محمود درويش... قُربُ الحبيب وبُعدُه

محمود درويش... قُربُ الحبيب وبُعدُه

يختلف الشاعر محمود درويش عن الشعراء العرب في مسألة القرب المكاني أو الجغرافي من المحبوب. فقد أجمع القدماء منهم على أنّ قرب الدّار خير من بُعدها، أي أنّ الإقامة قرب الحبيب تظلّ أفضل من الإقامة بعيدًا عنه.
وقد انتقل هذا المبدأ إلى الشّعر العربي المعاصر والحديث، فاستقرّ وصارت له قوّة القضيّة المقضية، كما يقول أهل القانون. لكنّ الشاعر الفلسطيني الكبير أدلى برأي يخالف هذا المبدأ، إذ ذكر مرّةً، في حوار له ورد في كتاب صدر حديثًا يضمّ ما أمكن جمعه من حواراته، أنّه يفضّل ألا يعيش مع حبيبته في بيت واحد، كما يفضّل ألّا يعيش معها في مدينة واحدة، معلّلًا ذلك بأنّ «شرط الحـبّ هــو الترقّـب والحنيـن وعـدم الامتلاك الكامل».
لم يوضّح محمود المدينة التي «يتعيّن» على المحبوبة أن تُقيم فيها. فهل تقع هذه المدينة في البلد الذي يقيم هو فيه أم في بلد آخر؟ وتحديد ذلك ضروريّ لاستيفاء موضوع الترقّب والحنين وعدم الامتلاك الكامل. ذلك أنّ الحبيب كلّما نأى، ونأت داره، صفّق جناحا الشوق أكثر ومعهما جناحا الشعر. ولكنْ سواءٌ كانت مدينة الحبيب قريبة أو بعيدة، فإنّ الشاعر يخالف تراث الأُلفة والأُلّاف عند العرب القدماء، وعند غيرهم أيضًا، وهو تراث يضيق بالبُعد ويندّد به، ويدعو إلى الوحدة في المنازل كما في المدن، ولا يرى في اللقاءات العابرة ما يشفي العلّة أو ينقع الغلّة. والغاية المبتغاة هي امتزاج المحبوبين جسدًا وروحًا، كما يقول ابن الرّومي في قصيدة له. ولا يمكن لهذه الغاية أن تتحقّق إلّا في تلازمهما منزلًا ومدينةً.
تنبّه درويش، يرحمه الله، إلى صعوبة ما يطلبه، بل إلى استحالته، فأضاف أنّه لا يستطيع أن يقترح مطالبه الشخصيّة هذه كحلٍّ عام. والواقع أنّ ما يقترحه ليس حلًاّ، بل مسودّة قصيدة رومانسيّة من نمط غير مألوف وغير قادر على التسلّل إلى واقع الإنسان ووجدان العاشق.
في هذا الواقع يتعذّر العثور على محبوبة تُؤمَر أن تعيش في مدينة بعيدة عن محبوبها فتخضع، ثمّ تُؤمَر أن «توجَد» في ساعة اللقاء عندما يمنّ عليها بلقاء، فتُوجَد، بعدها تُؤمَر أن تختفي فتختفي. 
فهذا غير طبيعي في زمن فقدت فيه المرأة رتبة الجارية، وباتت تشارك الرجل قراراته، كما فقد الرجل رتبة «الشهرياريّة» التي تمتّع بها على مدار القرون الغابرة، وبات عليه أن يتكيّف مع ظروف عجفاء مستجدّة ما كان يتصوّر في الماضي أنّه قد يصادفها في يوم من الأيّام. ويبدو أنّ كل أفكار كارل ماركس حول مساواة الذكر والأنثى التي اعتنقها محمود زمن «راكاح» وإميل حبيبي في حيفا ذهبت أدراج الرياح، لتبقى فطرة شهريار هي المتحكّمة في المشاعر والآمرة والناهية. أغلب الظنّ أنّها مجرّد خواطر شعريّة عسيرة على التطّبيق تراود الفتى أحيانًا كما يراود مثلها الشعراء أحيانًا أخرى، ويعجب المتلقّي كيف أمكن جمع كلماتها ومعانيها. ألم يذكر الشاعر سعيد عقل مرّة أنّه يضيق صدرًا بلبنان الحالي ويحلم بهدمه وإعادة بنائه على عشرين كيلومترًا مربّعًا، على أن تُزرع مساحته المتبقّية زهورًا؟
خواطر شعريّة إن جاءت بصيغة النثر، فإنّها جديرة بأن يضمّها كتاب ملحق بدواوين الشعراء قد لا يقلّ جمالًا عنها ■