محمد شكري... المهنة كاتب
بأيّ معنى يمكن الحديث عن ظاهرة ذات بُعد ثقافي وآخر اجتماعي اسمها محمد شكري؟ وما هي العوامل المتضافرة التي ساهمت في جعل هذا الكاتب المغربي العصامي والمشاكس يفرض حضوره على المشهدين الأدبي والثقافي بالبلدان العربية؟ لقد رحل هذا المبدع عن عالمنا منذ نحو 16 سنة، وتحديدًا في 15 نوفمبر 2003. لكن يبدو أنه من الصنف العصيّ على النسيان، وأن غيابه الجسدي قد كرّس، بشكل أقوى، حضوره الرمزي، فنسج حوله كثيراً من الحكايات والوقائع الصحيحة والمختلقة التي يتمحور معظمها حول قدرته الخارقة على تجاوز الصعاب وربح التحديات.
السطوة الرمزية لمحمد شكري تجد منبعها في الأهوال التي عاشها هذا الكاتب عندما انتقل في أربعينيات القرن الماضي، هربًا من الفقر والعوز، من بلدة صغيرة بمنطقة الريف المغربي، حيث كان مولده، إلى مدينة طنجة،توتمكّنه من أن يحكي عن تفاصيل هذه الأهوال بتلقائية وقوة في عمل عرف رواجًا عالميًّا وحفاوة استثنائية، هو رواية االخبز الحافيب التي يمكن إدراجها بيُسر ضمن ما يعرف بالأدب الشطاري.
فشخصية العمل الرئيسة هي شخصية شطار لم تتح له فرصة تلقّي تعليم منتظم، لذا نشأت علاقة متوترة بينه وبين محيطه، وعرف مبكرًا أن عليه الاعتماد على نفسه وإن ربطته علاقات ولاء بين الحين والآخر بمعلمين يحمونه ويوجهونه لفترة محدودة، لكنّ عدم استقراره جعله يقطع مثل تلك الصلات، ودفعه إلى الانتقال بين أماكن ومناطق مختلفة لمقاومة الجوع والتّيه، وللتحكم في مخاوف دفينة تنتابه بين الفينة والأخرى. وغالبًا ما نجده يسخر من الآخرين ومن بعض التجارب التي عاشها، كما أنه ظل محتفظًا بالقدرة على الاندهاش من بعضها الآخر.
في أحد الحوارات، يقول الأديب والناقد المغربي محمد برادة، الذي كانت تربطه بشكري علاقة متينة دامت سنوات وسنوات، وأثمرت من ضمن ما أثمرته أضمومة مراسلات بينهما نشرت تحت عنوان اورد ورمادب: اكان من الممكن أن يبقى محمد شكري مجرد رقم مجهول وسط ملايين الشباب المغاربة الذين فرض عليهم أن يعبروا الحياة وهم على الهامش، لكنّ وعيه الذي جعله يتعلم القراءة والكتابة في سن متأخرة أتاح ولادة صوت يتكلم باسمه وباسم الآلاف من الشباب المغاربة الذين فقدوا صوتهم جراء الأمية والفقرب.
موقع «الخبز الحافي» في تجربة شكري
لقد عانى شكري، كما نقرأ في ثلاثيته السير - روائية، االخبز الحافيب وازمن الأخطاءب واوجوهب، الفقر والحرمان والجوع، ومارس مهنًا مؤقتة لم تضمن له العيش الكريم.
وقد كان عرضة للتيه وسوء المعاملة، وتسكّع وتمّ التحرش به، وجرّب وطأة السجن والانهيار النفسي، وتعرّض للعنف بمختلف تمظهراته، وشرع يعيش حياة لا تحدها قيود بتبنيه التشرد نمط عيش.
وهذا ما جعل الشاعر مهدي أخريف يلاحظ في أحد تأملاته أن: اعالم التجريدات والمقولات الذهنية لا يستثير شكري ولا يعنيه... كتاباته موصولة مباشرة بحياته الملموسة، بخبراته الحسية الحواسية، لكن مع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، يبدو شديد التيقّظ تجاه موقعه المتفرّد من الزخم المعيشي الذي يستغرقه، محتفظًا بالمسافة اللازمة، مسافة الكاتب الرائي، مسافة الوزان والمعرّي لأوضاع وتجارب الوضاعة الإنسانيةب. إن الكتابة بهذا المعنى تصبح لها وظيفة حفظ التوازن، وتصبح سندًا لمواجهة فجائع الحياة.
ومن المؤكد أن شكري شخصية جذابة ومغرية، وأنه كان يدبّر وضعه الاعتباري بذكاء وبُعد نظر، لذا نجد كل من تعرّف إليه أو اقترب منه في سياق ما يعتز ويفتخر بأنه صديق له وتربطه به علاقة حميمة ووطيدة.
وأن قوة إبداعه وانسجام نمط حياته مع قناعاته ورؤيته للوجود وجرأته اللافتة للانتباه جعلته يحظى باحترام الآخرين له، رغم اختلافهم معه، إضافة إلى أنه كان حريصًا على أن يربط اسمه بطنجة.
طنجة... الفاتنة
وهنا لابد من فتح قوس قصد تأكيد أن طنجة هي مدينة فاتنة، مدينة الرحالة ابن بطوطة التي يلتقي فيها بحران؛ البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، والتي كانت في النصف الأول من القرن العشرين خاضعة لحماية مجموعة من الدول العظمى (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، إنجلترا)، مما جعل منها فضاء متعدد الأعراق واللغات والديانات، فقصدها فنانون عالميون، مثل الرسامين ماتيس ودولاكروا، وكتّاب مرموقون مثل بول بولز وجون جينيه والطاهر بنجلون وتنيسي وليامز، حيث جعلوا منها ملاذهم الإبداعي لكونها مدينة مفتوحة وآسرة. هي إذن مدينة تمت أسطرتها، وشكري، بذكائه الفطري، تمكّن من خلق أسطورته الشخصية ومزجها بأسطورة طنجة وسحرها الخفيّ، وأصبح بمعنى من المعاني امعلمةًب من معالم المدينة يبحث عنه المبدعون الذين يقصدونها ليستمتعوا بمجالسته ومرحه وتفرّد شخصيته وسخائه كذلك.
