«الإبقاء عليها»

«الإبقاء عليها»

يعتبر الكتاب «الإبقاء عليها»، لمؤلفه بول فولكر رئيس مجلس إدارة مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأمريكي) الأسبق، خميرة لكل معتقدات هذا الاقتصادي المرموق الذي تولى مسؤوليات حكومية ومصرفية رفيعة خلال عمره المهني بالولايات المتحدة. يظل فولكر إحدى الشخصيات المتميزة في الحياة الاقتصادية الأمريكية المعاصرة. ولد في عام 1927 ودرس في جامعة برنستون وتخرّج فيها عام 1949، ثم التحق ببرنامج دراسات عليا في جامعة هارفارد حتى 1951، وشارك في أعمال دراسات اقتصادية بجامعــة لندن للاقتصاد خلال الفترة من 1951 إلى 1952.

 

 بعد ذلك التحق فولكر بـ «الاحتياطي الفدرالي» في نيويورك بمنصب محلل اقتصادي، وشهدت هذه الفترة من حياته تطورات ثقافية مهمة عمّقت من فهمه للمسائل الاقتصادية، وضرورة العمل من أجل اعتماد سياسات مالية ونقدية تضمن الحد من التضخم المالي، وترشيد عمليات التمويل بما يحمي النظام من مخاطر إفلاس المؤسسات والأفراد، وتحمل النظام أعباء غير مبررة.
نشأ فولكر في عائلة من أصول ألمانية، وكانت تتسم بحب العلم والمعرفة، وتتمتع بحسن الإدارة. 
على سبيل المــــثال، يذكر فــــي بداية الكــــتاب أن والده علّمه أن «الحكومة تعتبر علمًا، وأن الناس تقول إنه يتعيـــــن على الشخـــــص الذي يدير الحكومة أن يكون مؤهلًا في علم الحكومة».
كان أبوه يعمل في أواخر أربعينيات القرن العشرين مديرًا لإحدى المدن الصغيرة في ولاية نيوجرسي.
وقد عمل على تدريب مَن سيحّل في موقعه مدة سنتين قبل أن يتقاعد. كان ذلك الأب، كما يذكر فولكر، مهتمًا بعمق بالتأكد من أن الأمور تسير كما هو مطلوب وواجب.
كان الأب مهندسًا. لابد أن هذا التكوين العائلي قد شكّل شخصية فولكر ومسيرة حياته الدراسية ثم المهنية، ومكّنه من التميّز في إدارة المؤسسات التي عمل فيها وارتقى إلى مواقع رفيعة. غنيّ عن البيان أن الحياة الثقافية في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة اتّسمت بتحولات مهمة وزخرت الجامعات المرموقة بعدد مهم من العلماء والأساتذة في العلوم الاقتصادية والإدارية، بما مكّن الدارسين من تطوير ثقافاتهم وتحصيل العلم والمعرفة وتعزيز قدراتهم المهنية في مجالات وأنشطة متنوعة.

أفكار متناقضة
يصف فولكر اهتمامه بالتحصيل العلمي منذ أن انتسب إلى المدرسة، ثم بعد أن التحق بجامعة برتستون. يبدو أنه كان يخشى ألا يحصل على درجات متميزة ولا يستطيع منافسة الطلاب الآخرين، ولذلك فقد ظل يبذل مجهودًا من أجل بلوغ التميز.
لا شك في أن هذه الحال تحفّز أصحابها على الاجتهاد والتركيز على الدراسة بشكل غير اعتيادي.
كانت لديه اهتمامات أخرى إلى جانب الدراسة، مثل المشاركة في فرق الجاز الموسيقية ولعب كرة السلة.
خلال دراسته الجامعية تتلمذ على أيدي أساتذة قدموا من النمسا، من المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية التي تؤكد أهمية السوق الحرة، ومنهم أوسكار مورجينستيرن وفرديرك لوتز. هؤلاء اعتمدوا على نظريات لودوغ فون ميسيس وفرديرك هايك من المنظّرين الاقتصاديين في شرق أوربا.
وقد تناقضت أفكار هؤلاء مع ما تعلّمه من نظريات اقتصادية مخالفة لما بشّر فيها جون ميراند كينز، الاقتصادي الإنجليزي المعروف، الذي أكد أهمية دور الدولة في الحياة الاقتصادية. لكن فولكر استوعب، خلال الدراسة، المزيج من النظريات الاقتصادية التي ساهمت في تطوير مواقفه وتحديد توجهاته عندما تسلّم زمام المسؤوليات المهمة. وربما ساعده التعرف على هذه النظريات في تعزيز مواقفه وقراراته ومكّنه من تبوؤ مكانة مرموقة في الأوساط المالية والمؤسسات النقدية.

