محمد شكري... المهنة كاتب

محمد شكري... المهنة كاتب

‭ ‬بأيّ‭ ‬معنى‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬ظاهرة‭ ‬ذات‭ ‬بُعد‭ ‬ثقافي‭ ‬وآخر‭ ‬اجتماعي‭ ‬اسمها‭ ‬محمد‭ ‬شكري؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬العوامل‭ ‬المتضافرة‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬المغربي‭ ‬العصامي‭ ‬والمشاكس‭ ‬يفرض‭ ‬حضوره‭ ‬على‭ ‬المشهدين‭ ‬الأدبي‭ ‬والثقافي‭ ‬بالبلدان‭ ‬العربية؟‭ ‬لقد‭ ‬رحل‭ ‬هذا‭ ‬المبدع‭ ‬عن‭ ‬عالمنا‭ ‬منذ‭ ‬نحو‭ ‬16‭ ‬سنة،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬15‭ ‬نوفمبر‭ ‬2003‭. ‬لكن‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصنف‭ ‬العصيّ‭ ‬على‭ ‬النسيان،‭ ‬وأن‭ ‬غيابه‭ ‬الجسدي‭ ‬قد‭ ‬كرّس،‭ ‬بشكل‭ ‬أقوى،‭ ‬حضوره‭ ‬الرمزي،‭ ‬فنسج‭ ‬حوله‭ ‬كثيراً‭  ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬والوقائع‭ ‬الصحيحة‭ ‬والمختلقة‭ ‬التي‭ ‬يتمحور‭ ‬معظمها‭ ‬حول‭ ‬قدرته‭ ‬الخارقة‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬الصعاب‭ ‬وربح‭ ‬التحديات‭.‬

السطوة‭ ‬الرمزية‭ ‬لمحمد‭ ‬شكري‭ ‬تجد‭ ‬منبعها‭ ‬في‭ ‬الأهوال‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬عندما‭ ‬انتقل‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬هربًا‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬والعوز،‭ ‬من‭ ‬بلدة‭ ‬صغيرة‭ ‬بمنطقة‭ ‬الريف‭ ‬المغربي،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬مولده،‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬طنجة،توتمكّنه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذه‭ ‬الأهوال‭ ‬بتلقائية‭ ‬وقوة‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬عرف‭ ‬رواجًا‭ ‬عالميًّا‭ ‬وحفاوة‭ ‬استثنائية،‭ ‬هو‭ ‬رواية‭ ‬االخبز‭ ‬الحافيب‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬إدراجها‭ ‬بيُسر‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالأدب‭ ‬الشطاري‭.‬

فشخصية‭ ‬العمل‭ ‬الرئيسة‭ ‬هي‭ ‬شخصية‭ ‬شطار‭ ‬لم‭ ‬تتح‭ ‬له‭ ‬فرصة‭ ‬تلقّي‭ ‬تعليم‭ ‬منتظم،‭ ‬لذا‭ ‬نشأت‭ ‬علاقة‭ ‬متوترة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬محيطه،‭ ‬وعرف‭ ‬مبكرًا‭ ‬أن‭ ‬عليه‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬وإن‭ ‬ربطته‭ ‬علاقات‭ ‬ولاء‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬بمعلمين‭ ‬يحمونه‭ ‬ويوجهونه‭ ‬لفترة‭ ‬محدودة،‭ ‬لكنّ‭ ‬عدم‭ ‬استقراره‭ ‬جعله‭ ‬يقطع‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الصلات،‭ ‬ودفعه‭ ‬إلى‭ ‬الانتقال‭ ‬بين‭ ‬أماكن‭ ‬ومناطق‭ ‬مختلفة‭ ‬لمقاومة‭ ‬الجوع‭ ‬والتّيه،‭ ‬وللتحكم‭ ‬في‭ ‬مخاوف‭ ‬دفينة‭ ‬تنتابه‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى‭. ‬وغالبًا‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬ومن‭ ‬بعض‭ ‬التجارب‭ ‬التي‭ ‬عاشها،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬ظل‭ ‬محتفظًا‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬الاندهاش‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬الآخر‭.‬

في‭ ‬أحد‭ ‬الحوارات،‭ ‬يقول‭ ‬الأديب‭ ‬والناقد‭ ‬المغربي‭ ‬محمد‭ ‬برادة،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تربطه‭ ‬بشكري‭ ‬علاقة‭ ‬متينة‭ ‬دامت‭ ‬سنوات‭ ‬وسنوات،‭ ‬وأثمرت‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬أثمرته‭ ‬أضمومة‭ ‬مراسلات‭ ‬بينهما‭ ‬نشرت‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬اورد‭ ‬ورمادب‭: ‬اكان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬مجرد‭ ‬رقم‭ ‬مجهول‭ ‬وسط‭ ‬ملايين‭ ‬الشباب‭ ‬المغاربة‭ ‬الذين‭ ‬فرض‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يعبروا‭ ‬الحياة‭ ‬وهم‭ ‬على‭ ‬الهامش،‭ ‬لكنّ‭ ‬وعيه‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يتعلم‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬متأخرة‭ ‬أتاح‭ ‬ولادة‭ ‬صوت‭ ‬يتكلم‭ ‬باسمه‭ ‬وباسم‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬المغاربة‭ ‬الذين‭ ‬فقدوا‭ ‬صوتهم‭ ‬جراء‭ ‬الأمية‭ ‬والفقرب‭. ‬

 

موقع‭ ‬‮«‬الخبز‭ ‬الحافي‮»‬‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬شكري

لقد‭ ‬عانى‭ ‬شكري،‭ ‬كما‭ ‬نقرأ‭ ‬في‭ ‬ثلاثيته‭ ‬السير‭ - ‬روائية،‭ ‬االخبز‭ ‬الحافيب‭ ‬وازمن‭ ‬الأخطاءب‭ ‬واوجوهب،‭ ‬الفقر‭ ‬والحرمان‭ ‬والجوع،‭ ‬ومارس‭ ‬مهنًا‭ ‬مؤقتة‭ ‬لم‭ ‬تضمن‭ ‬له‭ ‬العيش‭ ‬الكريم‭. ‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬عرضة‭ ‬للتيه‭ ‬وسوء‭ ‬المعاملة،‭ ‬وتسكّع‭ ‬وتمّ‭ ‬التحرش‭ ‬به،‭ ‬وجرّب‭ ‬وطأة‭ ‬السجن‭ ‬والانهيار‭ ‬النفسي،‭ ‬وتعرّض‭ ‬للعنف‭ ‬بمختلف‭ ‬تمظهراته،‭ ‬وشرع‭ ‬يعيش‭ ‬حياة‭ ‬لا‭ ‬تحدها‭ ‬قيود‭ ‬بتبنيه‭ ‬التشرد‭ ‬نمط‭ ‬عيش‭. ‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الشاعر‭ ‬مهدي‭ ‬أخريف‭ ‬يلاحظ‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬تأملاته‭ ‬أن‭: ‬اعالم‭ ‬التجريدات‭ ‬والمقولات‭ ‬الذهنية‭ ‬لا‭ ‬يستثير‭ ‬شكري‭ ‬ولا‭ ‬يعنيه‭... ‬كتاباته‭ ‬موصولة‭ ‬مباشرة‭ ‬بحياته‭ ‬الملموسة،‭ ‬بخبراته‭ ‬الحسية‭ ‬الحواسية،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك،‭ ‬يبدو‭ ‬شديد‭ ‬التيقّظ‭ ‬تجاه‭ ‬موقعه‭ ‬المتفرّد‭ ‬من‭ ‬الزخم‭ ‬المعيشي‭ ‬الذي‭ ‬يستغرقه،‭ ‬محتفظًا‭ ‬بالمسافة‭ ‬اللازمة،‭ ‬مسافة‭ ‬الكاتب‭ ‬الرائي،‭ ‬مسافة‭ ‬الوزان‭ ‬والمعرّي‭ ‬لأوضاع‭ ‬وتجارب‭ ‬الوضاعة‭ ‬الإنسانيةب‭. ‬إن‭ ‬الكتابة‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬تصبح‭ ‬لها‭ ‬وظيفة‭ ‬حفظ‭ ‬التوازن،‭ ‬وتصبح‭ ‬سندًا‭ ‬لمواجهة‭ ‬فجائع‭ ‬الحياة‭.‬

ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬شكري‭ ‬شخصية‭ ‬جذابة‭ ‬ومغرية،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬يدبّر‭ ‬وضعه‭ ‬الاعتباري‭ ‬بذكاء‭ ‬وبُعد‭ ‬نظر،‭ ‬لذا‭ ‬نجد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تعرّف‭ ‬إليه‭ ‬أو‭ ‬اقترب‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ما‭ ‬يعتز‭ ‬ويفتخر‭ ‬بأنه‭ ‬صديق‭ ‬له‭ ‬وتربطه‭ ‬به‭ ‬علاقة‭ ‬حميمة‭ ‬ووطيدة‭. ‬

