تولستوي يعترف... كل خبراتنا فشلت في تحديد معنى الحياة

تولستوي يعترف... كل خبراتنا فشلت في تحديد معنى الحياة

بدأت‭ ‬رحلة‭ ‬تولستوي‭ ‬مع‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬باكرة‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يعيش‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬بحلوها‭ ‬ومرها،‭ ‬محاولًا‭ ‬أن‭ ‬ينهل‭ ‬من‭ ‬رضابها‭ ‬اللذيذ‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬سبيلا

لكنه‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة‭   ‬نراه‭ ‬زاهدًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬فلا‭ ‬يقيم‭ ‬لها‭ ‬وزنًا،‭ ‬ولا‭ ‬يعبأ‭ ‬بوحوشها‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬الأجلاف،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬يترك‭ ‬ثروته‭ ‬الكبيرة‭ ‬للجياع‭ ‬والمساكين،‭ ‬ويهرب‭ ‬من‭ ‬أسرته‭ ‬الكبيرة‭ ‬ليموت‭ ‬وحيدًا‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬حقيرة‭ ‬للسكك‭ ‬الحديدية‭.‬

وحسن‭ ‬الاختيار‭ ‬راجع‭ ‬بالأساس‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اعترافات‭ ‬تولستوى‭ ‬التي‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نحصرها‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬ولا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نحصرها‭ ‬في‭ ‬مجرد‭ ‬المذكرات‭ ‬التي‭ ‬يكتبها‭ ‬المشاهير‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬حياتهم،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬نقر‭ ‬قرارًا‭ ‬نهائيًّا‭ ‬بأنها‭ ‬اعترافات،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬عنوانها‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬تصنيفًا‭ ‬أو‭ ‬توصيفًا‭ ‬لما‭ ‬كتبه‭ ‬تولستوى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬المثير،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬كان‭ ‬شموليًّا،‭ ‬متراميًا،‭ ‬لا‭ ‬تحده‭ ‬حدود،‭ ‬ولا‭ ‬تلزمه‭ ‬التزامات،‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواضع،‭ ‬وكتب‭ ‬عن‭ ‬أصدقائه‭ ‬وأشقائه‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬أخرى؛‭ ‬لكنه‭ ‬كتب‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬رحلاته‭ ‬العديدة،‭ ‬واعترف‭ ‬بمغامراته‭ ‬العاطفية‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬كثيرة،‭ ‬ثم‭ ‬وجدناه‭ ‬وقد‭ ‬أفصح‭ ‬عن‭ ‬شطحاته‭ ‬الدينية‭ ‬وتساؤلاته‭ ‬الوجودية‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬أكثر،‭ ‬ثم‭ ‬فوجئنا‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬بأن‭ ‬الخط‭ ‬العام‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬بالأدق‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬تحديد‭ ‬معنى‭ ‬دقيق‭ ‬لهذه‭ ‬الحياة‭.‬

في‭ ‬بداية‭ ‬الكتاب‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬تولستوي‭ ‬طرفًا‭ ‬من‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬لأبوين‭ ‬مسيحيين؛‭ ‬لكنه‭ ‬عندما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬الجامعية‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مقتنعًا‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تعلمه‭ ‬في‭ ‬الصغر‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭. ‬

