فيلم وَرْد مسموم براعة التّشكيل البصري وبلاغة الحوار

فيلم  وَرْد مسموم براعة التّشكيل البصري وبلاغة الحوار

يظل فيلم ورد مسموم (2018) واحدًا من أكثر الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية في السنوات الأخيرة إثارة للجدل؛ ليس لحصده جوائز دولية عدة؛ أو لأنه الفيلم الروائي الأول لمخرجه، وتسبب في كثير من اللغط، أو لاحتفائه بكثير من مظاهر الفقر والشقاء التي يعانيها المهمّشون في بيئة شعبية متردية؛ لكن من البناء الفيلمي المختلف، وقدر الحفاوة بقيمة الصورة وتوظيفها كعنصر أساس للتعبير عن مختلف المشاهد والأحداث.  فقد تجاوز الفيلم اللغة المنطوقة إلى المرئية، وأصبحت الكاميرا هي المسؤول الأول عن لغة السرد بدلًا من لغة الكلمات، وجاء الاعتماد - بدرجة كبيرة - على الصورة وتأثيراتها البصرية الذي هو من أهم سمات الفن السابع.

 

عمل الفيلم على صنع تكوينات فنية توظف عناصر المكان، وتستفيد من مفرداته المختلفة، التي تكشف عن قدر المخاطر التي يتعرّض لها الإنسان، وبرز انحياز التكوين في الكشف عن مدى ضآلة الجسد الإنساني في تعامله البدائي مع أماكن عمل مرتفعة، والشقاء الذي تعانيه الشخصيات في ظروف صحية غير مناسبة.
ومن ناحية أخرى، فإن هذا التكوين يحقق متعة بصرية مدهشة، ويساهم في إيصال كل الأفكار إلى المشاهد بطريقة أبسط دون لجوء إلى لغة الحوار التقليدية. و«ورد مسموم» المأخوذ عن رواية «ورود سامّة لصقر» للأديب أحمد زغلول الشيطي، هو الفيلم الروائي الأول لمخرجه ومؤلفه أحمد فوزي صالح، الذي قدّم الفكرة ذاتها من قبل في فيلم وثائقي عن المدابغ، بعنوان «جلد حيّ» في عام 2010، واهتم فيه بعمل الصبية في أعمال شاقة لا تناسب أعمارهم، وكشف عن الظروف المعيشية التي يحياها سكان وعمّال المدابغ وسط المواد الكيمياوية التي تهدد حياتهم.
واختار صالح أن يكون بطل الفيلم صبيًّا من العاملين فعليًّا في منطقة المدابغ، حيث قام بتصويره في أثناء العمل، فحوى الفيلم يوميات حقيقية ومشاهد واقعيّة لحياة هؤلاء، فضلًا عن تسجيلات صوتية عن أحلامهم وأمانيهم في الحياة. 
ومنذ تصوير وعرض الفيلم الذي حاز عديدًا من الجوائز الدولية، وعرضته محطات فضائية غربية، وفوزي صالح لم يزل مشغولًا بحياة البسطاء ويومياتهم وبيوتهم الفقيرة، فعاد إلى المكان نفسه ليقدم تجربة فيلمية مغايرة للسائد، هي فيلم «ورد مسموم» الذي حصد أيضًا عديدًا من الجوائز الدولية.