منافسة مهمة
بدأت مخاوف فولكر مبكرًا، وتحديدًا مع بداية عهد الرئيس الراحل جون كنيدي في عام 1961، وقد أسّست مخاوفه على مشاعر بأن الولايات المتحدة على وشك فقدان تنافسيتها في التجارة العالمية، مما قد يؤدي إلى تأثيرات محتملة على مكانة الدولار الأمريكي. 
لا شك في أن العديد من الصناعات الأمريكية بدأت مواجهة منافسة مهمة من الصناعات اليابانية وغيرها منذ بداية عقد الستينيات من القرن الماضي. 
هناك أسباب موضوعية، حيث إن تكاليف الإنتاج في الولايات المتحدة كانت، وما زالت، باهظة مقارنة بالتكاليف التي تواجهها صناعات مشابهة في بلدان أخرى.
وربما كانت مخاوف فولكر في مكانها آنذاك، حيث تبيّن البيانات الاقتصادية أن الولايات المتحدة أصبحت مستوردًا صافيًا، وتتحمل عجزًا في ميزان التجارة والحساب الجاري منذ عقود طويلة.
في عهد الرئيس كينيدي كانت الولايات المتحدة تتبع اتفاقية بريتون ووذر التي حددت سعر أونصة الذهب مقابل 37 دولارًا، ولذلك فإن الحكومة الأمريكية كانت ملزمة بالحفاظ على هذا التوازن النقدي وتوفير غطاء ذهب ملائم للحفاظ على سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسية الأخرى.
وقد بذل الرئيس كينيدي جهودًا لتطمين الأسواق المالية، وعيّن دوغلاس ديلون، رجل الأعمال المتميز، وزيرًا للخزانة.
بدأ فولكر العمل في وزارة الخزانة، وانتقل من نيوجرسي إلى العاصمة واشنطن، وكان منصبه محللًا اقتصاديًا.
كانت توجهات الإدارة الحفاظ على توازن في الميزانية وعدم تحقيــــق العجــــز، وفـــي الوقت ذاته استهداف 5 في المئة نموًا في الاقتصاد الكلي.

خطوة معقولة
لابد من توفير محفزات لإنجاز النمو المستهدف، لكن كيف يتوافق ذلك مع السيطرة على الإنفاق العـــــام، ودون رفع معـــدلات الضرائب؟ كان وزير الخزانة من المحافظين في توجهاتهم الاقتصادية، وحـــذرًا في اتّباع سياسات مالية قد لا تكون ملائمة لتحقيق التوازن. 
وهكذا تعززت لدى فولكر الاهتمــامات بترشيد الإنفاق والسيطـــرة على التضخم المالي.
في ذلك الحين كان منصب فولكر ثانويًا، لكنه كان مؤثرًا، حيث اضطلع بمهام التوقعات الاقتصادية، وقد مكّنته هذه المهمة من توفير المعلومات للمسؤولين في الإدارة الاقتصادية، وشملت توقعاته انعكاسات التعديلات في النظام الضريبي على النشاط الاقتصادي. 
وكانت البلاد تواجه بطالة محدودة وتضخّمًا شبه معدوم، ولذلك فإن تخفيض الضرائب قد يؤدي إلى ارتفاع في الاستثمار، ومن ثم خلق وظائف جديدة.
يشير الكاتب إلى الأوضاع التي نشأت نتيجة لحرب فيتنام، حيث ارتفعت النفقات العسكرية بما زاد من ارتفاع الأسعار وتصاعدت معدلات التضخم. 
وقد قاوم الرئيس جونسـون، الذي جاء رئيسًا بعد اغتيال كينيدي، مطالبات المستشارين الاقتصاديين الداعية إلى رفع معدلات الضرائب. لكن مجلس الاحتياطي الفدرالي قام بخطوة معقولة، حيث رفع سعر الخصم من 4 إلى 4.5 في المئة. 
لا شك في أن الاقتصاد المنهــــك بحــــرب، مثل حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي، لابد أن يعاني تبعات الإنفاق العسكري وغيــــره من إنفاق عام والضغوط التضخمية. لا بدّ من تأكيد أن التضخم استعر منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، عندما تم تحرير سعر الذهب وإنهاء ارتباطه بسعر محدد بالدولار.

