها وبالسقوف والقباب والشرفات في تلاحم لا متناه، وبهذا فهي تغطي السطوح الحادة الأطراف في الأركان وبین السقف والحائط وأسفل الشرفات وفي المآذن ورؤوس مداخل المنابر، إذًا فهي تقضي على مناطق الانتقال المفاجئ، وهي بذلك هیمنت على الأركان وسماء القباب بشكل خاص داخلیًا  وخارجيًا، كما في بعض الأحيان.
وللإشارة فالمقرنصات تختلف مسمياتها حسب مناطق العالم الإسلامي، فهي تُعرف بالمقرنصــــات في بلدان المــــشرق العربـــي، وتسمى «المُقَرْبَصــــات» فــــي دول الغرب الإسلامي، بينما تدعى «الدْلاَّيَات» في مصــر، ويعتــــقــــد أنها كلمة اقتبست وعُرِّبت بإضـــافة «الميم» العربية لها، بغــــرض تفعيـــل اللفظة اليونـــانيــــة (كارنيس  Karnies) ومعناها الطنف أو النتوء الخارج من البناء والذي مازال له نفس المعنى في اللغات الأوربية (Cornic أو Cornish)، أما الدارسون لعمارة المسلمين من الأجانب والمستشرقين، فقد أطلقوا عليها ستالكتيت أو الهوابط، بما خال لهم في محاكاتها لتلك الأصابع الجصــــية الهابطة من سقوف الكهوف.
أما تاريخ ومكان نشأة المقرنصات فقد أثيرت الشكوك حولها هل هي إسلامیة أم تعود إلى حضارات أخرى، كما جزم البعض مثل الإيطالي ريفورا بأن الرومان هم أول من وضع المقرنصات المقوسة التي انتشرت بعد ذلك في الشرق، خاصة في بلاد فارس، كما يرجع روزنتال أصلها إلى الأشوریین، لكن أحدًا لم یستند إلى دلیل مادي یؤكد صحة هذا الادعاء، ویقول الدكتور صالح لمعي بأنها وردت من أرمینیا والجزیرة الفراتية (العراق) في شمال الرافدين، بسبب ظهورها في مصر لأول مرة مجسدة في مسجد الجیوشي للوزیر الأرميني الأصل بدر الجمالي سنة 1085م، وهناك من أكد أنها ظهرت لأول مرة في مسجد الجمعة في أصفهان خلال القرن الحادي عشر، وعمومًا مهما يكن من اختلاف بين الباحثين في تأريخ المقرنصات، فإن ما يمكن تأكيده هو أنها ظهرت في فترة زمنية قديمة على الأقل خلال القرن الحادي عشر، وهو ما أجمع عليه جلهم، أما مكان ظهورها فيصعب تحديده نظرًا لكثرة الروايات المتضاربة، وهو ما يطرح إشكالية هُوية هذا الفن المعماري.


وظائف المقرنصات
وقد ابتكرت المقرنصات لوظائف معينة شأنها شأن العناصر المبتكرة الأخرى، وتتجلى وظائفها في مظهرين:
وظائف معمارية: تساعد على تخفیف ثقل الكتلة حیثما وُجدت في البناء، وذلك لأن المقرنصات تقسم الكتلة إلى أجزاء صغیرة یرتكز بعضها على بعض، مما یؤدي إلى توزیع ثقل الكتلة على نقاط متعددة، وذلك عن طریق تركیبها الهندسي الدقیق في صفوف بعضها فوق بعض، كما تسمح بالالتقاء والربط بین السطوح المستویة والسطوح المنحنیة والتي شاع استخدامها على سبیل المثال في التحویل من الشكل المربع للحجرة إلى شكل ثماني، ثم إلى قبة دائریة أو التحول من سطح إلى آخر في أحواض المآذن أو في الأروقة.
 