حيادية الرؤية الواقعية 
استطاع «ورد مسموم» أن يقدّم مشروعًا فيلميًا مختلفًا، من حيث اللغة السينمائية وعناصرها التي تم تطويعها لخدمة رؤية سينمائية ترمي إلى الاستفادة من المرئي قدر الإمكان، فاستطاع أن ينقل الصورة كاملة عبر تعميق الحالة السردية وتوظيف بنية الصورة وجعلها لوحات فنية معبّرة تكشف في مشاهد متعاقبة عن قدر ما يعانيه الإنسان في مكان لا يصلح لحياة إنسانية، وهو ما اعتمد عليه صالح في تصويره للبيئة الشعبية وحالة البؤس التي يعانيها الأهالي؛ فاستطاع أن يجعل من هذه البيئة/ المكان محور الأحداث وجعلها مثار اهتمام المشاهد، فجاء الاعتماد عليها كبنية درامية مؤثرة تفرض نفسها على المشاهد في المقام الأول، وتتضافر مع هذا البناء صورة المرأة في الأحياء المهمشة ومدى القهر الذي تعانيه، حتى عندما تخرج إلى فضاء آخر من خلال العمل. 
ولأن الصورة، والتكوين، والتعبير البصري، هي العناصر الأساسية للفيلم، وهم الأبطال الحقيقيون الذين اعتمد عليها صالح في دعم رؤيته، وهي أنسنة الأشياء وجعلها موجودة بقوة، ومعبّرة عن هذا الوجود بطريقة لا يمكن للرائي أن يتجاهلها أو يتجاوزها، وبالتالي فإن الفيلم لم يعتمد على ممثلين معروفين إيمانًا بقيمة المكان ومفرداته الباذخة، التي استطاع المخرج بوعيه الفني وثقته فيما يكتنزه المكان من خصوصية تجعله بطلًا لتجربة فنية فريدة، أن يؤنسنها ويجعلها بطلًا لأغلب المشاهد.
ولذلك نجد أن شخصية الساحر كروان التي جسّدها محمود حميدة، وشخصية الأم التي جسّدتها صفاء الطوخي، كانت مساحتهما محدودة؛ بينما جسّد الممثلان الشابان كوكي مجدي، وإبراهيم النجاري الشخصيتين المحوريتين، وكان الأداء مقنعًا إلى درجة كبيرة.  
وارتكزت الرؤية الفنية على لغة سينمائية جديرة بالتأمل، حيث قامت على بلاغة الصورة وفتنتها وتهميش لغة الحوار واستقطارها من خلال التكثيف الشديد في اللغة المنطوقة، مع إبراز الصورة وسخائها في انسيابية عفوية غير مصنوعة أو مجهزة سلفًا، فجاءت اللغة مشهدية أكثر منها لغوية، وتم توظيف الصورة بواقعيّتها كلوحات فنية معبّرة جعلت اللغة المنطوقة تتراجع وتصبح بلا أهمية كبيرة.
واعتمد الفيلم في ذلك على سيناريو مشهدي معبّر عن الأحداث كافة، مع الاقتصاد في لغة الحوار الشفهي إلى أقصى درجة، والتركيز على القليل من الكلمات، فأصبحت الكاميرا كأداة هي الأبجدية الأولى المعبّرة عن لغة الفيلم، وبالتالي اختفى الخطاب القولي الزاعق الذي تعتمد عليه جلّ أفلام السينما العربية، لأن الموضوع برمّته تنقله الكاميرا لا الحوار، وهو ما أضافه الفيلم إلى ذائقتنا الفنية.
 
