فكري أباظة... الضّاحك الباكي

فكري أباظة... الضّاحك الباكي

كان فكري باشا أباظة علَمًا بارزًا في تاريخ مصر الحديث، وقد برزت مواهبه وتعدّدت إسهاماته في مصفوفة من الخطوط المتوازية والمتكاملة التي أثّرت في تطور مصر السياسي، والصحفي، والإذاعي، والبرلماني، والتشريعي، والنقابي في الحقبة الليبرالية 1919 - 1952.
وقد واكب شبابه بدء هذه الحقبة، وسارت حياته معها في تضافر عجيب، وكان، إضافة إلى أدائه الساطع، صاحب مواهب فنية وثقافية ورياضية، كما كان صاحب حضور متّصل ومتوهج جعله حتى في نظر السائح الذي يمرّ بالقاهرة معلمًا شاخصًا من معالم العاصمة الحافلة بالنشاط في أثناء الحرب العالمية الثانية وفيما قبلها وبعدها.

 

كانت أصداء نجومية أباظة وظلالها الممتدة تمثّل طرازًا لامعًا ووديعًا وحاضرًا، وقد عبّرت هذه الأصداء والظلال عن أداء متميز ومتفوق، بل ومتوهج في تجويد المهنة والاتصال بالجماهير واستشراف المستقبل، وكان هو نفسه شخصية فريدة مؤهلة لهذا التميز في الحضور، وفي الأداء، وفي الوجود، وفي الأثر، فقد قدّر له أن يعيش ثورة 1919، وأن يشهد حروب 1948 و1956 و1973، كما شهد الحربين العالميتين، وقد روى عن نفسه أنه عاصر 25 حربًا؛ ابتداءً من حرب روسيا واليابان (1904)، إلى أن شهد معركة الانتصار في أكتوبر (1973).
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن الشعب المصري منح فكري أباظة باشا من الإعجاب والحب والتقدير ما لم يمنحه لصحفي آخر، وأن النادي الأهلي بكلّ تاريخه كان حريصًا على أن يكون أباظة رئيسًا فخريًا له، وأن الزعامات المصرية المتعاقبة جميعًا كانت حريصة على تقديره، ونحن نعرف أنه فاز بالتزكية في برلمان 1926 بفضل موافقة الزعيم سعد زغلول باشا، كما أنه حظي في نهاية حياته بتقدير وإعزاز بالغين من الرئيس أنور السادات.
ومن الاعتراف بالفضل أن نشير في مقدمة حديثنا إلى كتاب جيّد كتبه عنه الأستاذ فاروق أباظة: «فكري أباظة باشا... فارس المعارضة»، وقد نشر في سلسلة كتاب الهلال، (دار الهلال، أكتوبر 1980).
اسمه بالكامل فكري حسين أباظة، كان والده حسين بك أباظة من خريجي الأزهر، أما جدّه فهو السيّد باشا أباظة. تسجل المصادر المتاحة عدة تواريخ لميلاده ما بين 1893 وحتى 1898 وما بعدها، لكننا نؤثر ترجيح ما ذهب إليه أستاذنا مصطفى أمين من تاريخ مولد الأستاذين فكري أباظة باشا ومحمد التابعي، استنادًا إلى صورتهما وهما يحملان الزهور ممثلين لطلبة المدارس الأميرية في مقدمة جنازة الزعيم مصطفى كامل باشا (1908).

