خ. ل. بورخيس: الكاتب الأرجنتيني الشهير خليل كلفت

خ. ل. بورخيس: الكاتب الأرجنتيني الشهير

لا تملك إلا أن تحب بورخيس حبا شديدا، أو تكرهه كراهية شديدة، هكذا يقول عنه كتاب ونقاد أمريكا اللاتينية. إنه كاتب يحيرك فلا تستطيع أن تأخذ منه موقفا متوسطا. معقد رغم بساطته الظاهرة، يلح من خلال أخيلته المعقدة على تمزيق الصلة بالعالم الخارجي ويقترح بدلا منه عالما مليئا بالاضطراب والشك إزاء الزمان والمكان واللا نهائية. مات أعمى تقريبا ولكنه كان قد رأى العالم كما لم يره أحد من قبله، ولد عام 1899 ومات عام 986 1 في مدينة بوينس أيرس عاصمة الأرجنتين. بدأ حياته بالشعر ثم انتهى إلى القصة القصيرة المركزة التي استوحى أبعادها الفنية من التراث العربي الذي عكف عليه طويلا فظهرت كلمات ألف ليلة وليلة في سطور حكاياته وشاكت خيالاته الكابوسية. له العديد من الدواوين والمجموعات منها "المتاهات" و"الألف" و"كتاب الرمل". حصل على جائزة "فومنتور" الأوربية عام 1961 بالمشاركة مع صمويل بيكيت. والعربي تقدم هذا الملف الموجز عن هذا الكاتب المهم من خلال مقالة كتبها أديب فرنسـا الشهير أندريه موروا وقصة قصيرة من حكاياته الغريبة.

خ. ل. بورخيس
بقلم: أندريه موروا

عندما يتحدث كاتب كبير عن كاتب كبير آخر، يتصاعد حديث القمم نغما يتسامى وضوءا يغمر الروح ببهجة الفن. وفي هذا المقال عبق من حديث القمم.

خورخي لويس بورخس كاتب عظيم لم يؤلف سوى القليل من المقالات والقصص القصيرة. لكنها تكفي مع ذلك لأن تجعلنا نصفه بأنه عظيم بفضل ذكائها المذهل، وثروتها من الابتكار، وأسلوبها المحكم، الرياضي تقريبا. وبوصفه أرجنتينيا بالولادة والمزاج، لكنه تربى على الأدب العالمي، ليس لبورخيس أي وطن روحي، فهو يخلق، خارج الزمان والمكان، عوالم خيالية ورمزية. وتتمثل واحدة من أمارات أهميته في واقع أنه لا يمكننا أن نتذكر، عندما نحاول تصنيفه، سوى أعمال غريبة وبالغة الإحكام. إنه صنو لكافكا، وبو، وأحيانا لهنري جيمس، وويلز، ودائما لفاليري، بالإطلاق المفاجئ لمفارقاته فيما صار يعرف "بالميتافيزيقا الخاصة به".

ومصادر بورخيس لا تعد ولا تحصى، كما أنها غير متوقعة. فقد قرأ بورخيس كل شيء، وخاصة ما لم يعد أحد يقرؤه: القبلانيين، الإغريق السكندريين، فلاسفة القرون الوسطى. واطلاعه ليس عميقا- فهو لا يطلب منه سوى ومضات برق خاطفة وأفكار- لكنه هائل الاتساع. وعلى سبيل المثال: كتب باسكـال: "الطبيعة كرة لا نهائية مركزها في كل مكان، ومحيطها ليس في أي مكان". ويشرع بورخيس في تعقب هذه الاستعارة عبر القرون. ويعثر عند جيوردانو برونو (1584) على ما يلي: "يمكننا أن نؤكد بيقين أن الكون كله مركز، أو أن مركز الكون في كل مكان ومحيطه ليس في أي مكان". غير أنه كان بوسع جيوردانو برونو أن يقرأ عند عالم لاهوت فرنسي في القرن الثاني عشر، "آلان دو ليل"، صياغة مقتبسة من CORPUS HERMETICUM (مجموعة السيمياء "السحر الطبيعي ") (القرن الثالث): "الموجود كرة مدركة بالعقـل مركزها في كل مكان ومحيطها ليس في أي مكان". ومثل هذه الاستقصاءات، التي نعهد إجراءها بين الصينيين وكذلك بين العرب أو المصريين، تبهج بورخيس، وتقوده إلى موضوعات قصصه.