دور أساسي
خلال هذه الفترة الصعبة، قرر فولكر مغادرة الوظيفة الحكومية، والعمل في القطاع الخاص، وعمل في بنك شيس منهاتن، من عام 1965 إلى 1968، وهي السنوات التي كان فيها ليندون جونسون رئيسًا للولايات المتحدة.
كان رئيس البنك آنذاك هو ديفيد روكفلر، وهو من الشخصيات المهمة التي برزت في مجتمع الأعمال خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
 كان روكفلر مهاب الجانب، طموحًا، ويعامله رؤساء الدول في مختلف أنحاء العالم كمَلِك.
وبالرغم من تبوؤ روكفلر مهام عديدة في مؤسسات أعمال وهيئات خيرية واجتماعية، فإنه ركّز جلّ اهتمامه على إدارة بنك شيس منهاتن.
تولى ريتشارد نيكسون رئاسة الولايات المتحدة في يناير 1968، وشغل فولكر منصب مساعد وزير الخزينة لشؤون الأعمال النقدية. وتركّزت مهامه على الرقابة على برامج التمويل الفدرالية وإدارة الديون والعلاقات مع صندوق النقد الدولي، ومتابعة أسعار صرف الدولار في الأسواق النقدية.
كان وزير الخزانة، آنذاك، ديفيد كينيدي، الذي مكّن مساعديه ومستشاريه من اتخاذ القرارات، بما يتوافق مع متطلبات الأوضاع الاقتصادية، ومن دون تدخّلات سياسية. وخلال هذه الفترة، وبعد بداية عهد نيكسون أخذ موضوع تسعير الذهب بـ 35 دولارًا يكتسب أهمية، ويدفع الإدارة الاقتصادية إلى البحث عن مخارج.
وقد تزايدت المضاربات على الذهب، بما جعل من السعر الرسمي المحدود غير قابل للديمومة.
وغنيّ عن البيان أن سياسات مجلس الاحتياطي الفدرالي ساهمت في دعم الثقة بالدولار إلى حد ما، بعد أن رفع سعر الخصم. لكن لم تكن تلك السياسات كافية لتكريس الثقة لأمد طويل.
كان لفولكر دور أساسي في توجيه القرار لوقف تسعير الذهب القائمة على أساس 35 دولارًا للأونصة، والذي تقرر منذ انعقاد مؤتمر بريتون وودز في عام 1945.

قرارات حاسمة
لكن بعد تعيين جون كونلي، الذي شغل منصب حاكم ولاية تكساس في عهد الرئيس كينيدي، وزيرًا للخزانة، أصبح الطريق ممهدًا لاتخاذ قرارات صعبة حاسمة.
أصبح كونلي وزيرًا للخزانة في بداية عام 1971.
 في ذلك الحين شعر فولكر بأن عليه الاستقالة من منصبه، لكنّ كونلي رفض تلك الاستقالة، وشعر كونلي بأن الولايات المتحدة أصبحت في وضع اقتصادي صعب وضعيف، وأنها بحاجة إلى سعر صرف أدنى للدولار، للتمكن من المنافسة في أسواق التجارة الدولية، خصوصًا تجاه الين الياباني.
تمكّن كونلي، بشخصيته الطاغيــة، من التأثير على الرئيس نيكسون ودفعه إلى اتخاذ قرارات مثيرة للجدل. عقد الرئيس اجتماعًا سريًا مع مساعديه الاقتصاديين في منتجع كامب ديفيد، وبدأ الاجتماع بالإشارة إلى كونلي لطرح المنطلقات الاقتصادية الجديدة، والتي أكدها كونلي كالتالي: وقف عمليات تحويل الذهب إلى دولار بموجب اتفاقية بريتون وودز، وعدم تغيير السعر الرسمي لأونصة الذهب، وتجميد مستويات الرواتب والأجور مدة 90 يومًا. كان ذلك الاجتماع بداية تاريخية لتحولات في الاقتصاد الأمريكي والعالمي، وتطورًا أساسيًّا في النظام النقدي الدولي.
ويؤكد فولكر أنه مهما يتم من توافقات بين البنوك المركزية أو الإدارات الاقتصادية الوطنية، فإن هناك أمورًا أساسية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. وأهمها ما يلي:
1 - السيطرة الوطنية على السياسات النقدية والمالية.
2 - الاستفادة من التدفقات الحرة لرؤوس الأموال عبر الحدود.
3 - الاستقرار والتنبؤ المعقول لأسعار الصرف للعملات.

