الكسَل بين العِلم والعُرف الاجتماعي

الكسَل بين العِلم والعُرف الاجتماعي

 في ضوء دراسات حديثة، لم يعُد من المقبول أن نرمي الآخرين - أو حتى أنفسنا - بتهمة الكسل المتعمد، من دون معرفة عميقة بأسبابه الخفية.
فقد أثبتت دراسة أجريت في الصين أنّ من بين أسباب الكسل تحوّلًا جينيًا يؤثر في نظام الدوبامين (وهي مادة كيميائية، وناقل عصبي يمنح شعورًا طيبًا عند ممارسة النشاط)، مما يؤدي إلى تراجع النشاط البدني، فقد تبيّن أن الفئران قليلة النشاط بسبب الإصابة بهذا الجين المتحول - المسمى بجين «بطاطس الأريكة» - لديها أعداد متدنية من مستقبلات الدوبامين على سطح خلاليا الدماغ.

 

عندما عولجت تلك الفئران بعقاقير أصبحت أكثر نشاطًا وفقدت بعضًا من وزنها الزائد. وذكر قائد الفريق البحثي بأكاديمية الصين للعلوم، البروفيسور وي لي، أن الفأر الكسول لا يمشي سوى ثلث ما يمشيه الفأر العادي، وعندما يتحرّك تكون حركته بطيئة، وظهرت عليه أعراض أخرى شبيهة بأعراض مشكلات الأيض لدى الإنسان، كالإصابة بالسكّري والسّمنة. كما خلصت تجارب جينية أخرى أجريت على أجيال متعددة من الفئران، إلى أننا يمكن أن نرث جينات أسلافنا الكسولة أو المسوّفة، مثلما نرث جيناتهم النشيطة المنجزة أو تلك المفرطة في النشاط.

لا وجود للكسل
تقول أستاذة علم النفس الاجتماعي بجامعة لويولا شيكاغو، ديفون برايـــس، إنها قابلــت طلابًا من جميع الأعمــــار يسوّفون ويفشـــلـــون في أداء واجباتهم، ويتغيبـــون عن دروسهم، وطلابًا متفوقين ومرشّحين للدكتوراه لا يستطيعون تسليم أوراقهم البحثية وأطروحاتهم في الموعد المحدد، وبدلاً من اتهامهم بالكسل، تجد أنه من الأفضل البحث عن العوامل الملموسة وغير الملموسة التي أعاقتهم ومنعتهم من أداء واجباتهم كما ينبغي، والتفكير في كيفية مساعدتهم.
وترى أنه لا وجود للكسل، وكلّ ما في الأمر، جملة عوائق تساعد على الفشل وتشجع التسويف، كأن يكون المسوّف مشغولًا بشيء آخر، أهمّ وأكثر متعة بالنسبة له، أو يكون غير قادر على استيعاب تعقيد المهمة المطلوب إنجازها، أو لأنه لا يعرف كيف يبدأ.
ولكن غالبًا ما ينجح المسوّف في إنجاز المهمة بعد سلسلة من التأجيلات والشعور بالذّنب والتوتر وفقدان القدرة على العمل. كما أن كثيرين ممن اتُّهموا بالكسل، نظرًا لعدم مشاركتهم في قاعات الدرس أو تدنّي تقديراتهم في الامتحانات، اتّضحت إصابتهم بأمراض عضوية ونفسية لا يعرف عنها أحد، تجعلهم لا يستطيعون النهوض مبكرًا، ولا يطيقون الاستمرار في المذاكرة فترات طويلة، ومن هذه الأمراض المعيقة للنشاط، بعض اضطرابات الغدة الدرقية.
 
كسل الشتاء
حتى ما يُعرف بكسل الشتاء - عندما نظل في أماكننا ولا نمتلك شجاعة رفع الغطاء الدافئ، والنهوض لعمل ما علينا من واجبات - له أسبابه، كما يرى المتخصصون، ومن بينها، تغيّر المزاج لغياب الشمس، وتأثر الساعة الباطنية، وتغيّر مستويات السيروتونين في الدماغ، مما يؤدي إلى قصور في الطاقة وفقدان الرغبة في القيام بأي أنشطة.   
ومن ناحية أخرى، يؤكد الطبيب النفسي البريطاني نيل بورتون، أن كثيرًا من الناس لا يبذلون جهدًا، ليس لأنهم كُسالى، لكن لأنهم لم يتمكنوا من فعل ما يودّون، أو لأن أعمالهم لا تمنحهم ما يكفي من الرضا والتحفيز، فلا يجدون مبررًا للتعب. 
وإلى جانب فقدان الأمل، قد يعاني البعض مخاوف النجاح أو قصورًا في تقدير الذات، بحيث لا يشعرون بالراحة مع النجاح. وهناك أشخاص لم ينجحوا، لأنهم لم يحاولوا. 