وكثير من أساتذة بورخيس إنجليز. وهو يكن لويلز إعجابا لا حد له، وهو ساخط لأن أوسكار وايلد أمكنه أن يصنفه على أنه "جول فيرن علمي". ويبدي بورخيس ملاحظة فحواها أن قصص جول فيرن تتأمل الاحتمال المستقبلي (الغواصة، السفر إلى القمر)، فيما تتأمل قصص ويلز الإمكانيـة الخالصة (شخص غير مرئي، زهرة تفترس رجلا، آلة لاستكشاف الزمن)، أو حتى تتأمل الاستحالة (رجل يعود من العالم الآخر حاملا زهرة مستقبلية). وفيما وراء ذلك، تصور روايات ويلز تصويرا رمزيا ملامح جوهرية في جمع المصائر البشرية. ويرى بورخيس أن أي كتاب عظيم وباق لا بد من أن يكون مبهما، فهو مرآة تكشف ملامح القارئ، غير أنه لا بد من أن يبدو المؤلف غير مدرك لأهمية إنتاجه- وهذا وصف ممتاز لفن بورخيس ذاته- "الرب لا ينبغي أن ينشغل باللاهوت، الكاتب لا ينبغي أن يحطم بالاستنتاجات البشرية الإيمان الذي يتطلبه الفن منا".

وبورخيس معجب بإدجار آلان وتشيستيرتون مثل إعجابه بويلز. كتب بو حكايات محكمة خيالية الرعب وابتكر القصة البوليسية، لكنه لم يجمع قط بين هذين النمطين للكتابة. أما تشيستيرتون فقد حاول بالفعل ونجح نجاحا رائعا في هذا العمل الفذ. وتطرح كل مغامرة من مغامرات الأب براون للتفسير، باسم العقل، واقعة تستعصي على التفسير. "رغم أن تشيستيرتون أنكر أن يكون "بو" آخر أو كافكا آخر، كان هناك، في المادة التي تشكلت منها ذاته، شيء ينزع إلى الكابوس". وكان كافكا سلفا مباشرا لبورخيس. وكان يمكن أن تكون القلعة لبورخيس، لكنه كان سيضغطها إلى عشر صفحات، وذلك في آن معا عن كسل مستكبر وعن حرص على الإحكام. أما أسلاف كافكا فمن دواعي سرور اطلاع بورخيس الواسع أن يجدهم يتمثلون في زينون الإيلي، وكيركجارد، وروبرت برانج: ففي كل مؤلف من هؤلاء شيء من كافكا، غير أنه لو أن كافكا لم يكتب ما استطاع أحد أن يلاحظ ذلك- ومن هنا هذه المفارقة البورخيسية للغاية: "كل كاتب يخلق أسلافه".

التلاعب بالزمان والمكان

هناك شخص آخر يلهم بورخيس هو الكاتب الإنجليزي جون وليام دن، مؤلف تلك الكتب الشائقة عن الزمن، والتي يزعم فيها أن الماضي والحاضر والمستقبل توجد متزامنة، كما تثبت أحلامنا. (ويلاحظ بورخيس أن شوبنهاور كان قد كتب قائلا إن الحياة والأحلام أوراق من الكتاب نفسه: قراءتها بتسلسل هي الحياة، تصفحها هو الحلم). وفي الموت سنعيد اكتشاف كل لحظات حياتنا وسنجمع بينها بحرية كما في الأحلام "الرب، يا أصدقائي، وشكسبير سيتعاونان معا". ولا شيء يسر بورخيس أكثر من التلاعب بهذه الطريقة بالعقل، والأحلام، والمكان والزمان. وكلما ازدادت اللعبة تعقيدا يغدو هو أسعد. فالحالم يمكن الحلم به بدوره. "كان العقل يحلم، وكان العالم حلمه". وفي كتابات سائر الفلاسفة، من ديمقريطس إلى اسبينوزا، من شوبنهاور إلى كيركجارد يقف بورخيس بالمرصاد للإمكانات الفكرية المنطوية على مفارقات.

ويمكن العثور في دفاتر فاليري على ملاحظات كثيرة مثل هذه الملاحظة: "فكرة لقصة مفزعة: يتم اكتشاف أن العلاج الوحيد للسرطان هو اللحم البشري الحي. النتائج المنطقية". يمكنني حقا أن أتصور "قصة" لبورخيس مكتوبة حول موضوع كهذا. فهو عندما يقرأ الفلاسفة القدامى أو المحدثين يقف عند فكرة أو فرضية. وتومض الشرارة. وهو يتساءل: "إذا تم تطوير هذه المسلمة العبثية إلى نتائجها المنطقية القصوى، فأي عالم سيخلقه هذا؟ ".