التصوير التسجيلي ولغة الكاميرا
تبدو من خلال المشاهد صور الشقاء التي تعيشها الشخصيات، وصور العلاقة مع تفاصيل المكان، وقدر الارتباط بين الأخوين تحية (كوكي مجدي)، وصقر (إبراهيم النجاري)، كما تبدو – من خلال الصورة أيضًا – رداءة المكان؛ البيت، والعمل، والشارع. 
ولذلك لم يبالغ الفيلم في التعبير عن فكرة القهر، سواء للأهالي بشكل عام، أو للمرأة على نحو خاص، لأنّ الكاميرا هي التي تنقل دون إلحاح أو تبرير بلغة الحوار والمبالغة القولية، أو بالأفعال التي تعتمد على حركة الممثلين، وتزيد من حدة التصاعد الدرامي، فالتصوير هنا تسجيلي والكاميرا تنقل صورًا حقيقية عن مشاهد حية لا عن ديكور مصنوع، لذا فإنّ الفيلم يكتسب البعد التسجيلي في تصوير الأماكن والأهالي، من خلال رؤية فيلمية تقترب من السينما التسجيلية. 
تجلى ذلك أيضًا في صور الواقع المرير الذي يعيشه البسطاء المعدمون، المتمثل في رداءة المكان، ورداءة العمل والحواري والأخلاق والطعام وكل مظاهر الحياة، أي رداءة الحياة الإنسانية واستحالتها، حيث تتداخل المنازل السكنية بمدابغ الجلود، وحركة الأهالي بالكلاب الضالة وعربات الكارّو المحملة بركام الجلود وهي تعبر الحواري الضيقة الغارقة بالماء الآسن ونفايات المصانع، في مشاهد تضجّ بالبؤس والفقر والحسرة. 
واستطاع مدير التصوير ماجد نادر أن يمنحنا عديدًا من الصور الطبيعية من زوايا متنوعة، وأن يبيّن في الصور التي أخذها من أسفل لأعلى قدر المعاناة التي يجدها العامل في هذا العمل الشاق الذي يكشف ضآلة الإنسان وعجزه، واعتماده كليًّا على جسده.
وعلى الرغم من كل هذا القهر الذي يعانيه الأهالي، فإن الفيلم يرتكز أيضًا، بشكل خاص، على القهر الذي تعانيه المرأة من خلال شخصية تحية التي تعمل في نظافة المراحيض وتنفق على أسرتها، وترفض أن يتركها أخوها الوحيد الذي يسعى إلى هجرة غير شرعية.
استطاعت الكاميرا أن تنقل نبض الحيّ العشوائي في كل تفاصيله، العربة الكارو التي تنقل الجلود، والطرق الضيقة والمنحدرات وتلوُّث الحي كله بالمياه الراكدة، أحوال العمال الرثّة والشقاء الذي يعيشونه، سواء في أثناء أداء عملهم أو بحياتهم اليومية، وكذلك عند تناولهم للطعام وعدم اكتراثهم من وجود الكلاب الضالة معهم في كل وقت، حتى في أثناء تناول الطعام.  وحتى في الثقافة ودرجة الوعي التي يكشفها لجوء تحية إلى الساحر كروان لإيجاد حلّ يمنع صقر من الهجرة، فتنثر أوراق الورد في الماء الآسن، وهي صورة رمزية تحيل إلى حياة الإنسان في مثل هذا المكان، فهي حياة تشبه تمامًا وجود الورد في مياه قذرة.
كما استطاع المخرج أن يعبّر عن حالة تحية وتحوّلاتها النفسية، من خلال تعبيرات الوجه ومن دون افتعال، كلما أدركت ابتعاد صقر عنها، أو انشغاله بفكرة السفر والهجرة، بينما تبدو طوال الوقت في حالة انشغال دائم نتيجة سرّ ما، لم تفصح عنه لغة الحوار، وإن عبّرت الصورة عن ذلك بطريقة غير مباشرة. 
 
الصورة أساس التعبير السينمائي
استطاعت الصورة أيضًا، وهي العنصر الأكثر تأثيرًا على (المشاهد) وأساس التعبير السينمائي أن تعبّر عن طبيعة الحياة في منطقة تعاني الفقر والجهل والمرض بسبب مشاكل بيئية واجتماعية، وتعتبر أكثر قسوة من مثيلتها في أمكنة أخرى، واستطاعت الكاميرا أن تنقل صراع الإنسان مع سبل الحياة، وطرفًا محدودًا من كُنه العلاقة بين الشخصيتين المحوريتين تحية وصقر، من دون اللجوء إلى اللغة المحكية التي تكون هي الوسيط في كل الأفلام الروائية الطويلة، لذلك لا نجد في الفيلم انفعالات للشخصيات، أو افتعالًا للتعبير عن الحدث أو السياق الدرامي؛ إنما حملت الصورة كثيرًا من هذه الانفعالات من خلال التعبير البصري عن صعوبة العمل وشكل الشوارع وعمل تحية في المراحيض واهتمامها بأخيها... إلخ.  وباستثناء مرة واحدة انفعلت فيها تحية بسبب لجوء الأم (صفاء الطوخي) إلى الاقتراض من الجيران من أجل سفر ابنها، لم نر انفعالًا لأيّ من الشخصيات الأخرى، حتى حينما اختفى صقر فجأة وهرب من أخته في مدينة الملاهي، لم تبدِ انفعالًا قوليًّا، واكتفت الصورة بالتعبير عن حالتها ووجودها وحيدة وخائفة بين الناس.
 
