جاك دو بولاديير... جنرال الحرب والسلام

جاك دو بولاديير... جنرال الحرب والسلام

تحفل شوارع باريس، بشكل لافت، بمظاهر احتفائية بالبطولات العسكرية، أقلّه منذ عهد نابليون بونابرت وليومنا هذا. إذ يحمل عديد من الشوارع والساحات أسماء معارك حربية مظفرة وجنرالات مبرّزين.
وحين تمرّ في الدائرة 15 في باريس، وتقف هنيهة عند تقاطع الجنرال جاك باري دي بولارديير، قد يتبادر في الذهن أنه كُرّم لكونه واحدًا من القادة العسكريين المميزين، وهو بالطبع كذلك، فهو واحد من القادة الألمع في جيله، وأصغر جنرال تقلّد هذه الرتبة في تاريخ الجيش الفرنسي عن عمر يبلغ 49 عامًا. 
لكن القفز إلى الاستنتاجات السريعة، على الأغلب، لا يفي الموضوع حقه، وخصوصًا متى استعرضنا سيرة الجنرال «المشاكس»، لا بل الرافض، بولارديير. 

 

وُلد جاك دو بولارديير في 16 ديسمبر 1907 في شاتوبريان في فرنسا. توفّي والده وهو في العاشرة من عمره، فأرسل إلى مدرسة داخلية للآباء أثرت في تنشئته.
 كما أثّرت أمه فيه بشدّة، إذ تعلّم منها الصلابة وعدم اليأس، وهي التي كافحت وحيدة بعد وفاة والده، واهتمت بتربية خمسة أطفال. فقدت زوجها، ومن ثمّ ابنتها، ثم فُجعت برحيل ابنها البكر، ومع ذلك حافظت على رباطة جأشها وتعلّقها بالحياة. 
في سنّ 17 دخل جاك الجيش تآلفًا مع تاريخ كلّ من أبيه وجدّه وجدّه الأكبر. وأصبح لاحقًا الجندي الأكثر تكلّلًا بالنياشين أيام فرنسا الحرة، وواحدًا من القادة العسكريين الألمع في جيله.
ومع ذلك تابع مسيرته العسكرية ملتمسًا خطًا غير مستقيم. فقد عُرفَ عنه أنه يعترض أحيانًا، ويرفض الطاعة أحيانًا أخرى. يبادر إلى طرح أفكار جديدة من خارج المألوف والطرائق العسكرية المعتمدة. 
حُكم عليه بالموت خلال عهد الجنرال بيتان، ورفض اعتبار الألمان أعداء، بل رأى أن النازية هي ما يجب أن تُحارب لا الشعب الألماني. ورفض الإذلال والعنف اللذين ارتكبهما الحلفاء بحق خصومهم خلال المعارك.
شارك في معارك في لاوس وكمبوديا وتونكين وهايبهونغ، إلا أن القتال كقائد عسكري، بوجه شعب يقاتل من أجل استقلاله، ترك في نفسه طعمًا مرًّا. 
اعتبر فرنسا خاسرة هناك لا محالة. لكنّ القيادة العليا لم تعره اهتمامًا ولا سمعًا... ففضّل العودة إلى فرنسا، وإلى مجال التدريب في «مركز الدراسات العسكرية العليا». يصف تلك الفترة بالقول إنه وزوجته أقاما علاقات ممتازة مع السكان الفيتناميين.

مواقف مشرفة
على خلفية رفضه الفظاعات التي ارتُكبت خلال الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى الحرب الهندوصينية، برزت لدى بولارديير مواقف مشرفة رسمت خطًا مستقيمًا لفكر وأسلوب مغايرين التزمهما، مشكّلة لديه خريطة طريق محددة الأهداف. وكانت الجزائر، في المرحلة المتأخرة من الاستعمار الفرنسي لها، الاختبار الأول له.
هناك شكّل وحدات صغيرة من الجيش عُرفت بـ «القمصان السود»؛ كانت غايتها فتح حوار مع الشعب الجزائري. فسجّل بذلك ابتكارًا ذا منحى سلمي لا عنفي، أدى إلى خفض نسبة الاعتداءات والتفجيرات. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد رفض الانصياع لأوامر قائده الجنرال ماسو في اتباع الأساليب البوليسية العنفية، وهو الأمر الخارج عن المألوف وغير العادي آنذاك.
في ذكرى ميلاده الخمسين، قدّم استقالته من الجيش، كي لا ينصاع إلى أوامر نابعة من تعليمات وسياسات تُغرق الجيش الفرنسي والجزائريين في موجات من العنف والعنف المضاد، وذلك وفق قوله.
هذه الاستقالة أحدثت صدمة وضجّة في فرنسا على المستويات كافة. لكننا اليوم، وبعد مضي حوالي سبعين عامًا، نرى مدى صوابيّتها ومدى استشراف صاحبها المستقبل.
فالاعتذار الفرنسي الرسمي عن استعمار الجزائر جاء أخيرًا على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يبدو متحررًا من عُقد التاريخ؛ خصوصًا اعترافه بنظام للتعذيب في الجزائر خلال “سنوات الثورة”. 

