المرض والشاعر توفيق جبريل
كل مَن له اهتمام بالشعر العربي الأصيل، لا بد أنه يعرف أو سمع بقصيدة الشاعر أحمد بن الحسين الكوفي، المعروف بالمتنبي، في وصف الحمّى التي انتابته في منفاه الاختياري بمصر، بعد أن ترك - مُكرهًا - ممدوحه الأثير سيف الدولة الحمداني... هذه الحمّى التي يعرفها السودانيون جيدًا باسم «الوِرْدة»، بسبب ما تعودهم، فتعودوا عليها:
وزائـرتي كأن بها حياءً
فـليــس تزور إلا فــي الــظلام
بذلت لها المطــارف والحشايا
فعافتــها وباتت فــي عـظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
فتــُوسِــعه بألــوان الســقام
إذا ما فارقتْــني غسّـــلتني
كأنّا عاكفـــــان على حرام
كأن الصــبحَ يطــردها فــتـجري
مدامــــعُـها بأربـــعة ســـجام
أراقب وقتها من غير شوقٍ
مراقــبة المــشوق المــستهام
وعلى كلّ، فالحمى أو الملاريا ليست بالطارق الدائم لمريضها، بل هي زائرة ثقيلة الظل، وإن غادرت بعد حين، أو ذهبت بمريضها التعس إلى المقبرة، ولكن ما هو الأمر بالشاعر إذا استقر المرض به، فلم يدعه في ليل أو نهار، فيما يسميه الأطباء بالمرض المزمن؟ مرض يسقي صاحبه صنوفًا من الآلام المبرّحة ويحيله قعيد الفراش سنوات وسنوات، حتى لا يبقي منه بقية، ويتساقط زائروه عن تحلّقهم به أول مرضه، ولا تبقى إلا بقية قليلة تداوم على (واجب) الاطمئنان الثقيل.
شاعرنا السوداني توفيق صالح جبريل هو أحد الشعراء الذين ما إن تقرأ ديوانه اأفق وشفقب ذي الأجزاء الأربعة حتى يفاجئك وصف مرض النقرس في قصائده ومقطوعاته.
وُلد الشاعر بجزيرة مَقاصِر في إقليم دُنْقُلا بالشمالية في نهايات عام 1897، وكان والده يعمل بفرقة الهجانة بالجيش المصري/ الإنجليزي قبل أن يغزو الإنجليز السودان ثانية، طلبًا للثأر من الدولة المهدوية التي قتلت قائدهم تشارلز غردون في فتح الخرطوم مع بدايات عام 1885.
سخط على الاحتلال
بالرغم من أن أبا الشاعر كان يعمل مع الاحتلال، فإن الابن نشأ ساخطًا متبرمًا من سوء ما يراه من أحوال بلاده التي كان الاحتلال أحد أسبابه، وهكذا عندما قامت الحركات السريّة التي تدعو إلى التخلص من الاحتلال والاتحاد مع مصر وجد نفسه منتميًا إلى هذا التيار، بل ويشارك في المنشورات السياسية التي تدعو إلى الجلاء وتعليقها على حوائط المنازل وأعمدة الكهرباء، وشجّعه على ذلك أن أخاه سر الختم كان من أعضاء هذه الجمعيات السريّة، وهي جمعية الاتحاد التي سبقت في ظهورها جمعية اللواء الأبيض.
كان يعمل في وظيفة نائب مأمور، وبرغم مرور السنوات الطوال، لم تتمّ ترقيته إلى وظيفة مأمور، وفق سنوات الخدمة، بل وصل الأمر إلى أن من تم تدريبهم على يديه نالوا درجة المأمورية، وبقي هو فيها إلى أن أنزل إلى الخدمة المعاشية! كان المحتل يعرف أن لتوفيق صلة ما بالمنشورات، وإن لم يجد دليل إدانته، فاكتفى بعدم ترقيته إلى درجة أعلى.
أصيب الشاعر بمرض النقرس عام 1951 وأناله من ويلاته الكثير، فلا حركة في المرقد الأخير ولا زيارات لأصدقائه، وحتى أصدقاؤه الذين ماتوا لم يستطع أن يؤدي واجب العزاء فيهم! وقد تفرّق عنه أصدقاء المرض بسبب المشاكل اليومية. استفاد الشعر من مرض الشاعر الذي أقعده بأن جوّد من قصائده السابقة وأعمل فيها قلمه مفسرًا وشارحًا ظروف كتابتها، بل ونشر كثيرًا من أعماله الشعرية السابقة على صفحات الصحف السيّارة.
انظر إلى الشاعر يتحدث عن وخز الإبر له لتخفيف آلامه، وإن إلى حين:
أين وخز الضمير للقاتل النفس والمُعتدي كثير الذُّنوب؟
من عذاب تثيره وخزاتٌ هـــي ســـُمٌّ أريق ملء ذَنــُوب
حملت كل عقرب منه جزءًا لأولي الصَّـــبر من بني أيوب
زحفت كلّـــها عليّ كأن لم يُك غـــَيري مهيًّـــأ للخطوب
إبرٌ في عقــــارب تخِزُ الجِسم بسمٍّ مهــّيأ فـــِي حبــــوب
يمنع المشْـي إن أردت احتراقٌ كامن والرقاد جافـى جنوبي
عتاب الأصدقاء
إن وخزات الإبر في جسده هي عنده كمثل وخزات العقارب التي ربما لاقى من جرائها كثيرًا في تنقلاته بحكم وظيفته، واشتداد الألم الممضّ في جسمه يمنعه الحركة، أما البقاء ساكنًا والخلود إلى الفراش فألمٌ أشدّ مضاضة، ولا سبيل إلى نوم يريح الجسم المهدود.