تذبذب موسمي
دعمت الاقتصادات الرأسمالية الأساسية خلال تاريخها المعاصر عمليات تعويم العملات، ولم تتدخل إلا من خلال أدوات السياسة النقدية.
ومنذ أن تم تحرير سعر الصرف في بداية سبعينيات القرن الماضي، أصبح الدولار مهيمنًا على عمليات التبادل في التجارة الدولية، بالرغم من التذبذب الموسمي تجاه العملات الرئيسية الأخرى. 
وكما هو معلوم أن تجارة النفط ظلّت، وما زالت تقوّم بالدولار، وتحسب إيرادات البلدان المصدرة للنفط بالدولار، وذلك يمثّل جزءًا كبيرًا من حجم التجارة الدولية.
واليوم عندما نقارن سعر أونصة الذهب بما كانت عليه الحال قبل التحرير، فإننا لابد أن نجد فرقًا مهمًا، حيث يبلغ سعر الأونصة اليوم نحو 1.500 دولار، بعد أن كان 35 دولارًا، وأصبح الذهب مخزون قيمة، ويهرع المستثمرون إلى توظيف أموالهم في الذهب عندما تحدث أزمات اقتصادية، أو تعاني الأسواق المالية التذبذب والتراجع.
لم تكن الأهداف التي تصوّرها فولكر سهلة وممكن تحقيقها من دون معاناة. ويجب تأكيد أن سلامة الأوضاع النقدية والمالية في بلد ما تعتمد على عافية الاقتصاد الوطني ومدى ملاءمته للمتغيرات المتواترة في الاقتصاد العالمي والتحولات في الأنظمة المالية والنقدية السائدة. 
لذلك فإن متطلبات التنسيق والتكامل التي برزت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تبقى أساسية وضرورية، بعد أن عجّلت الثورة التكنولوجية وما تقوم به أنظمة الاتصالات والتواصل من تفعيل العمليات بمختلف الأسواق المالية وفي نطاق التجارة الدولية في السلع والخدمات.

تمويلات أساسية
إن مؤسسات اقتصادية نهضت بعد نهاية الحرب العظمى الثانية، تظل أساسية لإدارة الاقتصاد العالمي، ومن هذه المؤسسات البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي اضطلع بمهام التنمية في البلدان النامية، وقبل ذلك في بلدان أوربا التي تأثرت بالحرب، وهناك صندوق النقد الدولي الذي مازال يوفّر التمويلات اللازمة للعديد في البلدان، في أوربا أو إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ويدعم ميزان المدفوعات، ويقدم أحيانًا دعمًا للموازنات الحكومية لتمويل العجز وغيرها من تمويلات أساسية.
لا شك في أن فولكر أكــد أهمية هذه المؤسسات العالمية ودورها الضروري لاستقرار اقتصــــاديات البلـــدان والاقتصاد العالمي بأشمله.
تنقّل فولكر في مجال الأعمال بعد وزارة الخزانة بين القطاع الخاص والحكومة، حتى عيّنه الرئيس الأسبق جيمي كارتر في عام 1979 رئيسًا لمجلس الاحتياطي الفدرالي، عندئذ أصبح بإمكانه تطبيق فلسفته النقدية من أهم موقع اقتصادي في الولايات المتحدة، وربما العالم أجمع.
 كانت هناك مشكلة التضخم المصاحب للبطالة بما يعني ضغوطًا على صانعي القرار الاقتصادي لتبنّي سياسات مالية ونقدية ملائمة وناجعة لتجاوز مشكلتين مهمتين ولهما تأثيرات موجعة في حياة الأمريكيين.
تتطلب معالجة التضخم سياسة نقدية صارمة ورفعًا في معدل أو سعر الخصم، وسيطرة على تدفّقات الأموال في قنوات الاقتصاد. لكنّ مثل هذه السياسة النقدية تعني تعطّل الاستثمار وعجزًا في خلق الوظائف، بما يعمّق من أزمة البطالة.