وظائف زخرفية
 المقرنصات تعطي شكلًا زخرفیًا رائعا یقلل من حدة الجدران الملساء المرتفعـــة، وتعطــي شكلًا هندسیًا ذا ثلاثة أبعاد یتقبله الناظــــر أكثر من تقبله للأوجه الملســــاء، ویخفـــف من وقع ثقل الكتلة بإیجـــاد لوحات من الظل والنور، وذلك عن طریق مـــبادئ أساسیة قام علیها تركیب المقرنصات، وهي التطابق والتشابه والتدرج والتعارض، فالتطابق في المقرنصات یؤدي إلى التكرار، والتشابه یكمن في التوافق بین الوحدات المكونة له، والتدرج یوجد في تعاقب حنایا المقرنصات في صفوف بعضها فوق بعض تصاعدیًا أو تناقصیًا، أما التعارض فیظهر بوضوح بین المقرنصات وبقية أجزاء المبنى.
وتتمثل أهم استخدامات مقرنصات المساجد في النقاط الآتية:
1 - في الزوایا الأربع التي تقع تحت القباب في البناءات المربعة الشكل.
2 - تحت شرفات المآذن.
3 - في صنع أحد أنواع تيجان الأعمدة من الحجر أو الخشب.
4 - في التسقیف الداخلي لبعض الأروقة.
5 - في المعالجات الزخرفیة الداخلیة لبعض القباب.
وللمقرنصات أنواع متعددة اختلفت تقسيماتها حسب الباحثين، وهي كالآتي:
ــ مقرنصات قُسمت حسب مكان وجودها، فعلى سبیل المثال في مصر عُرفت بأسماء الحلبي والشامي والبلدي ومقرنص بدلایة والمثلث.
ــ مقرنصات قُسمت حسب المنظومة التركیبیة لأجزائها، ففي المغرب استعمل أسطوات الحرفة (المعلمین) التسمیات المكونة للمقرنص، وهي: (الشربیة - تسنیة مفتوحة - الكتف - الشعیرة أو السروالیة الصغیرة – الدنبوق - اللوزة المستعملة في طاسة الذروة - السروالیة أو البوجة - التستیة المسدودة).
ــ مقرنصات قُسمت حسب شكلها كالمقرنصات ذات الطیقان المثلثة أو المنشور، والمقرنصات ذات الطیقان المقوسة أو الكرویة والمطولة والمقرنصات ذات الدلایات.
ــ مقرنصات قُسمت حسب تضاعف عدد حطاتها، فقسمت إلى مقرنصات مركبة ومطولة ومزنبرة وكرویة ومنشوریة وذات دلایات وبلدي حلبي.
ــ مقرنصات قُسمت حسب تركیبها إلى مقرنصات بسیطة ومقرنصات مركبة من حنایا مقوسة ومقرنصات مركبة من حنایا منشوریة ومقرنصات ذات دلایات.
إضافـــــة إلــــى هذه الأنــــواع هنــــاك مقرنصات القباب، التي تقسم بدورها إلى أصناف، هي:
المقرنصات المعقودة موحدة التركيب, المقرنصات المعقودة مزدوجة التركيب, المقرنصات المعقودة في القباب المزدوجة,المقرنصات المعقودة في القباب المهدمة جزئيا, المقرنصات المنشورية. 
وللإشارة، فجميع أنواع المقرنصات تُستخدم في صناعتها مجموعة من المواد كالجبس، والحجر، والحجر الصناعي، والحجر المنحوت، والخشب، والآجر المركب أو المنحوت.
وختامًا يمكن القول إن المقرنصات تشكل جزءًا من هوية الشعوب الإسلامية، فقد بدأت بعناصر وتركيبات بسيطة، وبعدها تطورت مع مرور الزمن، إلى أن أصبحت معلمة تاريخية يفتخر بها المسلمون أينما حلوا وارتحلوا، لذا يجب الحفاظ عليها وتطويرها باعتماد التقنيات الحديثة في عملية تصميمها ■

 

نموذج لمقرنصات أعمدة المساجد

 

مقرنصات المحراب , مقرنصات من الآجر , مقرنصات حلبية تزين واجهة الجامع الأقمر بالقاهرة