على سبيل المثال، يأخذ مؤلفو، بيير مينار، على عاتقه تأليف دون كيخوته- ليس كيخوته أخرى، بل الكيخوتة. منهجه؟ أن يتعلم الإسبانية جيدا، أن يعيد اكتشاف المذهب الكاثوليكي، أن يحارب المغاربة، أن ينسى تاريخ أوروا- باختصار، أن يصير ميجويل سير فانتيس. عندئذ سيكون التطابق كليا بحيث يقوم مؤلف القرن العشرين بإعادة كتابة رواية سير فانتيس حرفيا، كلمة بكلمة، وبلا رجوع إلى الأصل وهنا يقدم بورخيس هذه الجملة المذهلة: "نص سيرفانتيس ونص مينار متطابقان حرفيا، غير أن النص الثاني أغنى بصورة مطلقة تقريبا". وهو يثبت هذا ببهجة الانتصار، لأن هذا الموضوع، العبثي في ظاهر الأمر، يعبر في الحقيقة عن فكرة حقيقية: الكيخوتة التي نقرؤها ليست تلك الخاصة بسيرفانتيس، تماما كما أن مدام بوفاري الخاصة بنا ليست تلك الخاصة بفلوبير. ذلك أن كل قارئ من قراء القرن العشرين يقوم لا إراديا بإعادة كتابة روائع القرون الماضية بطريقته الخاصة. وكان يكفي إجراء استقراء لاستنتاج قصة بورخيس منه.

وفي كثير من الأحيان يحدث لمفارقة من شأنها أن تربكنا تماما ألا تدهشنا في سياق الشكل المجرد الذي تتخذه لدى الفلاسفة. ويخرج بورخيس من ذلك بواقع ملموس. و"مكتبة بابل" هي صورة الكون، لا نهائية وتجري دائما بدايتها من جديد. وأغلب الكتب في هذه المكتبة تستعصي على الفهم، حيث إن الحروف تتلاقى بالمصادفة أو تتكرر بصورة خاطئة، غير أنه يحدث أحيانا، في هذه المتاهة من الحروف، أن يتم العثور على سطر معقول أو جملة معقولة. تلك قوانين الطبيعة، حالات ضئيلة جدا من الانتظام في عالم من الفوضى. وقصة "اليانصيب في بابل" تقديم بارع وذكي آخر لدور المصادفة في الحياة. وتذكرنا الشركة الملغزة التي توزع الحظ الحسن والسيئ "بالبنوك الموسيقية" في رواية Erewhon لصامويل بتلر.

ومنجذبا إلى الميتافيزيقا، لكن دون قبول أي نسق من أنساقها على أنه صحيح، يخرج بورخيس منها جميعا بلعبة للعقل. ويكتشف في نفسه نزعتين: "واحدة هي تقييم الأفكار الدينية والفلسفية على أساس قيمتها الجمالية، بل حتى على أساس ما هو عجائبي في محتواها. وربما كان ذلك علامة على شك جوهري. والثانية هي الافتراض سلفا أن مقدار ما يستطيع خيال الإنسان إبداعه من حكايات رمزية أو استعارات محدود، لكن هذا العدد الصغير من إبداعات الخيال يمكن أن يكون كل شيء لكل شخص".

التكرار الدائري

ومن هذه الحكايات أو الأفكار ما يفتنه بوجه خاص: تلك الخاصة بالعود الأبدي، أو التكرار الدائري لكل تاريخ العالم، وهي فكرة عزيزة على نيتشه، وتلك الخاصة بالحلم داخل حلم، وتلك الخاصة بالقرون التي تبدو دقائق والثواني التي تبدو سنوات "المعجزة السرية"، وتلك الخاصة بالطبيعة الهذيانية للعالم. ويحب بورخيس أن يستشهد بنوفاليس: "سيكون أعظم السحرة ذلك الذي يسحر نفسه إلى درجة يحسب معها أوهامه أشباحا مستقلة قائمة بذاتها. ألا تكون هذه حالتنا؟" ويجيب بورخيس بأنها في الواقع حالتنا بالفعل: نحن الذين حلمنا بهذا الكون. ويمكننا أن نرى فيما يتمثل فيه، التفاعل المرتب عن روية بين مرايا ومتاهات هذه الفكرة الصعبة، مع أنها دائما حادة ومحملة بأسرار. وفي كل هذه القصص نجد طرقا تتشعب، وممرات لا تؤدي إلى مكان، إلا إلى ممرات أخرى، وهكذا على مدى البصر. ويرى بورخيس أن هذه صورة للفكر البشري، الذي يشق طريقه بصوره اللانهائية عبر سلاسل من الأسباب والنتائج بلا استنفاد للانهاية أبدا، ويدهشه ما ربما لم يكن سوى مصادفة غير بشرية. ولماذا الطواف في هذه المتاهات؟ مرة أخرى، لأسباب جمالية، لأن هذه اللا نهاية الراهنة، هذه "التناظرات المدوخة"، لها جمالها التراجيدي. إن الشكل أهم من المحتوى.