حلول مبتكرة
هكذا تعيّن على فولكر وصحبه في مجلس الاحتياطي الفدرالي البحث عن حلول مبتكرة وخلّاقة لمواجهة تضخم البطالة، وتقرر في بداية عام 1980 رفع سعر الخصم إلى 12 في المئة، بما أدى إلى رفع أسعار الفوائد الأساسية إلى مستويات قياسية لم تشهدها البلاد من قبل. 
لكن لحُسن الطالع، فإن البلاد لم تمرّ بفترة ركود وتحسنت الأوضاع، وظلت الأسعار مرتفعة.
توقفت معدلات البطالة، ولم يتراجع أداء الاقتصاد الأمريكي بالرغم من استمرار التضخم.
عاصر فولكر الرئيس الراحل رونالد ريجان، الذي بدأ عهده في يناير 1981.
كان ريجان من الرؤساء الحاسمين وغير المترددين، وتعامل مع القضايا بحزم، ومنها قراره بصرف آلاف العاملين في مجال الرقابة الجوية، بعد إضرابهم، وكانوا يطالبون بتحسين أجورهم، مما أدى إلى الحد من التضخم بدرجة ما.
وقد أرسل ذلك القرار الحازم رسالة إلى مختلف العاملين في مختلف القطاعات، بأن عليهم التوقف عن المطالبات.
وبالرغم من التفاوت في المواقف مع إدارة ريجان الجمهورية المحافظة، فإن فولكر تمكّن من أداء مهامه بسلاسة، وكانت له علاقات معقولة مع الرئيس ومساعديه في البيت الأبيض وفي الوزارات ذات الصلة.
خلال عهد ريجان، شهدت الولايات المتحدة والعالم مشكلات عديدة، منها مشكلات المديونيات الصعبة في البلدان النامية، وخصوصًا بلدان أمريكا اللاتينية وانكشاف العديد من البنوك الأمريكية تجاه تلك الديون.

شروط إدارية
 كذلك كانت هناك أزمة شركة كرايسلر التي واجهت الإفلاس، وتطلّب الأمر أن توفر الحكومة الفدرالية التمويل لها.
وقد اتسم التمويل بشروط إدارية وفنية وتغلّبت عليها إدارة كرايسلر بقيادة رئيسها Iaccoca، وتمكّنت من مواجهة التزاماتها قبل مواعيدها، وسددت ما يستحق عليها للحكومة.
أزمة أخرى ذات طابع مؤسسي كانت أزمة الشركات التمويلية التي يطلق عليها «الادخار والتمويل»، والتي تخصصت منذ نشأتها بالتمويل العقاري، وقد انطلقت منذ ثلاثينيات القرن الماضي في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت.
واعتمدت هذه المؤسسات على ودائع صغار المدخرين، وعملت على تمويل اقتناء السكن. كانت جاذبية هذه المؤسسات تتمثل بدفعها فوائد أعلى مما هو متاح لدى النظام المصرفي على الودائع. 
مقابل ذلك، منحت قروضًا عقارية لمدة طويلة، ربما 30 عامًا، وفوائد ثابتة. ولا شك في أن هذا النموذج التمويلي كان يتسم بالمخاطر العالية. وعندما ارتفعت أسعار الفوائد في أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ارتفعت مستويات المخاطر لدى هذه الشركات التمويلية، خصوصًا بعد أن تراجعت قيم العقار ومن ثمّ قيم الرهونات. يذكر فولكر أن الضغوط السياسية دفعت هذه المؤسسات للتوسع في أنشطتها، دون الأخذ بعين الاعتبار المخاطر المحيطة بها. 
وقد عمل رئيس الاحتياطي الفدرالي على وضع برنامج للإنقاذ حمّل الخزينة الأمريكية نحو 150 مليار دولار آنذاك. 
هناك أزمات أخرى عايشها فولكر، أهمها ديون الدول النامية، التي تفاقمت بعد أن أقرضت البنوك الدولية الرئيسية، خصوصًا البنوك الأمريكية، البلدان النامية، عقب تضخم إيداعات البلدان المصدرة للنفط لديها، إثر ارتفاع أسعار النفط، بعد الصدمتين النفطيتين الأولى والثانية في منتصف سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي.

أزمات عديدة
لا شك في أن فولكر عاصر أزمات عديدة خلال مراحل حياته المهنية، خصوصًا بعد أن أصبح رئيسًا لمجلس الاحتياطي الفدرالي.
وقد سعى جاهدًا للعمل على ضبط إيقاع التمويل وحساب مخاطرة، سواء كان التمويل محليًّا أو دوليًا، كما عمل على ضبط إدارة التبادل النقدي واستقرار أسعار صرف العملات الرئيسية. 
لكن تلك المساعي واجهت تحدّيات سياسية وإدارية مختلفة على مدار سنوات طويلة، وفي ظل إدارات سياسية مختلفة، حيث تباينت الرؤى الاقتصادية. كما أكد فولكر أهمية تعزيز القاعدة الرأسمالية للبنوك من خلال آليات رفع رأس المال لكل البنوك، وضبط معدلات رأس المال إلى حجم القروض. لم تكن البنوك تعير هذه الأمور أهمية، حيث طغى عليها التنافس في الإقراض وكسب العملاء. 
هذه التحولات المهمة، وتأكيد أهمية توافر قاعدة رأسمالية، دفعتا إلى تبنّي بنك التسويات الدولي في بازل وضع برامج لتلتزم بها البنوك المركزية في مختلف بلدان العالم، مثل برنامج بازل 1 و2 و3، والتي أصبحت من أهم ركائز العمل المصرفي في الوقت الراهن.
وهكذا يظل فولكر من أهم الشخصيات التي مرّت على عالم المصارف في النصف الثاني من القرن العشرين، وحقق تطورًا وتحديثًا للأنظمة المصرفية، وحاول حماية هذا النظام من تبعات المخاطر والتهور. 
لكن بالرغم من كل مساعيه، فإن أزمة عام 2008 وقعت، وما زالت آثارها قائمة، كما أن تمويل البلدان، سواء في أوربا أو الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، لايزال يحمل مخاطر كبيرة، وهناك مصاعب تواجه الدول المدينة في أعمال خدمة تلك الديون.

مراجعة مهمة
الكتاب يمثّل مراجعة مهمة لحياة الكاتب، وكذلك قراءة في التطورات بعالم المصارف ومحاولة لاستنباط السياسات النقدية التي سادت في العالم خلال القرن العشرين وفهمها. وغنيّ عن البيان أن النظريات الاقتصادية وتلك المتعلقة بالسياسة النقدية تباينت في فلسفتها بين كبار الاقتصاديين في الولايات المتحدة وأوربا، ومنها ما صدر عن كبار المفكرين، مثل ملتون فريدمان في جامعة شيكاغو، الذي كان يسعى إلى تحرير الأسواق من أي تدخلات حكومية وتخفيف الرقابة لأقصى درجة، وتلك التي تمثّلت في آراء اقتصاديين بجامعة هارفارد وغيرها، والتي اعتمدت على منطلقات فكر الاقتصادي البريطاني جون ميراند كينز. 
يظل الكتاب مهمًا لكل من يهمهم التعرف على مسيرة الحياة الاقتصادية في هذا العالم، وكيف يمكن للإدارات الاقتصادية صوغ السياسات الحكيمة ■