طفولة جميلة
كان أباظة الأصغر بين ثلاثة من الأشقاء، وقد عاش طفولة جميلة، وفيما بعد وفي إطار المفارقات التي يستملحها الجمهور عن أمثاله، فإنه كان يروي عن نفسه ما رواه أقرباؤه له من أنه جاء إلى الحياة دون أن يذرف دمعة واحدة من عينيه، حتى ظنّ أهله أنه مخلوق غريب، كما كان يروي أن إخوته كانوا يضربونه، لكنّه لم يكن يبكي.
بدأ أباظة تعليمه في القرية، ثم انتقل سريعًا للتعلّم في القاهرة، وانتظم في مسار التعليم المدني التقليدي المتاح لمن هُم في طبقته بذلك العصر، فحصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة الجيزة، ثم التحق بالمدرسة السعيدية، ولمع اسمه في المدرسة كنجم مبكرًا، حيث كان متفوقًا في ممارسة الرياضة والفنون المسرحية والموسيقية، وفي الدراسة أيضًا.
وكان أباظة لاعب كرة من أبرز لاعبي فريق كفر أبو شحاتة، كما كان من أبرز لاعبي المدرسة السعيدية، ثم النادي الأهلي، وقد عرف أيضًا في بدايات حياته بهواية المسرح، وقد ظهر على المسرح في دور «بوكاشيو» بمسرحية «يوليوس قيصر»، كما قام بدور البطل في رواية «الأمير حماد»، وفي رواية «ثارات العرب»، كما يروي أنه ألّف قطعًا موسيقية مسجّلة، وأنه كان أيضًا يعزف على المندولين والناي، وفي هذه الفترة بدأ كتابة مقالات في جريدة المؤيد باسم مستعار.

بين المحاماة والصحافة
بعد حصوله على البكالوريا أصر أباظة على الالتحاق بمدرسة الحقوق الخديوية (1913)، وبدأ اتصاله بالوطنية ومصاعبها وتضحياتها حين كان واحدًا من طلبة مدرسة الحقوق الذين تقرر فصلهم في فبراير 1915، وذلك بسبب امتناعهم عن استقبال السلطان حسين كامل (عندما اعتزم زيارة المدرسة)، وكان موقفهم هذا تعبيرًا عن احتجاجهم على إعلان الحماية البريطانية وقبول السلطان بها ومهادنته للاحتلال. 
يُذكر أنه كان من ضمن هؤلاء الطلاب الوطنيين الذين فُصلوا مع أباظة الوزيران محمد صبري أبو علم باشا، وأحمد مرسي بدر بك، والزعيم يوسف الجندي، ونقيب المحامين الأشهر عمر بك عمر، والأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين، وقد أصدر السلطان حسين كامل قرارًا بالعفو عنهم في مارس 1915.
تخرَّج أباظة في كلية الحقوق، وعمل محاميًا منذ تخرّجه (1917)، وقيّد في جدول المحامين، بعد أن أتم التدريب على المحاماة (1919)، وفي الوقت نفسه كان يمارس الصحافة والكتابة، وتصادف أنه بدأ العمل بالصحافة في 1919 قبل اندلاع الثورة بعشرة أيام.
وعندما قامت الثورة كان واحدًا من شبابها، وقد قاد بعض التظاهرات، وخطب في المساجد والكنائس، وكتب نشيدًا وطنيًا ردّدته الجماهير، وتغنّى به المسلمون والأقباط، وقد طلبت السلطات البريطانية القبض عليه، فهرب وتنكّر وهو يحمل أوراقًا تثبت أنه تاجر حمير، وسافر في قطار حربي من القطارات المخصصة لنقل مهمات القوات البريطانية المحتلة. 
وقد كتب أباظة في «الأهرام» تحت عنوان «كتيب حقير» مهاجمًا طابور الخيانة الذي كان يحضّر الأذهان للحكم الذاتي، كما هاجم الوجود الإنجليزي ودار المندوب السامي في مجموعة مقالات نارية.