واقرأ له وهو يخاطب أحد أصدقائه معاتبًا، وواصفًا هذا الزائر المرغوب عنه:
فلماذا لا تواســــيني وداءُ الروماتـــِزم
صيّر الجسمَ الذي قد كان عمْلاقا كقزمِ
وقوامًـــا سمهريّا عاد من نصْبٍ لجــَزم
كاد يقضي اليأس لولا أملي فيك وحَزمي
انظر إلى البلاغة اللغوية والفكاهة اللفظية في كلمتي النَّصب والجَزم، بعض علامات إعراب الفعل المضارع، النصب الذي يعني الاعتدال، والجزم الذي يعني القطع والبتر.
ويستمر الشاعر في وصف تباريح المرض وآلامه، فالبرد القارس الحار، ذلك الضد المجتمع في داء الملوك، هو سيد القصيدة:
إن البرودة بين أوصــــالي سرَت كالزند قدحًا
ثلج وجمر منهما متألِّــــمًا أمْـــــسى وأضحَى
الليل أقطعه وقد أنْــــحَى على جنبيّ ذبحًـــا
وعقــــارب صفر مغيرات على رجليّ صبحًا
إني سأقضي صابرًا لم أجْنِ من دنياي ربحًا
أزداد إيمانًا إذا ما اليـــــأس برّح بي، فمَرحى
هذا العذاب مطهّر روحي ويولي العقل نصحًا
مرض لا يرتحل
لعل البيت الأخير هو خير ما استفاد منه الشاعر... الإيمان بالله مصرّف الأمور على مراده، وجاعل الفرج منفرجًا من بين زوايا الضيق.
لكن المرض لا يرتحل، وتصير الحياة مزيدًا من عذاب لا يرتحل، يتمنى الشاعر الالتحاق بآبائه:
إذا لزم السريرَ أخُــــو امتعاض
فخير منه من لزِم التُّرابا
وما دام الأنام إلى ذهابٍ
فما معنى تصيّدك السرابا
وإن لم ترضَ عن ماضٍ وآتٍ
فما أحجَى تعجلَك الحسابا
قلاني الأهل فاذهب بي وشيكًا
إلى الأبوين ننتهب انتهابا
ففي «البكريّ» آباء وآلٌ
فحسبي بابــــــن داؤدٍ رحابا
واالبكريب، لمن لا يعلمها، مقبرة مشهورة بأم درمان، يضاهيها في الكبر والاتساع مقابر حمد وخوجلي بالخرطوم بحري، ومقابر ود أب صفية في الأبيض، ومقابر فاروق بالخرطوم.
قصيدة الدامر
لا نترك الشاعر في مرقده إلا بعد أن نسترجع إحدى أشهر قصائده، وأعني بها قصيدته االدامَرب، والدامر - لمن لا يعرفونها - من أشهر مدن العلم والدين بالسودان، ويسمى أهلها بالمجاذيب، وهم قوم ولعوا أيّما ولعٍ بالعلم الديني، وتسللوا من أروقته إلى عوالم الأدب الفصيح شعرًا ونثرًا وفقهًا، ومَن منا لا يعرف العلّامة عبدالله الطيب المجذوب؟ وباسم القصيدة سمّى ديوانه ذا الأجزاء الأربعة اأفق وشفقب، ولئن كانت بالقصيدة إشارات إلى مجالس أُنس، فما كان للشباب آنذاك إلا الرحلات البريئة في (اغترابهم الداخلي)، فما اعتادوا أن تلقي بهم عصا التسيار من مكان إلى آخر، ولكن هي عبودية الخدمة المدنية آنذاك.
وبقدر ما تضايق منها الشعراء، فإنها أنشأت في الأدب السوداني أدبًا متميزًا أساسه المدن المنتقل إليها، فبها أصدقاء جدد وأماكن... وبها... وبها:
أيا «دامـر المجذوب» ما أنت قريَة
بداوتُها تبدو ولا أنت بندَر
خرجنا قبيل الصبح منك وأنت في
غلالة ظلماء، فهل فيك من دروا
إلى جنــــة في شاطـــــئ النيل برَّة
تطالعنا الأمـــــواه أيّان ننــظر
أزاهرُها الحمراء مسدلةٌ على
عناقيدها والنَّخل فيها مُـــــزنّر
أقمنا بها حتى الضحى في خميلة
يطوف عــــلينا بالقوارير كوثر
وصحْبيَ فيها «باقرٌ» و«قلنْـــــدَر»
وما العَيش إلا باقــِر وقلَندر
ونترك الشاعر وصاحبيه باقر وقلندر... نتركهم في معيّة هذه الرحلة النيلية الساحرة وقد خلّدها الزمن، وصارت من درر الشعر السوداني، ومعها صاحبتها كسلا .