خلودُ اللقطة... موتُ اللحظة

خلودُ اللقطة... موتُ اللحظة

شهد عالم التصوير الفوتوغرافي تطورًا هائلًا في تقنيات الاستخدام وجودة الصورة، أطاح في نهاية الأمر الكثيرَ من أدوات التصوير التقليدية والشركات التي عاندت حركة الزمن، وحتى المسمّى «التصوير الفوتوغرافي» لم يبق منه غير نصفه الأول، أما النصف الثاني فقد حلَّ الرّقمي مكان الفوتوغرافي الذي أوشك على دخول متحف التاريخ، لولا قلّة من المخلصين للتصوير بالطريقة التقليدية، ذلك التطور لم يتوقف عند حدّ تحسين أداء المعدات، بل امتد - وهنا بيت القصيد - نطاق مستخدمي عالم التصوير الذي اتّسع بصورة فلكية، ليشمل كل مَن امتلك هاتفًا ذكيًّا، هذا الوضع المستجد أجّج عالم التصوير وقلبه رأسًا على عقب، ليتداخل فيه التصوير الاحترافي مع أعمال الهواة.

 

ما زلتُ أتذكّر كيف أضافت سياسة الأمر الواقع مهمة جديدة لمهامّي الصحافية في أثناء العمل بالاستطلاعات الصحافية، خاصة خارج الكويت، وهي حفظ علب الأفلام التي ينتهي منها زميلي المصور بعد التقاطه للصورة الأخيرة رقم 36، وقبل أن يخرج من حقيبته الصغيرة علبة جديدة. 
هذه المهمة هدفها تخليص المصور من القلق على سلامة حصيلته، ومنحه حرية الحركة في موقع التصوير، والتركيز فقط على التقاط الصور الجيدة، لقد عجنت الخبرة مصوري «العربي»، وباتوا يعرفون أن العودة من دون صور تعني أن رحلتهم ذهبت هباءً منثورًا، وكل ما سيكتبه المحرر مهما كان عظيمًا لن يغني عن الصورة التي هي في عُرف مجلة العربي تعد نصًّا يوازي المادة المنشورة، لذلك توصّل معظمهم إلى جعل حصيلتهم قريبة منهم، وتنتقل معهم أينما ذهبوا حالها كحال كاميرا التصوير التي لا تفارقهم.
لقد أتاح وجود المحرر في موقع التصوير فرصة استغلال فراغه الثّوبي أثناء العمل وحقيبته التي سيحملها داخل الطائرة، ومن المستحسن أن يرتدي سترة المصورين ذات الجيوب المتعددة، حتى يتقاسم مع المصور مهمّة حمل الأمانة التي لا يمكن المغامرة بتركها داخل حقيبة السفر.

ألبوم العائلة 
هذا الجانب من عالم التصوير الصحافي في زمن ليس بالبعيد عن زماننا الحالي، يكشف الكثير من الفوارق والقفزات الهائلة التي حصلت في عالم التصوير، ومَن عاصروا تلك المتغيرات لاحظوا كيف حصل كل شيء بسرعة كبيرة، من الكاميرا الخشبية التي يحملها ثلاثة قوائم، ويقف خلفها المصور الذي يغطى رأسه بثوب أسود، إلى التصوير بالهواتف الذكية، ومن تحوّل الصورة الجماعية وألبوم العائلة التي تحتفظ فيه الجدات من طقس عائلي بهيج، إلى ممارسة ذاتية تخلو من التفاعل الجسدي المباشر من خلال النشر الرقمي المكثف لصور لا يمكن لمسها سوى على الشاشة المضيئة.
كان امتلاك الكاميرا في حدّ ذاته يعتبر أمرًا مهمًا، ورؤية الإنسان لنفسه أو مع الآخرين داخل إطار أمر يدعو إلى التحديق فيه فيها مرّات لا تنتهي، لقد كان التصوير حالة إنسانية متوهجة بطاقة من السعادة، ألا تلاحظون أن الابتسامة تحضر كثيرًا عندما نشاهد الصور القديمة؟
لقد انتهى زمن «التحميض» أو «التظهير»، وأصبح بالإمكان طبع الصور في المنزل من خلال طابعة رقميّة، مما يعني أن مشوار محلّ التصوير وتسليم الأفلام وانتظارها ليوم أو حتى ساعة في أبهى مراحل التطور السريع قديمًا، لم يعد يصلح سوى لمشهد لمسلسل أو فيلم يحاكي تلك المرحلة الزمنية.