وأن‭ ‬قوة‭ ‬إبداعه‭ ‬وانسجام‭ ‬نمط‭ ‬حياته‭ ‬مع‭ ‬قناعاته‭ ‬ورؤيته‭ ‬للوجود‭ ‬وجرأته‭ ‬اللافتة‭ ‬للانتباه‭ ‬جعلته‭ ‬يحظى‭ ‬باحترام‭ ‬الآخرين‭ ‬له،‭ ‬رغم‭ ‬اختلافهم‭ ‬معه،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يربط‭ ‬اسمه‭ ‬بطنجة‭. ‬

 

طنجة‭... ‬الفاتنة

وهنا‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬قوس‭ ‬قصد‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬طنجة‭ ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬فاتنة،‭ ‬مدينة‭ ‬الرحالة‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭ ‬التي‭ ‬يلتقي‭ ‬فيها‭ ‬بحران؛‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬والمحيط‭ ‬الأطلسي،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬خاضعة‭ ‬لحماية‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العظمى‭ (‬إسبانيا،‭ ‬فرنسا،‭ ‬إيطاليا،‭ ‬إنجلترا‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬فضاء‭ ‬متعدد‭ ‬الأعراق‭ ‬واللغات‭ ‬والديانات،‭ ‬فقصدها‭ ‬فنانون‭ ‬عالميون،‭ ‬مثل‭ ‬الرسامين‭ ‬ماتيس‭ ‬ودولاكروا،‭ ‬وكتّاب‭ ‬مرموقون‭ ‬مثل‭ ‬بول‭ ‬بولز‭ ‬وجون‭ ‬جينيه‭ ‬والطاهر‭ ‬بنجلون‭ ‬وتنيسي‭ ‬وليامز،‭ ‬حيث‭ ‬جعلوا‭ ‬منها‭ ‬ملاذهم‭ ‬الإبداعي‭ ‬لكونها‭ ‬مدينة‭ ‬مفتوحة‭ ‬وآسرة‭. ‬هي‭ ‬إذن‭ ‬مدينة‭ ‬تمت‭ ‬أسطرتها،‭ ‬وشكري،‭ ‬بذكائه‭ ‬الفطري،‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬أسطورته‭ ‬الشخصية‭ ‬ومزجها‭ ‬بأسطورة‭ ‬طنجة‭ ‬وسحرها‭ ‬الخفيّ،‭ ‬وأصبح‭ ‬بمعنى‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬امعلمةًب‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬المدينة‭ ‬يبحث‭ ‬عنه‭ ‬المبدعون‭ ‬الذين‭ ‬يقصدونها‭ ‬ليستمتعوا‭ ‬بمجالسته‭ ‬ومرحه‭ ‬وتفرّد‭ ‬شخصيته‭ ‬وسخائه‭ ‬كذلك‭.‬

ولم‭ ‬يجعل‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬شهية‭ ‬الباحثين‭ ‬والمتتبعين‭ ‬والقراء‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬تخفت،‭ ‬بل‭ ‬واصلوا‭ ‬سعيهم‭ ‬للاقتراب‭ ‬من‭ ‬عوالم‭ ‬شكري‭ ‬وهواجسه‭ ‬وأحلامه‭ ‬وتجاربه‭ ‬التخومية‭ ‬وعوالمه‭ ‬المتفرّدة‭ ‬التي‭ ‬شيّدها‭ ‬بجرأة‭ ‬وإصرار،‭ ‬وكتب‭ ‬عنها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬اتّخذ‭ ‬قرارًا‭ ‬أولاً‭ ‬بأن‭ ‬يتعلّم‭ ‬الكتابة‭ ‬والقراءة،‭ ‬ثم‭ ‬قرارًا‭ ‬ثانيًا‭ ‬واتاريخيًّاب‭ ‬بأن‭ ‬يصبح‭ ‬كاتبًا‭. ‬وكذلك‭ ‬كان‭. ‬