صولات وجولات
لم يمض عامان على انتهاء فكري أباظة من التدرب على المحاماة وعلى بداية ممارسته لها، حتى تمكّن من افتتاح مكتب للمحاماة في مدينة الزقازيق (1921)، بعد أن عمل لفترة قصيرة في أسيوط، وظل يمارس مهنة المحاماة من خلال مكتبه أمدًا غير قصير، وكانت له صولات وجولات في المرافعات، وصدرت لمصلحة موكليه أحكام تعتبر فخرًا مهنيًا له كواحد من أفذاذ المحامين في مصر، وقد وصف أستاذنا حافظ محمود مرافعات أباظة أمام القضاة في قضايا الحريّة بأنها يمكن أن تكون مرجعًا في المرافعات.
احترف أباظة العمل بالصحافة في «دار الهلال» (1926) وجمع لفترة طويلة بين المحاماة والصحافة، وسرعان ما اختير رئيسًا لتحرير مجلة المصور (1931). واحتفظ بهذه المكانة المتقدمة في الصحافة العربية قرابة خمسين عامًا كان فيها في الصف الأول موهبة ومنصبًا وحضورًا.
ومن طريف ما يروى عن اعتززه بمهنته أنه عاش طوال عمره لا يملك قيراطًا واحدًا، وليس له مورد إلّا ما يتقاضاه من مرتب نظير عمله في الصحافة، وكان يحوّل مدّخراته من الصحافة لشراء أسهم في دار الهلال التي كان يعمل فيها، وقد ازدادت أسهمه مع الزمن، فلمّا أُمّمت الصحافة أُمّمت أمواله كلها.
يُذكر أن أباظة كان هو وحده الذي مثّل الصحفيين العرب في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي وضع فيه ميثاق الأمم المتحدة. وقد كان يبعث برسائل صحفية لكلّ الصحف الكبرى، بما يتناسب مع الخطّ التحريري لكلّ منها، ولا يزال بعض هذه الرسائل حيًّا في محتواه.
 
أباظة و«دار الهلال»
ظل أباظة محتفظًا برئاسة التحرير حتى وقع تأميم الصحافة المعروف باسم التنظيم، فرشّحته مكانته وأقدميّته لتولّي رئاسة مجلس إدارة مؤسستي الأهرام ودار الهلال بعد دمجهما، وأشارت الأوساط الصحفية إلى أن قرارًا صدر بهذا الشأن، لكنّه سرعان ما اختفى وتم تعديله، وبقي أباظة رئيسًا لمجلس إدارة دار الهلال فقط، لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، وإنما سرعان ما فقد هذا المنصب بسبب مقال شهير له، وعاش فترة الستينيات في شبه عزلة عن الحياة العامة، حتى أعاده الرئيس السادات إلى رئاسة مجلس إدارة دار الهلال في السبعينيات، وبقي في هذا المنصب إلى أن طبّق القانون الخاص بسنّ التقاعد.
كان أباظة مثالاً للكاتب الصحفي الجاد في عمله، الحريص على المرح في الوقت نفسه، وقد وصف محبّوه القلم بين أصابعه بأنه كان مشرطًا حادًا وإن كان لا يجرح أو يسيل دمًا، وقد عرف بأسلوب ظريف شائق لم تكن الصحافة المصرية تعرفه من قبل، وغلبت عناصر السخرية الراقية على أسلوبه، وكعادة العظماء، فإنه لم يمانع أن يسخر من نفسه على نحو ما كان يسخر من الناس، وظلّت هذه السخرية الراقية طابع كتاباته وأحاديثه.
كان أباظة يحظى باحترام بالغ ممن سبقوه إلى مهنة الصحافة وحققوا مكانة متقدمة فيها، ويُذكر له أنه كان يحظى بتأييد متصل من الأستاذ عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في قضايا الفكر والأدب.

 مديح شوقي له
من بين معاصري أباظة، فإنّ أحدًا لم يظفر مثله بما ظفر به من مديح أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 - 1932)، الذي مدح أسلوبه ومقالاته مبكرًا بعبارات حافلة بالإعجاب والتقدير والحب، واصفًا أدبه بحلاوة الفاكهة، وشذى الزهور، وإمتاع الربيع، والقدرة على التأثير، وتحبيذ العواطف، وحكمة العتاب، ومجافاة التحزب، مع الحرص على الرقيّ الخلقي والوطنية العاملة:
فـكري أذقــتَ القــومَ عفوَ بلاغةٍ
وزففـتَ محضـــًـا للنُّهى ولبابا
مـن كـل فــاكــهة وكلّ فكاهـــة 
هيــأت نُقــلًا واتّخــذت شرابا
مازلـــت تنــثرُ كلّ طيّبــة الشذي 
حتى جمعـت من الــزهور كتابا
فـــأتي ألــذّ من الربيــــع وعهده 
فصــلًا وأمتـــع في البدائع بابا
تلك الرسائل لو شكوت بها الهوى 
عطفت على أهل الهوى الأحبابا
عـاتبــتَ فيهــا الحــادثات بحكمة 
حــتى لكــدتَ تلينهــــنّ عتابا
ولوِ استطعـت شفيتَ من أضغانها 
شيَـع الرّجـــال بمصر والأحزابا
ونـــراه أرفـــعَ أن يقــــول دنيّة 
يوم الخصــومـة أو يخــطّ سبابا
لا يخــدمُ الأمــمَ الرجالُ إذا هُمو 
لم يخدمـــوا الأخـلاق والآدابا
ومدحه الكاتب الكبير عبدالعزيز بك البشري (1886 - 1943) في مقال طويل مطريًا أسلوبه، وطارحًا عليه السؤال: «لماذا يحبّ الناس فكري أباظة باشا ويؤثرون مقاله»؟ وأجاب عن هذا بقوله: «إنهم يحبّونك للفن الجميل وحده، إنهم يؤثرونك لمحض الموهبة التي آثرك الله بها على الناس جميعًا. هم يحبّون مقالك كما يحبون أم كلثوم، وما كانت أم كلثوم يومًا ما «سعدية» مخلصة، ولا سمع عنها أنها من دعاة الهزيمة. إنك يا فكري مصوّر فظيع... أسلمك الله مفاتيح القلوب».

رائد مؤسس
وصف رئيس تحرير الأهرام داود بركات (1870 - 1933) مقالات أباظة بأنها «ضرب من الأدب والإنشاء» سمّاه العرب «طرفة»، وعرفه مولانا صاحب القاموس بالغريب والعجيب والمستحسن.
وقد أضاف أباظة إلى تفوّقه الصحفي تفوقًا لم يكن قد عُرف بعدُ في جيله، وهو التفوق في التحدث إلى الجماهير والتواصل معها عن طريق الإذاعة، وقد نجح في أن يكون بمنزلة الرائد المؤسس لهذا الفن في تاريخ الإذاعة المصرية، والواقع أنه تخطّى ريادة فن الحديث الإذاعي إلى المكانة التي أصبح يعد فيها بلا جدال واحدًا من رواد الإذاعة المصرية ونجومها على وجه العموم، مرتفعًا بأداء أصحاب الفكر والنقد والتوجيه الاجتماعي إلى مكانة أصحاب المواهب الفنية والأداء المتميز، وإليه وحده يرجع جزء كبير من هذا الفضل، وذلك بما نجح فيه من تجويد وتفنّن فيما قدمه من أحاديث اجتماعية متعددة ومتنوعة وذات مضامين لم يسبق إليها.
وقد تمكّن أباظة بموهبته وثقافته وحبه للنجاح من تحقيق درجة غير ملحوقة من الارتقاء بفنّ الاتصال بالجماهير من خلال ميكروفون الإذاعة، كما تمكّن من تطوير أسلوب إذاعي رفيع المستوى هادف المحتوى، وظلت أحاديثه الإذاعية تحتّل مكانة متقدمة بين المواد الإذاعية الراقية، وكانت نموذجًا فذًّا للتفكير العقلي النقدي الذي يستهدف الإصلاح الاجتماعي. 
وعلى نحو ما نجح في إذاعاته في الراديو، فإنه نجح أيضًا في أحاديث تلفزيونية قدّمها في مطلع عهد التلفزيون، وقد حظيت أحاديثه بنسبة استماع عالية، وكانت الجماهير تتحلّق حول أحاديثه في موعدها، لتستمع إليه في تدفقاته المنتظمة. 