ولم يجعل مرور الزمن شهية الباحثين والمتتبعين والقراء من الأجيال الجديدة تخفت، بل واصلوا سعيهم للاقتراب من عوالم شكري وهواجسه وأحلامه وتجاربه التخومية وعوالمه المتفرّدة التي شيّدها بجرأة وإصرار، وكتب عنها منذ أن اتّخذ قرارًا أولاً بأن يتعلّم الكتابة والقراءة، ثم قرارًا ثانيًا واتاريخيًّاب بأن يصبح كاتبًا. وكذلك كان.
وقد أقر شكري بانجذابه في البداية نحو كاتب ذي حضور قوي ويحترمه الناس لرصانته وغموض احرفتهب، هو الأديب الأنيق محمد الصباغ، الذي كان يتردد بانتظام على إحدى المقاهي المعروفة بمدينة تطوان، جارة مدينة طنجة.
ولم يتردد شكري في التقرب من الصباغ الذي أجاب عن استفساراته، وساعده في التغلّب على حيرته وتردده ووثق به واستضافه بمنزله: ا(...) منزل في المدينة القديمة. حجرة إنسان متعبّد لفنه (...) يصحح لي كتاباتي بكلمات منحوتة، جد شفافة، لكنه من طينة وأنا من طينةب.
كاتب جماهيري
تبين لشكري إذن أن انتظاراته من الكتابة عمومًا لا تلتقي مع التصور الذي يستهدي به الصباغ، والذي قد نصفه بالتصور الجمالي الخالص، في حين أن مؤلف االخبز الحافيب ينسحب عليه وصف الكاتب الصدامي واالجماهيريب.
ثم إن شكري هو أحد الكتّاب العرب القلائل الذين جعلوا من الكتابة شأنًا عامًا، ونزعوا عنها طابعها المتعالي، وجعلوا الكاتب شخصية معروفة الملامح والأهواء. وإبداعاته هي ذات أبعاد كونية تحكي عن انشغالات وتجارب ونزوعات تهمّ الإنسان أينما كان، وهذا ما تبرهن عليه الترجمات والدراسات العديدة التي كانت هذه الإبداعات موضوعًا لها، والتي تم الاحتفاء بها في سياقات أكاديمية وجماهيرية بمختلف القارات واللغات، كما أن هذا ما يفسر كذلك إلحاح وسائل الإعلام بمختلف تلويناتها على إجراء لقاءات وحوارات معه، مما جعله يحلّ مبكرًا على برنامج فرنسي حواري كان من أشهر المواعيد الثقافية في ثمانينيات القرن الماضي، هو برنامج اأبوستروفب.
ومفهوم الصداقة هو مفهوم أساسي لدى شكري، وما تدل على ذلك صداقاته العديدة، وما تم تداوله من أن منزله كان مفتوحًا في وجه أصدقائه المبدعين وغير المبدعين من مختلف الأجيال والجنسيات.
وُلد كبيرًا
هو كاتب وُلد كبيرًا وحظي باعتراف العامة قبل الخاصة، حتى أن شخصيته كانت تغطي أحيانًا على إبداعاته، وكان عرضة لكثير من التلصص. وكانت له علاقات مع شخصيات مرموقة؛ سواء تعلّق الأمر بالسياسيين، مثل الزعيم الوطني الكبير علال الفاسي، ورئيس الحكومة عبدالرحمن اليوسفي، أو العلّامة عبدالله كنون، أو وزيري الثقافة المغربيين الأديبين محمد العربي المساري ومحمد الأشعري، وأيقونة المسرح المغربي ثريا جبران. وربطته علاقة صداقة وتوافق بمجايليه من الكتّاب والأدباء، مثل محمد زفزاف وإدريس الخوري ومحمد برادة ومحمد عزالدين التازي ومحمد الميموني والمهدي أخريف.
كما أنه تعرّف إلى كتّاب عالميين أقاموا بطنجة أو عبروا منها فقط، مثل خوان غويتيسولو وألبرتو مورافيا وبول بولز وزوجته جان أو تينيسي وليامز.
وعربيًّا ربطته علاقات صداقة مع الشاعر حميد سعيد والسفيرة الفلسطينية ليلى شهيد، والشاعر الرائد عبدالوهاب البياتي، والمبدع البحريني قاسم حداد، والشاعر والمفكر أدونيس، وصاحب رواية االحي اللاتينيب ومجلة االآدابب سهيل إدريس، وغيرهم من الكتّاب والمبدعين والباحثين الذين ما كانوا يتصورون طنجة من دون حيوية شكري وتفرّده.
إن الكتابة عند محمد شكري كتابة عارية، كتابة حسيّة تعتمد على الجرأة وصدم القارئ بنبرتها غير المهادنة، وتتعمد أن تنتقل بين السجل الروائي والسجل السير ذاتي لتربك القراء وتشدهم. وهي في اعتمادها على الذاكرة تستحضر بعض الوقائع قصد التحرر منها، لتصبح الكتابة بذلك ذات وظيفة علاجية وتضمد الجراح القديم منها والجديد. وهي كتابة تأتي من مجهول ما ومن غموض أكيد، وهذا هو سر الانشداد الدائم والمتجدد إليها وإلى صاحبها .