تكلفة باهظة
هي فصول من تاريخ استعماري أسود، كانت الجزائر من أكبر ضحاياه، عندما أصرّت باريس على أن تجعل من الجزائر «فرنسا الثانية»، محتلّة إياها مدة 132 عامًا، قبل أن ترحل بتكلفة باهظة من الضحايا الجزائريين والفرنسيين على حدّ سواء. وثمّة تصريح للرئيس ماكرون يصف فيه استعمار الجزائر بـ «جريمة ضد الإنسانية».
منذ عام 1963 انتقل دو بولارديير إلى العمل المدني السلمي. فمن معرفته العنف ومعايشته له بشتى أشكاله واختباره إيّاه، رأى دو بولارديير دربًا مغايرًا وثوريًا هو اللاعنف.
واكتشف «أن اللاعنف هو دعوة إلى قوة حقيقية لا تستخدم وسائل العنف». مبادئ رائدة تبنّاها واعتمدها بعد الغوص في فكر أشخاص لاعنفيين كبار، أمثال رائد الساتياغراها غاندي، والأسقف هيلدر كامارا، والفيلسوف اللاعنفي جان ماري مولر. وقد اكتشف القواسم الفكرية التي تجمعه بالأخير، وذلك في 23 أكتوبر 1970 لدى سماعه محاضرة لمولر، فتأكد من أن اللاعنف يشكّل نظرتهما نفسها إلى الحياة، وهو نابع من ذاتيهما، ومذ ذاك باشرا معًا «رحلة اللاعنف».
تبنى دو بولارديير، العسكري السابق والمبرز، فلسفة اللاعنف، وهي مبنية على «لاعنف القوي»؛ فجعل من موقفه قوة فاعلة للتغيير. 
وهو قرار التزم به طوعيًّا، وقوامه عدم الطاعة والخضوع متى أدى ذلك إلى العنف والقتل وتحقير إنسانية الإنسان، وإن كان الخصم/ الآخر عدوًّا، الأمر الذي جعله شخصية مؤثرة وفاعلة في فرنسا والعالم.

معركة حقيقية
بعد تصريحاته العلنية ضد استعمال العنف في الجزائر في مجلة الإكسبرس في الخمسينيات، تبلورت أفكاره ووضّحها في كتاب «معركة الجزائر معركة الإنسان» الذي نشر في عام 1972، والذي ردّ فيه على تبريرات الجنرال ماسّو للتعذيب في كتابه «المعركة الحقيقية في الجزائر». تناول دو بولارديير كيفية تطوّر وعيه المتنامي لهول الحروب ومآسيها والكيفيات التي تؤدي إلى تحطيم الكرامة الإنسانية من جراء العنف والقتل والتعذيب. 
وذكر أن انطباعاته تولدت على أثر مشاركته في حروب متعددة، وأفضت، في المحصلة، إلى ما دعاه «حربًا من دون تسمية»، مستخلصًا أن الحرب ليست سوى حقيقة مثيرة للشفقة للعلاقات بين الناس، وهي علامة قاتلة لقصور قدراتهم وتعبير عن عجزهم على المواجهة.
وتزامنًا مع تحوّل دراسات اللاعنف في سبعينيات القرن الماضي نحو نهج علمي (جين شارب «سياسة الحراك السلمي»، 1973)، أصبح دو بولارديير، وهو المتمرّس ومعلّم استراتيجيات الدفاع العسكري، يحاضر ويدرّب حول استراتيجيات الدفاع اللاعنفي. ابن المؤسسة العسكرية، وإن كان قد استقال منها، بات يطلب من الجيش أن يطرح بدوره اللاعنف كمنهج. 
في سبعينيات القرن الماضي لبّى دو بولارديير النداء لـ «كسر الصمت الرسمي» حول التجارب النووية الفرنسية في موروروا بالمحيط الهادئ، ورافق فريق مركب حركة السلام النيوزيلندية، وبلغوا المنطقة المحظورة في موروروا.