وقد‭ ‬أقر‭ ‬شكري‭ ‬بانجذابه‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬نحو‭ ‬كاتب‭ ‬ذي‭ ‬حضور‭ ‬قوي‭ ‬ويحترمه‭ ‬الناس‭ ‬لرصانته‭ ‬وغموض‭ ‬احرفتهب،‭ ‬هو‭ ‬الأديب‭ ‬الأنيق‭ ‬محمد‭ ‬الصباغ،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتردد‭ ‬بانتظام‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬المقاهي‭ ‬المعروفة‭ ‬بمدينة‭ ‬تطوان،‭ ‬جارة‭ ‬مدينة‭ ‬طنجة‭.‬

ولم‭ ‬يتردد‭ ‬شكري‭ ‬في‭ ‬التقرب‭ ‬من‭ ‬الصباغ‭ ‬الذي‭ ‬أجاب‭ ‬عن‭ ‬استفساراته،‭ ‬وساعده‭ ‬في‭ ‬التغلّب‭ ‬على‭ ‬حيرته‭ ‬وتردده‭ ‬ووثق‭ ‬به‭ ‬واستضافه‭ ‬بمنزله‭: ‬ا‭(...) ‬منزل‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭. ‬حجرة‭ ‬إنسان‭ ‬متعبّد‭ ‬لفنه‭ (...) ‬يصحح‭ ‬لي‭ ‬كتاباتي‭ ‬بكلمات‭ ‬منحوتة،‭ ‬جد‭ ‬شفافة،‭ ‬لكنه‭ ‬من‭ ‬طينة‭ ‬وأنا‭ ‬من‭ ‬طينةب‭. ‬

 

كاتب‭ ‬جماهيري

تبين‭ ‬لشكري‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬انتظاراته‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬عمومًا‭ ‬لا‭ ‬تلتقي‭ ‬مع‭ ‬التصور‭ ‬الذي‭ ‬يستهدي‭ ‬به‭ ‬الصباغ،‭ ‬والذي‭ ‬قد‭ ‬نصفه‭ ‬بالتصور‭ ‬الجمالي‭ ‬الخالص،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬مؤلف‭ ‬االخبز‭ ‬الحافيب‭ ‬ينسحب‭ ‬عليه‭ ‬وصف‭ ‬الكاتب‭ ‬الصدامي‭ ‬واالجماهيريب‭.‬

ثم‭ ‬إن‭ ‬شكري‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬الكتّاب‭ ‬العرب‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬جعلوا‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬شأنًا‭ ‬عامًا،‭ ‬ونزعوا‭ ‬عنها‭ ‬طابعها‭ ‬المتعالي،‭ ‬وجعلوا‭ ‬الكاتب‭ ‬شخصية‭ ‬معروفة‭ ‬الملامح‭ ‬والأهواء‭. ‬وإبداعاته‭ ‬هي‭ ‬ذات‭ ‬أبعاد‭ ‬كونية‭ ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬انشغالات‭ ‬وتجارب‭ ‬ونزوعات‭ ‬تهمّ‭ ‬الإنسان‭ ‬أينما‭ ‬كان،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تبرهن‭ ‬عليه‭ ‬الترجمات‭ ‬والدراسات‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الإبداعات‭ ‬موضوعًا‭ ‬لها،‭ ‬والتي‭ ‬تم‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬أكاديمية‭ ‬وجماهيرية‭ ‬بمختلف‭ ‬القارات‭ ‬واللغات،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬كذلك‭ ‬إلحاح‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬بمختلف‭ ‬تلويناتها‭ ‬على‭ ‬إجراء‭ ‬لقاءات‭ ‬وحوارات‭ ‬معه،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يحلّ‭ ‬مبكرًا‭ ‬على‭ ‬برنامج‭ ‬فرنسي‭ ‬حواري‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬المواعيد‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬هو‭ ‬برنامج‭ ‬اأبوستروفب‭.‬

ومفهوم‭ ‬الصداقة‭ ‬هو‭ ‬مفهوم‭ ‬أساسي‭ ‬لدى‭ ‬شكري،‭ ‬وما‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬صداقاته‭ ‬العديدة،‭ ‬وما‭ ‬تم‭ ‬تداوله‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬منزله‭ ‬كان‭ ‬مفتوحًا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬أصدقائه‭ ‬المبدعين‭ ‬وغير‭ ‬المبدعين‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأجيال‭ ‬والجنسيات‭. ‬

 