أباظة والإذاعة
وقد صف الأستاذ مصطفى أمين إسهاماته الإذاعية بقوله:
«بعضهم يذكره وهو يتحدث في التلفزيون يسخر ويلدغ، ويضحك ويهزأ، ويملأ الشاشة الصغيرة حبًا ومرحًا!
وبعضهم سمعه في الإذاعة في الثلاثينيات، يتحدث أيام كانت إذاعاته في الراديو تشبه حفلات أم كلثوم، تحدد إقامة الناس في بيوتهم وتمنعهم من الخروج».
ووصف الأستاذ محمد فتحي، المعروف 
بـ «كروان الإذاعة» أحاديثه بقوله:
«إن مساهمة فكري أباظة باشا في مجال الإذاعة مساهمة عزيزة يجهل قدرها الكثيرون... استفهاماته... استنكاراته... تعجّباته ووقفاته... عباراته المباشرة المعبّرة... وبيانه الناصع... وعدم استحيائه في الحق... لا بالعنف والتهجم وإنما بروح السماحة الرياضية... كل ذلك جعله صاحب أسلوب فريد فذّ لم يسبقه إليه أحد فرضه على أهل الظلم في ذلك الزمان الثائر المجيد.. فتهيأ له مكان الصدارة بين جهابذة الكتاب والشعراء والساسة وقادة الفكر».
ننتقل إلى الأفق الثالث من نجاحات أباظة، وهو أنه كان محلًّا لثقة زملائه من الصحفيين، وأنهم كانوا ينظرون إليه كأخ أكبر، وقد نال ثقتهم في انتخابات النقابة، وانتخب لمنصب النقيب في عام 1944 وتجدد انتخابه أربع مرات.
وقد نجح أباظة في تحقيق كثير من الإنجازات النقابية على مدى تاريخه كنقيب للصحفيين، وأشار أستاذنا حافظ محمود إلى أن مبنى نقابة الصحفيين قد بني بمال فكري أباظة (!)، وأنه هو الذي جاء بالمال من الحكومة، وهو الذي افتتح في عهده مبنى النقابة في مارس 1949، وهو الذي تولى الدفاع في البرلمان عن كل قوانين النقابة على مدى الأربعينيات: قانون المعاشات، وقانون الدمغة الصحفية، وتعديل قانون المطبوعات، كما أنه هو الذي تولّى معارضة مشروعات القوانين المقيدة للصحافة، وأنه هو الذي حضر جميع المؤتمرات الخاصة بحريّة النشر في أوربا. 
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن الأستاذ حافظ محمود كان يقول: «إن مناقشاته معنا في مجلس نقابة الصحفيين كانت تكفي لتدوين سجل من سجلات التاريخ».

انحيازه للحرية
لما كان أباظة قد انحاز للحرية انحيازًا تامًا، فإنه كان عندما يستشعر أن هناك مَنْ يحاول الاعتداء على حرية الصحافة في الحكومة أو البرلمان ينبري ليدافع عنها بكل قوته.
وفي البرلمان المعروف باسم البرلمان السعدي الذي تكوّن بعد الانتخابات النيابية التي أجريت في عام 1945 تزّعم أباظة مجموعة الصحفيين الذين نالوا عضوية البرلمان، وكان منهم الأساتذة مصطفى أمين، وعلي أمين، وجلال الحمامصي، وكامل الشناوي، فضلاً عن عضوية الأستاذ الكبير عباس العقاد في ذلك البرلمان. 
ومما يجدر ذكره أن أباظة كان أحد الرؤساء المناوبين في أول مؤتمر للصحفيين العرب في أبريل 1952.
وفي عهد الرئيس السادات كان أباظة قد أصبح بمنزلة شيخ الصحفيين، وكان الرئيس السادات نفسه يناديه بهذا اللقب في أثناء اجتماعاته ولقاءاته بالصحفيين، وقد تولّى بروحه المرحة وبديهته الحاضرة تلطيف الجو بين السلطة والصحافة، بعدما أطلقت حرية الصحافة وحدث ما كان متوقعًا من انطلاق الحريات الصحفية إلى ما لم يكن مسموحًا به طوال عقدين من الزمان.