شهود العيان الرقميون 
تواجه المساحات التقليدية لنشر الصور، مثل الصحف والمجلات والملصقات الدعائية الورقية, منافسة شرسة مع خصم لا يرحم، هو النشر الرقمي، قادر على تقديم خيارات لا محدودة في عالم التسويق والانتشار بين الفئات العمرية الأكثر حداثة، لذلك نجد أن القاعدة التي تقوم عليها الصورة تعيش حالة من تبدل الحتمي، وحتى العمل الصحافي الذي كيَّفَ نفسه مع النشر الرقمي يواجه هو الآخر منافسة مع جيش من شهود العيان الرقميين الذين يعتقدون أنهم صحافيون فور نشرهم صورة من قلب حدث وجدوا أنفسهم فيه مصادفة.
ففي السابق كان شهود العيان يبيعون ما لديهم من صور أو فيديوهات على الصحف والقنوات التلفزيونية، أما اليوم فإن النّشر الفوري، وربما البث الحيّ هو أول ما يفكر فيه شهود العيان الرقميون، لأن ذلك هو أسرع طريق لكسب المزيد من المتابعين، وهذا الأمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى مَن استثمروا في حساباتهم، وجعلوها المصدر الرئيسي للعيش من خلال جذب الإعلانات، والمُعلِن، كما هو معروف، لا يريد سوى تسويق ما لديه، والحسابات التي تضم الملايين من المتابعين هي وجهته الحالية، بعد أن كانت الصحف وشاشات التلفزيون هي المكان المثالي لها.
لقد اختفى تأثير الصــور القليلة على المتلقي، تحت وقع دورة الحياة المتسارعة التي لا تقبل بوجود أي أداة تنتمي للعهود البطيئة، وحتى الكاميرات الرقمية المزودة بأحدث التقنيات التي تربطها مع الإنترنت لا تعتبر هي الخيار الأول للتصوير، مقارنة بالهواتف الذكية التي استولت على مهامّ حيوية وجمعتها كلها في مكان واحد، مثل الساعة وحالة الطقس والخرائط والترجمة وأسعار صرف العملات... إلخ.