وفي كثير من الأحيان يذكرنا الشكل عند بورخيس بالشكل عند سويفت: الوقار نفسه وسط العبث، الدقة نفسها في التفاصيل ولإثبات اكتشاف مستحيل، سيختار بورخيس نغمة الدارس الأشد تدقيقا، فيمزج كتابات متخيلة بمصادر حقيقية ومتبحرة. وبدلا من أن يؤلف كتابا بكامله، الأمر الذي قد يضجره، يحلل بورخيس كتابا لم يوجد قط. وهو يتساءل: "لماذا نستغرق خمسمائة صفحة لبسط فكرة يستغرق عرضها الشفوي دقائق معدودة؟ ".

وهذا ينطبق، على سبيل المثال، على القصة التي تحمل هذا العنوان الغريب العجيب: "تيلون أوكبار، أوربيس تيرتيوس". وهذه القصة تتعلق بتاريخ كوكب مجهول، كامل "بفنون عمارته وحلياته المعمارية، برعب ميثولوجياته وصخب لغاته، أباطرته وبحاره، معادنه وطيره وسمكه، جبره وناره، مجادلاته اللاهوتية والميتافيزيقية". ويبدو أن هذا الابتداع لعالم جديد من صنع جمعية سرية من علماء الفلك، والمهندسين، وعلماء الحياة، والميتافيزيقيين، وعلماء الهندسة. وهذا العالم الذي خلقوه، "تيلون"، هو عالم بيركلي وكيركجاردي لا توجد فيه سوى الحياة الداخلية. ولكل شخص في "تيلون" حقيقته الخاصة به، والأشياء الخارجية تتمثل في كل ما يريده كل شخص. وتنشر الصحافة العالمية هذا الاكتشاف، وسرعان ما يمحو عالم "تيلون" عالمنا. ويحل ماض متخيل محل ماضينا الخاص. لقد حولت مجموعة من العلماء المنعزلين الكون. وكل هذا مجنون، ومرهف، ويقدم موضوعا لتأمل لا نهاية له.

أسلوب نقي ومتمكن

وهناك قصص أخرى لبورخيس هي أماثيل "حكايات رمزية"، ملغزة ولا تكون واضحة أبدا، وهناك أيضا أخرى هي قصص بوليسية على طريقة تشيستيرتون. وتظل حبكاتها فكرية تماما. ذلك أن المجرم يستغل اطلاعه الوثيق على أساليب البوليس السري. شيء من قبيل دوبان ضد دوبان أو ميجريه ضد ميجريه. وتتمثل واحدة من هذه "القصص" في البحث الذي لا ينتهي عن شخص من خلال الانعكاسات التي لا تكاد تلحظ والتي تركها على أرواح أخرى. وفي قصة أخرى يتخيل شخص محكوم عليه ظروف موته لأنه لاحظ أن التوقعات لا تتطابق مع الواقع أبداً: ولأنها صارت بذلك توقعات، لم يعد يمكنها أن تصير حقائق واقعة.

وإبداعات الخيال هذه موصوفة بأسلوب نقي ومتمكن ينبغي ربطه بـ "بو"، "الذي ولد بودلير، الذي ولد مالارميه، الذي ولد فاليري "، الذي ولد بورخيس. وهو إنما بدقته البالغة يذكرنا بفاليري. "أن نحب يعني أن ننشئ ديانة ربها غير معصوم". وبنواقصه المتكدسة يذكر أحيانا بفلوبير، وبندرة استخدامه للنعوت بسان جون بيرس. "الصياح الذي لا عزاء له لطائر". على أنه حالما نوضح هذه العلاقات ينبغي أن نقول إن أسلوب بورخيس، مثل فكره، بالغ الأصالة. ويكتب بورخيس عن الميتافيزيقيين في "تيلون": "وهم لا يبحثون عن الحقيقة ولا عن قوة الاحتمال، بل يبحثون عن الدهشة. فهم يعتقدون أن الميتافيزيقا فرع من أدب الفانتازيا". والواقع أن هذا يحدد بالأحرى طبيعة عظمة وطبيعة فن بورخيس.

 

خليل كلفت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات