قراءة في كتاب «في لغة أهل اليمن»

قراءة في كتاب «في لغة أهل اليمن»

تعتبر الحضارة اليمنية القديمة من أعظم الحضارات الإنسانية التي نشأت خلال العصور القديمة، وقد تميّزت هذه الحضارة بعديد من الخصائص التي جعلتها من أكثر حضارات العالم القديم تطورًا وازدهارًا، وقد ذكرت هذه الحضارة في كتب التاريخ، والكتب المقدسة، وعلى أفواه القصاصين، وهو ذكر اختلطت فيه الحقيقة بالأسطورة، وقد ألّفت العديد من الكتب التي تناولت بالشرح والتحليل والدراسة عددًا من الجوانب المتعلقة بهذه الحضارة.

 

الكتاب الذي بين أيدينا هو «في لغة أهل اليمن» الطبعة الثانية، لمؤلفه اليماني المؤرخ الأديب اللغوي عباد بن علي الهيال، يتناول ما يتعلق بلغة أهل اليمن، كما يتضح من عنوانه، ويقع الكتاب في 412 صفحة من القطع المتوسط، وقد صدرت الطبعة الأولى منه عام 2016م، ويعتبر مرجعًا لُغويًا وتاريخيًا لا غنى عنه، ويمثّل إضافة مهمة للمكتبة اللغوية والتاريخية اليمنية والعربية والإسلامية، ومرجعًا للمهتمين بالتاريخ والحضارة اليمنية القديمة، وتتمثّل أهمية الكتاب أيضًا في كثرة المصادر التي استند المؤلف إليها في كتابه، وإضافة إلى كل ذلك اعتناء المؤلف واهتمامه باستخدام الجداول التوضيحية والنماذج والصور التي تضمّنها الكتاب.
وللمؤَلِّفِ إلى جانب هذا المؤَلَّف مؤلَّفان آخران هما «من نقوش المسند في خولان» صدرت الطبعة الثانية منه في صنعاء عام 2017م، وهو يحوي نقوشًا مسندية جديدة اكتشفها المؤلف ودرسها، و«اليمن واليمانون في شمس العلوم» صدرت الطبعة الأولى منه في صنعاء عام 2016م، وهو جمع ودراسة للمادة اليمانية في معجم «شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم» للعلّامة اليماني نشوان بن سعيد الحميري (ت: 537 هـ)، وقد قسمه الهيال إلى أقسام للأعلام، والمواضع، والنبات والثياب والحيوان، وصدر كل قسم بدراسة نقدية.

اللغة اليمنية القديمة
«في لغة أهل اليمن» يتناول واحدًا من أهم المواضيع المرتبطة بالحضارة اليمنية القديمة، وهو موضوع اللغة اليمنية القديمة من حيث نشأتها، وتطورها، والمراحل التي مرّت بها هذه اللغة حتى صارت واحدة من أهم لغات العالم القديم، أو ما بات يُعرف لاحقًا باللغات السامية، هذا إن لم تكن أصلًا لها، فقد تفرعت عن اللغة اليمنية القديمة العديد من اللغات، ومثّلت النواة التي نمت عليها اللغة العربية الفصحى وترعرعت، خلافًا لما زعمه بعض المستشرقين ومن سار على قولهم من المفكرين العرب وغيرهم بأن اللغة اليمنية القديمة تختلف عن «العربية» الفصحى، حيث يفنّد الكتاب هذه المزاعم بأسلوب علمي رصين ونقاش هادئ، يأخذ بيد القارئ إلى الحقيقة التي لا تقبل الشكّ، وهي حقيقة أن اللغة اليمنية القديمة عربية المولد والنشأة، وإليها تنتسب العربية الفصحى، مستعرضًا من أجل الوصول إلى ذلك العديد من الآراء والنظريات لعلماء وباحثين عربًا ومستشرقين ويمنيين في لغة أهل اليمن؛ والتعليق عليها بما يناسبها، إلى جانب استنطاق الشواهد والنقوش المسندية التي نقشت على الصخر، أو التي زبرت على عسب النخل وأعواد الشجر لمعرفة قواعدها والتعليق عليها بما يقابلها في بعض اللغات السامية الباقية إلى اليوم، ولمزيد من تأكيد الفكرة الرئيسة للكتاب، فقد تناول بالتحليل ثلاثًا من اللغات أو اللهجات اليمنية القديمة الباقية في أماكن قصيّة من اليمن، وهي الشحر ومهرة وسوقطرة، وأصَّل لهذه اللغات من العربية الفصحى واللغات العروبية السامية، أو مما بقي على ألسن اليمنيين.  

  أسباب تأليف الكتاب
وفي مقدمة كتابه بين الهيال الأسباب التي دفعته إلى تأليف الكتاب، لعل أهمها إعادة الاعتبار للغة اليمنية القديمة، وتقديرها حقّ قدرها من حيث قيمتها اللغوية والتاريخية، وكذلك وجود الكثير من المفردات في النقوش المسندية التي يمكن من خلال فهم معانيها ودلالاتها أن تساعد على فهم معاني ودلالات بعض المفردات القرآنية، وإزالة اللّبْس الذي تولّد لدى بعض المفسّرين والإخباريين في فهم بعض الألفاظ العربية ودلالاتها ومعانيها لبُعد الشُّقّة بين العرب وكثير من المفردات العربية الأصيلة الموجودة في اللغة اليمنية القديمة، فقد بيّن المؤلف الأهمية التي تمثّلها قراءة اللغة اليمنية القديمة والفائدة منها بقوله: «وتفيد لغة أهل اليمن في تتبُّع تاريخ الكَلِم في العربية، فالنقوش اليمانية من أقدم مصادر العربية المكتوبة وأكثرها وثوقًا، وتفيد هذه اللغة في تحديد دلالة الكلمة على وجه الدِّقّة كما في كلمة «مصانع» في قوله تعالى «وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون»، فقد تعددت فيها أقوال المفسّرين، ومعناها عند أهل اليمن المكان المحصن في رأس جبل، ومفردها «مَصنَعة»، ومنها اسم صنعاء المدينة، أي الحصينة كلها، من أصل الكلمة «ص ن ع».
وقد دلّل على ذلك من خلال إيراد بعض المفردات التي تؤكد ما ذهب إليه، ومن هذه المفردات: كلمة «العرم» التي وردت في قوله تعالى «فَأَرْسَلْنا عَليهِم سَيْلَ العَرِم»، وقد علّق المؤلف على تفسيرها بقوله: «والحق أن (العَرِم) المراد في الآية الشريفة معناه السّد، وهو المعنى نفسه لـ «العَرِم»، كما لا يزال على ألسنة أهل اليمن إلى اليوم، فالعَرِم - عندنا - هو السدّ أو الحاجز الترابي، وهذه الكلمة، بمعناها هذا، قديمة قِدَم السدود في اليمن وأشهرها «سد مأرب»، ففي النقوش اليمنية القديمة المزبورة على الصخر أو كما تعرف بنقوش «الـمُسْنـَد» وردت الـ «ع ر م» (عرم) في النقوش التي تحدثت عن إصلاح سد مأرب، إما باسم عَرِم مأرب وإما معرفة «العَرِم» (ع ر م ن) (عرمن) (والنون آخر الكلمة علامة التعريف)، منها النقش الذي أمر بتدوينه الملك شرحبئيل يُعْفِر بن أب كرب أسعد (وهذا الأخير هو المعروف عند الإخباريين والعامة باسم أسعد الكامل)، ومنها النقش الذي أمر بزَبره أبرهة الحبشي ملك اليمن الغازي، وغيرهما من النقوش.
و«العَرِم» بمعنى السدّ جاءت في كتب اللغة عند ذكرها للآية الكريمة كما في القاموس المحيط وغيره، ولا تقتصر الفائدة على الكلمات وحسب، بل الأساليب والصيغ، كما في بعض صيغ جموع التكسير والمصادر، فقد قالوا إن صيغة الجمع «أَفْعُول» - بفتح الهمز - حبشية، وهذه الصيغة يمانية معروفة حتى اليوم، وفي جهات الشحر ومهرة وسقطرى أصوات لم تعد مسموعة لدى سائر العرب – في ما نعلم – وهي تتفق كثيرًا مع وصف لغويي «العربية» القدامى لمخارج بعض الأصوات كمخرجَي الضاد والشين.


أسس علمية وموضوعية 
وعلى عكس ما قيل بأن اللغة اليمنية القديمة وكتابتها ليست عربية يأتي كتاب «في لغة أهل اليمن» ردًا وتفنيدًا لهذه الأقاويل، حيث اعتمد مؤلف هذا الكتاب المؤرخ اللغوي عباد الهيال على أسس علمية وموضوعية في تناوله لهذا المجال البحثي المهم والشائك، وما يتعلّق به من الجوانب المتعددة والمعقدة، مؤكدًا على ذلك من خلال الدراسات والأبحاث حول المصادر اللغوية القديمة للغة اليمنية القديمة التي كانت بمنزلة الأساس الذي اعتمد عليه علماء الآثار واللغة والتفسير، حيث فرضت بعض ألفاظ الفصحى والقرآن الكريم ذاتها على هؤلاء المفسرين واللغويين في معرفة معانيها من مواطن متعددة، وبعضها لم يجد لها المفسرون جوابًا أو معنى إلا في لغة أهل اليمن.
 
آراء ونظريات
يحتوي الكتاب على قسمين؛ يقع القسم الأول تحت عنوان «نصوص وتعليقات»، أسهب فيه المؤلف في النقل عن العلماء والباحثين اليمنيين والعرب والمستشرقين الذين كتبوا في «لغة أهل اليمن»، وقد ناقش المؤلف الأسباب التي جعلت البعض منهم يقول بعدم عربية اللغة اليمنية القديمة، وعلّق على هذه الأقوال بما يناسبها، بموضوعية وحيادية وبأسلوب علمي مبسّط، بعيدًا عن التعقيد والجدل العقيم، مستندًا إلى الدليل والحجة والبرهان في إثبات صحة ما توصّل إليه من الحقائق التي ضمنها مؤلَّفَه هذا، ليتيح المجال أمام الباحثين والمؤرخين والمهتمين باللغة اليمنية القديمة وحرفها المسندي للسّير قُدمًا في مواصلة استخراج كنوز هذه اللغة ونفائسها بعيدًا عن الإشكالية التي خلقتها تلك المقولات المشككة في أصالتها وعروبيتها، وكونها المهد الأول للغة الضاد.  
أما القسم الثاني من الكتاب، فقد جاء تحت عنوان: «اللغات العروبية السامية» وقد استعرض المؤلف في بداية هذا القسم اللغات السامية (العربية، الآرامية، الأوغاريتية، السريانية، الفينيقية، العبرية، الآكادية)، وبيّن سبب تسميتها باللغات السامية، كما أورد الخصائص المشتركة بين هذه اللغات من حيث أصل الكلمة واشتراكها في زمان الفعل (ماض – مستقبل)، واشتراكها أيضًا في أصول المفردات، والأعداد، وحروف الجر، وأسماء أعضاء الجسم، والضمائر،.... إلخ. 

كتابة أهل اليمن
تحت هذا العنوان ناقش المؤلف أصل الكتابة المسندية، وقسمها إلى نوعين هما: 
- الكتابة المسندية: وهي نقوش على مساند من صخر أو نحاس (برونز) تميزت حروفها بالحُسن والتناسق والإتقان، وتحوي أمورًا متعددة مثل: تقديم النذور للمعابد (وهي أكثرها)، وتشييد منشآت الري كالقنوات والسدود، وأخبار الحملات العسكرية والغزو، وأسلوبها يكاد يكون واحدًا، فهو أسلوب (تقرير رسمي يتحدث بضمير الغائب، وبلغة إيجاز شديد).
- كتابة الزبور: وهي نقوش على أعواد من الخشب مثل جريد النخل (عسيب) ونحوه، وهذه الكتابة أو «خط الزبور» ذكرت في كتب التاريخ وفي أشعار الشعراء القدامى، وموضوعاتها هي موضوعات الحياة العامة، فبها كتبت الرسائل ووثّقت العقود والمعاملات، وأسلوبها على شكل رسائل تبدأ باسم المرسَل إليه ثم المرسِل، ويتلو ذلك التحية والدعاء، ثم ذكر الغرض من الرسالة كالإخبار أو الطلب أو التوجيه..... إلخ.
كما ناقش المؤلف أيضًا علاقة المسند في اللغة اليمنية القديمة مع غيره من الكتابات في اللغات السامية الأخرى في شمال الجزيرة العربية وغيرها، والآراء التي قيلت في ذلك، موضحًا أن «ما اكتشف من نقوش المسند حتى الآن يُرجعه الباحثون إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد أو ما قبل هذا التاريخ، مع أن البحث في اليمن ليس على أساس منهجي منظم ولا يشمل كل الأرض اليمانية»، مما يؤكد قِدَم الكتابة المسندية وعدم تأثّر اللغة اليمنية القديمة باللغات الأخرى، بل على العكس من ذلك، مستعرضًا الآراء المختلفة لكثير من اللغويين والمختصين في اللغة والتاريخ من العرب والأجانب حول هذه القضية، مع إيراد نماذج لخط المسند وغيره من الخطوط، وعقد مقارنة بين هذه الخطوط تشير إلى أصلها في الكتابة المسندية.

ثلاث لغات/ لهجات
تحت هذا العنوان، عقد المؤلف مقارنة بين اللغة اليمنية القديمة وثلاث لهجات من اللهجات القديمة التي كانت دارجة في بعض المناطق باليمن وهي السقطرية، والشحرية، والمهرية، وبقية العاميات اليمنية الأخرى، وسرد الخصائص المشتركة والمتشابهة بين هذه اللغات وبين اللغة اليمنية القديمة، بداية من تشابه عدد الأحرف، مرورًا بالحركات الإعرابية والتشابه في الألفاظ واستعمالات المعاني والألفاظ.

نماذج من النقوش 
لعل من نافلة القول أن معرفة قواعد اللغة، وظواهرها اللغوية والصرفية لا تكفي لتقديم صورة واضحة لها ما لم تقترن بنصوص مكتوبة بها، ولأجل ذلك قدّم المؤلف نماذج من قواعد النقوش اليمنية القديمة بأنواعها المختلفة النذرية، والإنشائية، والحربية، إلى جانب نقشين من الزبور ونصوص من المهرية، والشحرية، والسقطرية، وعلّق على كل واحد من هذه النقوش تعليقًا مختصرًا، مستفيدًا من خبرته الطويلة في قراءة ودراسة النقوش.

ألفاظ متشابهة
كما استعرض المؤلف العلاقة بين لغة النقوش اليمنية والقرآن الكريم، ودلل على أن الكثير من ألفاظ القرآن الكريم موجودة في اللغة اليمنية القديمة، الأمر الذي ساعد المفسرين على تفسيرها ومعرفة معانيها، مثل كلمة «الرحمن»: رحمنن، وكلمة «خليفة»: خلفة، وكلمة «مسجد»: مسجد، وكلمة «تفث»: تفث، وغيرها من الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم، ولها ما يشبهها في النقوش المسندية. 
ولعل أهم ما يميز هذا القسم من الدراسة هو الجدول الذي تضمن الألفاظ المشتركة بين العربية الفصحى واللغات / اللهجات اليمنية القديمة في الشحر ومهرة وسقطرى، مع المقارنة بين الجَذر اللفظي للغة النقوش اليمنية، والذي ما زال منها منطوقًا إلى اليوم، مع معانيها ودلالاتها في نفس اللغة وما يقابلها من ألفاظ ومعانِ وردت في العربية الفصحى المتطورة.

معجمات
وتحت هذا العنوان قدّم المؤلف الهيال قراءتين في معجمين من أهم المعاجم التي تناولت لغة النقوش اليمنية القديمة هما: «المعجم السبئي» الذي وضعه محمود الغول ومعه ألفرد بيستون وغيرهما، و«المعجم اليمني» الذي صنعه المؤرخ والشاعر اليماني مطهر الإرياني، واستعرض الهيال المادة اللغوية التي تضمّنها هذان المعجمان من حيث البناء اللغوي واستعمالات المعاني والألفاظ فيها وأوزانها، وتأصيلها في الفصحى. 
أما معجم «شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم» لنشوان الحميري، فقد نال نصيبه وختم به الهيال قراءته في المعاجم، وقد درس المؤلف «لغة أهل اليمن» في معجم شمس العلوم، وأضاف أقسامًا هي: بين العامي والفصيح، بين الفصحى والمسند وفي بعض الصيغ، وقد سبقت الإشارة إلى أن المؤلف قد خصص كتابًا جمع فيه المادة اليمانية في معجم شمس العلوم لنشوان الحميري ■