مستوى الاحترافية
في ظل الحديث عن اتساع عالم التصوير وتطور أدواته لا تجد صوتًا مسموعًا عن مستوى الاحترافية على المستوى العملي أو التأثيرات الاجتماعية الناجمة من الهوس الواضح بالتصوير وخصوصًا الذاتــــي، في الموضوع الأول نجد أن الانحدار في مستوى التصوير بدأ منذ أتيحت للمصور إمكانية التصوير بلا حدود، ومن دون الحاجة إلى حمل عشرات العلب من الأفلام التي لا تحمل الواحدة منها سوى 36 فرصة، ومن دون أن يستطيع التحقق من جودتها، إلا بعد أن تخـــرج من معمل التحميض، بعكس التصوير الرقمـــي الـــذي يتيح للمصور تفحُّص صورته في التوّ واللحظة.
في التصوير التقلـــيدي، تخرُج الصــــور كـــما هي من دون إضافات أو تحسينات، وبعد قليل من التطور يتم «مسح» تلك الصور ضوئيًا، لتدخل إلى جهاز الكمبيوتر لتمكين المخرجين من إجراء بعض التعديلات الاحترافية، وحتى مسابقات التصوير كانت لا تقبل التعامل مع الصور الرقمية، لأنّ مجال التلاعب فيها يتم بلا حدود.
هذا التحول لا يعني بالضرورة أن التصوير الرقمي أمر سيئ أضرّ بمستوى الاحترافية، على العكس، فقد أزاح التصوير الرقمي همّ توفير العدد الكافي من الصور لفعاليات وأحداث ممتدة، لا يمكن تأجيل تفاصيلها بحجة أن الصورة القادمة قد تكون أفضل، فمثلًا عند تغطية الاحتفالات الشعبية المشبعة بلوحات كثيرة من الملابس والحركات الأدائية والرقصات الفلكلــــورية، لا يمكــن استخلاص تلك الصور الجمــــالية بعدد محدود من المحاولات.
إذًا ما حصل هو انفتاح باب اللامحدودية لعدد مرّات التصوير، وليس محاولات التصوير أوجد حالة التساهل التي مهدت الطريق لأي حامل للكاميرا لكي يكون مصورًا وبأجر أقل من أجر المصور المتمكن، ومادامت قاعدة المتذوقين لمستوى الصورة لم تعد تدقق وتحاسب، فقد توارت الأصوات المهتمة بمستوى احترافية مهنة التصوير.
لقد كتبت ذات مرة عن أول عمل صحافي نشرته في «العربي» استعملت فيـــه كاميرا الهاتف الذكي، وكان عن متحف السينما الإيرانية، ما لم أكتبه هو سهولة الحركة التي قمت بها لتنفيذ ذلك الموضوع، لأنّ وزن الهاتف أخفّ بكثير من الكاميرا، كما أن طبيعة المكان المغلق والإنارة الجيدة يناسبها التصوير من الهاتف، فضلًا عن ميزة لا يمكن إنكارها، وهي أن الناس تتوتر بوجود الكاميرا التقليدية، وتمارس حياتها بشكل طبيعي أكثر من دون وجودها.
لقد بات الأمر محيّرًا، هل نريد التطور على حساب الاحترافية أو الاحترافية دون عمل؟ 

رقمنة ما تراه العين
إننا لا نشاهد الخيال العلمي، لكننا نعيشه، كيف يمكن أن نفسر طبيعــة علاقاتـنا بوجود هذا الكمّ من التكنولوجيا التي تخدم مجال التواصل الاجتماعي، لقد خرج عنوان هذا المقال من روح هذه الفقرة الأخيرة، فكلّ ما حصل من تحالف بين عالم التصوير وأجهزة الهاتف الذكية أتى على حساب حرارة التواصل الاجتماعي، وأبرز معالمها الصمت الذي يخيّم على جلسات عدد كبير من الناس من المفترض أنهم أقرباء أو أصدقاء أو زملاء عمل، صمت رهيب مخيف يتغلغل إلى عقول معارضيه الذين كانوا يكسرون حواجزه، مطالبين الناس بأن يتحدثوا مع مَن هو موجود، لا مَن يسكن في قارة أخرى. هؤلاء المعارضين لمجموعة الصامتين لا يلبثون أن ينضموا إلى تلك المجموعة، وهنا يكمن الخطر!
لقد امتصت عادة التصوير من الهواتف الحياة من اللحظات الثمينة في تجمّعات البشر وحتى اللحظات التي ينفرد فيها الإنسان مع جمال الطبيعة، كل شيء، أي شيء، يُراد له أن «يترقمن» ويرحل كصورة إلى حساب «إنستغرام» أم غيره، من دون استمتاع بتلك اللحظات التي تم الحرص على تخليدها دون العيش فيها.
المحزن حقًا من كل ما سبق هو أن هوس التصوير لدى البعض جمّد مشاعرهم تجاه مساعدة من يحتاجون إلى المساعدة، وإلا كيف يمكن تصوير بعض المشاهد حتى تكتمل مأساويتها، دون وجود من يتفرّج ويصور في الوقت نفسه؟ ■