مفهوم الكسل
كان الهدف من استحداث ألفريد بينت وزملائه مقياسَ الذكاء في بدايات القرن العشرين قياس مشكلات التفكير لدى الطلاب من ذوي الأداء الأكاديمي المنخفض من أجل مساعدتهم. أما في حالة عدم وجود ما يمكن قياسه، مما يفسر ضَعف الأداء، فيعتبر الطالب كسولًا.
وهكذا، تم الفصل بين الطلاب الذين لا يبذلون جهدًا وهؤلاء الذي لا تمكّنهم قدراتهم أصلًا من الأداء الجيد.
وبقدر ما فاز متواضعو القدرات بتعاطف المعلمين، نال المتقاعسون عن أداء واجباتهم السخط، وهكذا هي الحال عند مقارنة الواقفين في صفوف البطالة، حيث هناك فئة لا تستطيع العمل، لأنها غير مؤهلة أو تعاني مشكلات ما، وأخرى لا تبحث عن عمل بجديّة، أو لا ترغب في العمل، حتى أن أصواتًا تعالت بالمطالبة بوقف إعانات البطــالة ومنعهـــا عـــن «الكسالى». 
وقد أشارت ورقة بحثيّة لتومس ماديسون حول مفهوم الكسل، إلى نموذج يوضّح العوامل المؤلفة لتعريف الكسل عمومًا، وهو عبارة عن مثلث متساوي الأضلاع، في أحد زاويتي قاعدته: القدرات والمتطلبات، وصعوبة المهمة، وفي الزاوية الأخرى: الدافعية وبذل الجهد، وفي زاوية القمة: الأداء.
وهكذا يكون الشخصُ الذي يمتلك ما يكفي من القدرات والمتطلبات الأخرى لإنجاز المهمة المكلّف بها، ورغم ذلك لا يقوم بها مطلقًا، أو لا يقوم بها كما هو متوقع منه - لأنه لا يريد إزعاج نفسه - كسولًا في المفهوم العام. ومن الطريف، اقتراح إسناد المهمات الصعبة لكسول، لأنه يعرف كيف يقوم بها بأقلّ جهد ممكن! 

حكاية الكسول 
يوضح ماديسون - في الورقة نفسها - مفهوم الكسل في ضوء بنائية جيروم برونر الاجتماعية الثقافية، وعلم النفس الشعبي الذي يعدّ أداة قوية موجودة في كل ثقافة، وتتضمن مدى واسعًا من التوصيف المعياري للمفاهيم. وعادة ما يوجد التوصيف في الحكايات المتضمنة لموقف أخلاقي ما، والمتوقع من الأفراد من تصرفات في السياقات المختلفة. 
وبناء على ذلك، يقوم علم النفسي الشعبي الذي يقدّمه برونر على مدخل بنائي اجتماعي لإنتاج معرفة ومعنى وفهم جَمعي، وفحص الافتراضات النفسية الشعبية التي تقبع تحت مفهوم مثل الكسل. وهكذا تتشكّل المعتقدات الأساسية التي تمثّل «العُرف». وعندما تنتهك هذه المعتقدات، تلعب الحكايات دورًا في شرح أسباب الانتهاك ودواعيه، في محاولة للتوجيه الاجتماعي غير المباشر. 
وعادة ما تتكون الحكاية من أحداث منظمة بشكل متسلسل، وشخص فاعل يعمل على تحقيق هدف ما، وعنصر مفهوم كعُرف، أو أمر متوقع في ثقافة معيّنة. وأمر ينتهك العرف. ومنظور الحاكي - على اعتبار أنه لا حكاية من دون صوت.
فإن تعلّقت الحكاية بمفهوم كمفهوم الكسل، كمثال، تقدّم حكاية مثل حكاية «الطالب الكسول» التي يمكن أن نجد فيها جملاً مثل «سلّم الطالب ورقة المدرسة متأخرًا جدًا، لأنه كسول»، فيكون الحدث من جانب الشخص (الطالب) الذي يتصرف من أجل تحقيق هدف معيّن (تقديم ورقة المدرسة)، والمعتقد الأساسي، أو المتوقع (تقديم الورقة في الوقت المحدد)، والأمر المنتهك (الموعد المحدد)، ليكون المفهوم في الثقافة أنه، على سبيل المثال، (يمكن للكسل أن يجعل الطلاب يؤخّرون تسليم أوراقهم). وسبب التأخير في تسليمها أنهم كسالى.
 
الهروب من الكسل
إذا ساد عرف أو توصيف للكسل في مجتمع ما أو بين مجموعة من الناس، فإن الأشخاص، بحكم تأثّرهم بمجتمعهم أو أعضاء مجموعتهم، يسعون جاهدين لاتباع استراتيجيات تبعدهم عمّا هو غير مرغوب. فإذا لم يستيقظ شخص مبكرًا، كمثال، يلوم نفسه ويتهم نفسه بالكسل، ويحاول تعديل سلوكه كي ينأى بنفسه عن الكسل الذي تعتبره الأديان خطيئــــة وذنبًا. وهكذا يكافح معظم الناس كل يوم هروبًا من تهمة الكسل، ويتضرعون لله عزّ وجلّ كي يبعده عنهم.
نعرف جميعًا أننا معرّضون للشعور بالكسل والتسويف في أي وقت، وفي أي مكان، ولكل شخص منّا مناطق كسله الخاصة التي يعرفها ويتمنى التخلص منها يومًا ما. وغالبًا ما تكمن المشكلة في عدم القدرة على التغلب على الكسل وخروجه عن السيطرة، ليصبح الشخص عاجزًا عن تنظيم نفسه وإدارتها بصورة إيجابية. 
بينما لا يمنع التسليم بكون الكسل موروثًا لدينا ولا حيلة لنـــا بـــــه، من محاولــــة التغلّب عليه. وتلقّي المساندة من المقربين ومن البيئة المحيطة، ومواصلة المران على طرق تجعلنا مجتهدين رغم جينات الكسل، كأن نضع لأنفسنا نظام مكافأة وتحفيز، وربما فلسفة خاصة ونحفظ بعض الأمثال الشعبية المؤثرة، ونستشعر فرحة الإنجاز كلما نجحنا في تحقيق هدف حتى نعيد برمجة أدمغتنا ونشعر بمتعة وانتصار التغلب على الكسل وعيش الحياة كما نتمنى ■