المهمشون... والسينما العربية
ويبدو واضحًا اهتمام السينما العربية في الآونة الأخيرة بالمناطق المهمشة والأكثر فقرًا في المجتمعات العربية بتسليط الضوء عليها وعلى تفاصيل حياتها اليومية، من خلال الاعتماد على الرؤية البصرية كتشكيل فنّي بِكر يعتمد على نقل الصور الواقعية الحية لهذه المناطق.
فإلى جانب «ورد مسموم» الذي تم تنفيذه من دون توظيف للديكور السينمائي؛ وتناول حياة القاع الاجتماعي في منطقة المدابغ بالقاهرة، من خلال شخصية تحية عاملة النظافة التي تعيش مع شقيقها صقر العامل الفقير في المدابغ، وتهتم بكل شؤونه وتفاصيله الصغيرة، لكنّه يقرر الخروج من الحي الفقير والهجرة بطريقة غير شرعية؛ مما يجعلها تبذل قصارى جهدها لمنعه من السفر والبقاء بجانبها، هناك أيضًا فيلم يوم الدين (2018) من إخراج أبوبكر شوقي، الذي كتب أيضًا السيناريو والحوار، ويروي قصة بشاي الذي عاش حياة القاع الاجتماعي في مستعمرة للمصابين بالجذام، ثم يقرر أن يغادرها بعد وفاة زوجته، فينطلق إلى أنحاء مصر برفقة صديقه بحثًا عن عائلته في صعيد مصر، فيتكشف عديد من المفارقات خلال رحلة بشاي واختلاطه بالواقع وبالناس. وتم ترشيح الفيلم للمنافسة على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2018.
وهناك الفيلم اللبناني كفر ناحوم (2018) للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، ويتناول قصة زين؛ الطفل الصغير الذي يشكو والديه في المحكمة، بسبب إصرارهما على زواج أخته الصغيرة وموتها، وبسبب حياة الشقاء والبؤس التي يحياها، وحفل بكثير من صور التشرد التي يعانيها الأطفال في مجتمع القاع الاجتماعي، وما يمكن أن يصادفهم في حياتهم نتيجة لغياب الوعي والثقافة لدى الوالدين، والفيلم تم اختياره للمنافسة على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2018، وتم ترشيحه لنيل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي لعام 2019.
اعتمدت الأفلام الثلاثة على ممثلين جدد، مثل كوكي مجدي، وإبراهيم النجاري في فيلم ورد مسموم، وعلى ممثلين غير محترفين، مثل راضي جمال الذي جسّد شخصية بشاي في فيلم يوم الدين، وزين الرفاعي الذي أدى دور الطفل زين في فيلم كفر ناحوم. فقد أصبحت بعض الأفلام تهتم أكثر بالمهمشين وحياتهم اليومية من خلال لغة الصورة.
حصد «ورد مسموم» أخيرًا الجائزة الكبرى لأفضل فيلم من المهرجان الدولي للسينما والأدب بمدينة أسفي المغربية في أكتوبر الماضي، وهي الجائزة رقم 17 التي حصل عليها منذ عرضه العالمي الأول قبل عامين في مهرجان روتردام السينمائي الدولي، وحصد أيضًا جائزة أفضل فيلم من مهرجان المدينة والسينما بمدينة الدار البيضاء في سبتمبر الماضي، وهما آخر جائزتين أحرزهما الفيلم الذي رشحته في سبتمبر الماضي أيضًا نقابة السينمائيين لتمثيل مصر ضمن الأفلام المشاركة في تصفيات الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، التي ستتنافس على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي هذا العام.
كما حصد الفيلم عديدًا من الجوائز الدولية الأخرى، منها جائزة أفضل فيلم في مهرجان السينما الإفريقية بإسبانيا، وثلاث جوائز في الدورة الـ 40 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، هي: أحسن فيلم عربي، وجائزة صندوق الأمم المتحدة للشباب، وجائزة صلاح أبو سيف (جائزة لجنة التحكيم الخاصة)، ولاقى الفيلم متابعة جيدة في أثناء مشاركته بالمسابقة الرسمية لمهرجان روتردام السينمائي الدولي بهولندا، ومهرجان كولونيا للفيلم الإفريقي بألمانيا، ومسابقة المخرجين الجدد بمهرجان ساو باولو.
أما الفيلم الوثائقي «جلد حيّ» فقد نال جائزة أفضل عمل أول من مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط بالمغرب (2010)، وتنويه لجنة التحكيم في مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي (2010)، وجائزة رضوان الكاشف من مهرجان الأقصر للسينما ■