وُلد‭ ‬كبيرًا

هو‭ ‬كاتب‭ ‬وُلد‭ ‬كبيرًا‭ ‬وحظي‭ ‬باعتراف‭ ‬العامة‭ ‬قبل‭ ‬الخاصة،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬شخصيته‭ ‬كانت‭ ‬تغطي‭ ‬أحيانًا‭ ‬على‭ ‬إبداعاته،‭ ‬وكان‭ ‬عرضة‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬التلصص‭. ‬وكانت‭ ‬له‭ ‬علاقات‭ ‬مع‭ ‬شخصيات‭ ‬مرموقة؛‭ ‬سواء‭ ‬تعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬بالسياسيين،‭ ‬مثل‭ ‬الزعيم‭ ‬الوطني‭ ‬الكبير‭ ‬علال‭ ‬الفاسي،‭ ‬ورئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬اليوسفي،‭ ‬أو‭ ‬العلّامة‭ ‬عبدالله‭ ‬كنون،‭ ‬أو‭ ‬وزيري‭ ‬الثقافة‭ ‬المغربيين‭ ‬الأديبين‭ ‬محمد‭ ‬العربي‭ ‬المساري‭ ‬ومحمد‭ ‬الأشعري،‭ ‬وأيقونة‭ ‬المسرح‭ ‬المغربي‭ ‬ثريا‭ ‬جبران‭. ‬وربطته‭ ‬علاقة‭ ‬صداقة‭ ‬وتوافق‭ ‬بمجايليه‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬والأدباء،‭ ‬مثل‭ ‬محمد‭ ‬زفزاف‭ ‬وإدريس‭ ‬الخوري‭ ‬ومحمد‭ ‬برادة‭ ‬ومحمد‭ ‬عزالدين‭ ‬التازي‭ ‬ومحمد‭ ‬الميموني‭ ‬والمهدي‭ ‬أخريف‭. ‬

كما‭ ‬أنه‭ ‬تعرّف‭ ‬إلى‭ ‬كتّاب‭ ‬عالميين‭ ‬أقاموا‭ ‬بطنجة‭ ‬أو‭ ‬عبروا‭ ‬منها‭ ‬فقط،‭ ‬مثل‭ ‬خوان‭ ‬غويتيسولو‭ ‬وألبرتو‭ ‬مورافيا‭ ‬وبول‭ ‬بولز‭ ‬وزوجته‭ ‬جان‭ ‬أو‭ ‬تينيسي‭ ‬وليامز‭.‬

وعربيًّا‭ ‬ربطته‭ ‬علاقات‭ ‬صداقة‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬والسفيرة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ليلى‭ ‬شهيد،‭ ‬والشاعر‭ ‬الرائد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬البياتي،‭ ‬والمبدع‭ ‬البحريني‭ ‬قاسم‭ ‬حداد،‭ ‬والشاعر‭ ‬والمفكر‭ ‬أدونيس،‭ ‬وصاحب‭ ‬رواية‭ ‬االحي‭ ‬اللاتينيب‭ ‬ومجلة‭ ‬االآدابب‭ ‬سهيل‭ ‬إدريس،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬والمبدعين‭ ‬والباحثين‭ ‬الذين‭ ‬ما‭ ‬كانوا‭ ‬يتصورون‭ ‬طنجة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حيوية‭ ‬شكري‭ ‬وتفرّده‭.‬

إن‭ ‬الكتابة‭ ‬عند‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬كتابة‭ ‬عارية،‭ ‬كتابة‭ ‬حسيّة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الجرأة‭ ‬وصدم‭ ‬القارئ‭ ‬بنبرتها‭ ‬غير‭ ‬المهادنة،‭ ‬وتتعمد‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬بين‭ ‬السجل‭ ‬الروائي‭ ‬والسجل‭ ‬السير‭ ‬ذاتي‭ ‬لتربك‭ ‬القراء‭ ‬وتشدهم‭. ‬وهي‭ ‬في‭ ‬اعتمادها‭ ‬على‭ ‬الذاكرة‭ ‬تستحضر‭ ‬بعض‭ ‬الوقائع‭ ‬قصد‭ ‬التحرر‭ ‬منها،‭ ‬لتصبح‭ ‬الكتابة‭ ‬بذلك‭ ‬ذات‭ ‬وظيفة‭ ‬علاجية‭ ‬وتضمد‭ ‬الجراح‭ ‬القديم‭ ‬منها‭ ‬والجديد‭. ‬وهي‭ ‬كتابة‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬مجهول‭ ‬ما‭ ‬ومن‭ ‬غموض‭ ‬أكيد،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬الانشداد‭ ‬الدائم‭ ‬والمتجدد‭ ‬إليها‭ ‬وإلى‭ ‬صاحبها‭ .