أباظة والحياة البرلمانية
نأتي إلى الأفق الأبرز في تاريخ فكري أباظة السياسي، وهو دوره الناصع في الحياة البرلمانية، وهو دور فذّ ومتميز ونادر، ويذكر أن أباظة عاصر بداية الحياة البرلمانية الحديثة، ورشح نفسه لعضوية مجلس النواب الأول في نهاية 1923، لكنّه لم يفز في هذه الانتخابات.
ومن الأخطاء الشائعة أنه فاز في هذه الانتخابات وأصبح أصغر أعضاء البرلمان الأوّل، فهذا لم يحدث، وإن كان قد نال عضوية البرلمان بعد قليل، حين فاز في الانتخابات البرلمانية الثالثة المعروفة بانتخابات 1926، التي جرت في ظل الائتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين والحزب الوطني.
وكان أباظة نفسه يعبّر عن سعادته بائتلاف 1926 الذي أتاح له الفرصة لدخول البرلمان، وكان يصف حكومة الائتلاف فيقول: «من الخطأ البيِّن أن يقال إن هذه الوزارة (وزارة عدلي يكَن الثانية) ائتلافية، وأنها مؤتلفة من الأحزاب المتعددة، كل حزب يمثّل فيها، إذ ليس الأمر كذلك.
إن الوزارة لا تكون ائتلافية إلّا إذا لم يتوافر لحزب أغلبية عدد أكبر من مجموع عدد الأعضاء المنتمين للأحزاب الأخرى، ويقال حينئذ إن هذه الوزارة مؤتلفة، لكن وزاراتنا ليست ائتلافًا بهذا المعنى، لكن أقول لحضراتكم إن مجموعها يمثّل مجموع مجلس النواب، بغضّ النظر عن الحزبية، وهذا هو الفرق، فإن صاحب الدولة عدلي يكن باشا لم ينتخب رئيسًا للوزراء ليمثّل حزب الأحرار الدستوريين مطلقًا، ولو كان هذا هو المعنى لما كان هو الرئيس، بل كان غيره من حزب الأغلبية، وإنما هو انتخب لأنه يمثّل فكرة نسعى إليها كلنا، فكرة الاندماج، فكرة المزج، فكرة الوحدة الوطنية، وهذا ما أردناه في أثناء الانتخابات، وبعدها، وقبل الأزمة التي حدثت وبعدها».

معركة ضارية
روى المهندس سيد مرعي أن د. أحمد ماهر قصد معاونة أباظة في انتخابات 1945، لأنه كان يواجه معركة ضارية من خصومه في الانتخابات، وذلك على الرغم من أنه لم يكن من مرشّحي حزب السعديين، الذي يتزعمه أحمد ماهر باشا، وعلى الرغم من أنه سيمثّل المعارضة في مجلس النواب.
كانت وجهة نظر الرجل العظيم أحمد ماهر باشا أنه يعزّ عليه أن يُحرم المجلس من شخصية برلمانية ممتازة، ولذلك ضم جزءًا من دائرة سيد مرعي (العزيزية) إلى دائرة فكري أباظة، حتى يساعده على الفوز، وعندما ذهب مرعي يشكو قال له ماهر ما معناه: مَن أنت؟ وأخذ يكيل المديح لأباظة.
وهكذا فإن أباظة دخل مجلس النواب لأول مرة عندما فاز بالتزكية في دائرة سنهوا ومنشأة فتحي، ممثلاً للحزب الوطني (1926)، وظل محتفظًا بعضويته في الدورات التالية حتى اعتزل الحياة البرلمانية (1951)، وقد خاض عددا من المعارك الانتخابية المشتعلة في الثلاثينيات والأربعينيات، ونجح فيها كلّها بعد كفاح عنيف، وفي إحدى هذه المعارك كان منافسه الصحفي الكبير محمد توفيق دياب (1888 - 1968).
وقد وصف شيخ الصحفيين الأستاذ حافظ محمود أداء أباظة البرلماني بإعجاب بالغ، لكنّنا نجد في إحدى عباراته وصفًا دقيقًا وتصويرًا منصفًا للدأب الذي تميّز به أداء أباظة البرلماني:
«إن الخطب التي ألقاها في مجلس النواب على مدى عشرين عامًا كانت تكفي لهدم قلعة وبناء قلعة». 
أما د. محجوب ثابت، الذي زامل أباظة في البرلمان، فكان كثير المديح لأداء فكري، وقد كان من أوائل الذين نبّهوا الرأي العام إلى ميزات أدائه البرلماني المتميز الذي جمع بين الشجاعة في الحق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجّة، والقدرة على اجتذاب انتباه السامعين، والتجرّد من السعي إلى النفع الشخصي، وقومية التناول للقضايا، وهو إضافة إلى ذلك حاضر النكتة، وسريع البديهة، وحلو التعليق، لا يملّ من حديثه سامع، ولا يملك أقصى معارضيه إلا أن يحبّوه ويقدّروا صدق مقصده، ونقاء طويته.