 رسالة نموذجية
أُلقي القبض على المحتجين، وفي مقدمتهم جان مولر والجنرال دو بولارديير؛ فأضربوا عن الطعام. وبعد أيام أطلق سراحهم، فكتب دو بولارديير إلى الرئيس الفرنسي آنذاك جورج بومبيدو يطلب شطب اسمه من جوقة الشرف العليا. لاحقًا وصف مولر هذه الرسالة بالتالي:
«رسالة نموذجية للنزاهة والشجاعة في مجابهة العنف باللاعنف البطولي. الرسالة من الجنرال جاك باري الذي اعتقل في قاعدة هاو بالمحيط الهادئ إثر اعتراضه على سياسة الحكومة في مجال التسلح (1973)، بعد أن أعاد شارته كضابط كبير في جوقة الشرف الفرنسية إلى رئيس الجمهورية جورج بومبيدو، وقد جاء فيها: إن ثلاثين عامًا من حياتي كجندي، إضافة إلى العمليات الحربية التي قمت بها في أوربا وآسيا وإفريقيا أقنعتني تمامًا بأهمية إعادة نظر نقدية وجذرية في العنف، وتولّدت لدّي قناعة تامة بأن العنف المسلح غير مجد في حلّ التوترات والنزاعات بطريقة إنسانية، وصممت أكثر من أي وقت مضى على تكريس السنوات الباقية لي للدفاع عن فرنسا، عن طريق حمايتها من نفسها في البداية، إذ إنها تميل إلى الاستسلام لخيارات سياسية دفاعية لا تقيم اعتبارًا لواقع العالم المعاصر، وتؤدي إلى عواقب خطيرة، مثل اختيار أهداف بشرية وتصدير أسلحة إلى العالم أجمع، تلك هي الحوافز التي جعلتني أشعر بضرورة التعبير عن قناعاتي العميقة من خلال عمل لاعنفي أتحمّل مسؤوليته بشكل كامل».
وتابع نضاله اللاعنفي في وجه سياسات التسلّح النووي مبتكرًا لغة تنطوي على منظومة فكرية تواصلية أثّرت فيه، وأهّلته ليصبح الجنرال اللاعنفي. ويشرح عبر كلماته:
«أعتقد أن الهدف الأكثر واقعيّة يكون بأن نحصل على تعليم اللاعنف رسميًّا في سائر المجالات، وخاصة في المجال العسكري، بعد إعادة قراءتي لتجربتي والأحداث والأمثلة، التي يضعها التاريخ أمامنا، توصلت إلى خلاصة مفادها أن نظام الدفاع العسكري غيّر فعّال».

نظام بديل
يذكر أنه شارك في التحركات الضخمة ضدّ توسيع القاعدة العسكرية في منطقة لارزاك التي انتصر فيها المزارعون، عبر النضال اللاعنفي، لحقوقهم في الأرض والبيئة السليمة. كما أنه كان من المدافعين عن الحقّ في رفض الخدمة العسكرية والداعين إلى جيش من دون أسلحة، وذلك عبر نظام بديل من نظام العنف العسكري والحربي.
كان دو بولارديير من بين الأشخاص العشرة المنتخبين لتأسيس الحركة اللاعنفية الرئيسية في فرنسا عام 1974 مع جان مولر «حركة من أجل خيار لاعنفي»، وبالنسبة له العنف هو رفض استغلال الإنسان للإنسان.
ومن «نداء المئة» إلى «الصوم من أجل الحياة» إلى حركة «من أجل نظام دفاع آخر» بات مناضلًا شريكًا في كل «الجبهات» اللاعنفية.
توفي المناضل اللاعنفي في 22 فبراير 1986، وفي 20 نوفمبر 2007 افتتح رئيس بلدية باريس برتراند دولانويه شارعًا باسم جاك دو بولارديير عربون وفاء من العاصمة باريس لهذا الجنرال الذي حُكم عليه بالسجن ستين يومًا حين تجرّأ وانتقد علنًا التعذيب في الجزائر على يد الاحتلال الفرنسي.

إرادة التغيير
مسيرة حياة حافلة بالنضال، نظر بولارديير إلى الثلاثين عامًا الأخيرة منها باعتداد، وقال إنه شاء المخاطرة بكل وجوده من أجل رهانٍ لطالما آمن به وهو الحب. ففي الحياة نحب ونجري ونناضل باللاعنف. وهو الذي وجد معنىً لحياته وهو بجانب رفاقه في النضال اللاعنفي.
إن القراءة المتأنية لسيرة بولارديير والتفكّر فيها تفضي إلى المستخلصات التالية:
متى كانت هناك إرادة للتغيير، فثمة دومًا مسار وعزم للتغيير، أقلّه عند الشباب عمومًا، فهناك فلسفة ومدرسة ونهج وممارسة هي «اللاعنف».
متى انتهج أحدنا طريق «اللاعنف»، فعليه أو عليها وعي المشقة والصعوبة لاختراق هذا الواقع المأزوم، وتحضير وإعداد الذات لمسار طويل يمتد إلى ما تبقّى من العمر.
إنه نضال مستمر يحتاج إلى أدوات إجرائية خلاّقة ومبتكرة تنطلق من منظومة فكرية متكاملة عنوانها «الحب».
إن النضال الفردي أساسي، ولازم الوجود وعنوان إنسانية الإنسان، لكنّه لا يمكن أن يوصل المجتمع إلى المبتغى دون تحويله إلى نضال جَماعي. فلتتآزر عقولنا وقلوبنا وسواعدنا لترسيخ فلسفة اللاعنف مسيرة ونهجًا وسلوكًا ونمط عَيش ■