صفحات ناصعة
مثّلت مواقف فكري أباظة في البرلمان صفحات ناصعة من الجهاد الفكري، وكانت تنطلق عن سجيته، وكانت مناقشاته البرلمانية تعبيرًا عن صورة ناضجة من صور الإيمان والوطنية الملتهبة، وقد ظل بمنزلة قائد بارز من قادة المعارضة البرلمانية طوال ربع قرن، بدءًا من سنة 1926، لم تفُته دورة واحدة من غير عشرة مواقف على الأقل تذكر وتشكر، وكان في مقدمة الذين بشّروا ومهّدوا وصنعوا حياة ديمقراطية فاعلة، كما كان في مقدمة المناضلين من أجل الرأي الآخر، وقد خاض طوال حياته معارك كثيرة، لكنه كان فيها جميعًا خصمًا نبيلًا، وكان على حد وصف الأستاذ محمد شوكت التوني الذي زامله في إحدى الدورات البرلمانية: «مخاصمًا ولم يكن خصمًا، وكان معاركًا ولم يكن باغضًا، وكان محاربًا ولم يكن شانئًا».
وإلى جانب هذا كله «كان صريحًا وشجاعًا، ولم يكن أساس صراحته وشجاعته هو انتسابه إلى المعارضة على طول الخط، بل إنه كان إن وجد بابًا للتأييد لم يتوانَ عنه، وكان أساس شجاعته تخلّقه بأخلاق نبيلة ورفيعة».
كان النجاح الساحق الذي حققه أباظة في أدائه البرلماني بمنزلة أبرز الأسباب في اعتذاره عن عدم قبول منصب الوزارة، وإيثاره التفرّغ لعضوية البرلمان على قبول المشاركة بالعمل التنفيذي والوزاري، ونحن نعرف أن أباظة اكتفى من ممارسة السياسة بالنيابة عن الشعب من خلال الحزب الوطني الذي ظل على الولاء له والوفاء لمبادئه، ورفض الوزارة وغيرها من المناصب.
يُذكر أنه رشّح للوزارة ثلاث مرات، رشّحه محمد محمود باشا ليكون وزيرًا (1938) لكنّه اعتذر، ورشّحه أحمد ماهر للوزارة (1945) واعتذر أيضًا، ثم رشّحه إسماعيل صدقي باشا للوزارة (1946)، لكنّه اعتذر.

آفاق متعددة
على مدى الدورات البرلمانية التي قضاها أباظة عضوًا في البرلمان المصري، فإنه ظل واحدًا من أبرز البرلمانيين القادرين على الممارسة المتميزة للعمل البرلماني، وقد مارس كلّ الأساليب البرلمانية بدرجة عالية من الإجادة والتفوق، وظلّ يقدّم طلبات الإحاطة، والأسئلة، ويستجوب، ويقترح.
وقد شملت مشاركاته آفاقًا متعددة من الشؤون السياسية والاقتصادية والحزبية والدستورية والحربية والعربية والتعليمية والثقافية والزراعية. 
كان أباظة على الدوام حريصًا على أن يطالب بإغلاق أبواب المعتقلات. بل إنه اقترح أن تستحدث لجنة جديدة ضمن لجان مجلس النواب تكون مهمتها تصفية الأحكام العرفية، والدفاع عن الحريات.
وتسجل محاضر جلسات البرلمان المصري على نحو ما درسها ولخّصها وعرضها الأستاذ فاروق أباظة في كتابه: «فكري أباظة باشا... فارس المعارضة» أنه هاجم تشرشل، والمندوب السامي البريطاني في مصر، كما هاجم حاكم السودان العام، ومفتش الجيش المصري الإنجليزي، وهاجم الانحراف الحزبي، ودافع عن استقلال الجامعة المصرية، وطالب المسؤولين بتوفير مواد التموين في أثناء الحرب العالمية، وتبنى مشاكل العمال والفلاحين.
توفي أباظة يوم الأربعاء 14 فبراير سنة 1979 ■

 

فكري أباظة ود. إسماعيل سراج الدين عندما كان طفلاً , فكري أباظة وأم كلثوم