‭ ‬ثم‭ ‬نجد‭ ‬تولستوي‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬قراءاته‭ ‬المتنوعة،‭ ‬فيذكر‭ ‬لنا‭ ‬أنه‭ ‬قرأ‭ ‬فولتير‭ ‬كاملًا‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬شبابه؛‭ ‬لكنّ‭ ‬فولتير‭ ‬لم‭ ‬يصدمه‭ ‬بآرائه‭ ‬المخيفة،‭ ‬وإنما‭ ‬تلقى‭ ‬أفكاره‭ ‬برضى‭ ‬أدخل‭ ‬السرور‭ ‬إلى‭ ‬قلبه؛‭ ‬لكننا‭ ‬نرجح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الرضا‭ ‬قد‭ ‬بسط‭ ‬آفاقًا‭ ‬واسعة‭ ‬أمام‭ ‬تولستوي‭ ‬وفتح‭ ‬له‭ ‬مغاليق‭ ‬كثيرة‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالعقيدة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬فيها‭ ‬آراء‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬أقرانه،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬خطرها‭ ‬على‭ ‬توجهاتهم،‭ ‬حيث‭ ‬تأثر‭ ‬بها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬نذكر‭ ‬منهم‭ ‬فريد‭ ‬ريش‭ ‬نيتشه،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أفكاره‭ ‬التي‭ ‬ضمنها‭ ‬كتابه‭ ‬المثير‭ ‬‮«‬نقيض‭ ‬المسيح‮»‬‭ ‬والتي‭ ‬تتعلق‭ ‬بالعقائد‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬يرى‭ ‬تولستوي‭ ‬أنها‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬مصائر‭ ‬البشر،‭ ‬وهي‭ ‬الفكرة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تبناها‭ ‬نيتشه‭ ‬عندما‭ ‬أقر‭ ‬بأن‭ ‬اللاهوت‭ ‬يفسد‭ ‬الحياة،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬يتدخل‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مبرر‭ ‬عقلاني‭.‬

ورغم‭ ‬ذلك،‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬تولستوي‭ ‬يتنكر‭ ‬للعبادات‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬العقيدة‭ ‬بالكلية؛‭ ‬ولكنه‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬للإنسان‭ ‬أن‭ ‬يتعلم‭ ‬أصول‭ ‬الدين،‭ ‬وأن‭ ‬يؤدي‭ ‬الصلاة‭ ‬في‭ ‬الكنيسة‭ ‬في‭ ‬تمام‭ ‬مواقيتها؛‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الطقوس‭ ‬وهو‭ ‬جاد‭ ‬متجهم،‭ ‬وهنا‭ ‬يقصد‭ ‬تولستوي‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬الإنسان‭ ‬طقس‭ ‬العبادة‭ ‬بحب‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬عصبية،‭ ‬بل‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يعتبر‭ ‬الطقس‭ ‬الديني‭ ‬مجرد‭ ‬ترفيه‭ ‬ومتعة،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬نجده‭ ‬متجسدًا‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬تمامًا،‭ ‬ألم‭ ‬يقل‭ ‬النبي‭ ‬محمد‭ ‬لمؤذنه‭ ‬بلال‭ ‬وهو‭ ‬يأمره‭ ‬بأن‭ ‬يؤذن‭ ‬بالصلاة‭ ‬‮«‬أرحنا‭ ‬بها‭ ‬يا‭ ‬بلال؟‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الصلاة‭ ‬طقس‭ ‬مريح‭ ‬في‭ ‬باطنه،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ترفيهيًّا‭ ‬ممتعًا،‭ ‬فلو‭ ‬فعله‭ ‬الإنسان‭ ‬وهو‭ ‬عليه‭ ‬شاق‭ ‬فلا‭ ‬قيمة‭ ‬له،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يفقد‭ ‬طعمه‭ ‬ومصداقيته‭ ‬بالأساس‭.‬

 

التظاهر‭ ‬بالإيمان

من‭ ‬هنا،‭ ‬فقد‭ ‬أكد‭ ‬تولستوي‭ ‬على‭ ‬نقطة‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬بمكان،‭ ‬تلك‭ ‬النقطة‭ ‬لا‭ ‬نزال‭ ‬نعانيها‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬وهي‭ ‬تتعلق‭ ‬بتعاطينا‭ ‬الديني‭ ‬والعقدي،‭ ‬إنها‭ ‬التظاهر‭ ‬بالإيمان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يحتكرون‭ ‬الدين،‭ ‬وهو‭ ‬يتحدث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يتخذون‭ ‬الدين‭ ‬مطية‭ ‬أو‭ ‬وسيلة‭ ‬لبلوغ‭ ‬مآربها‭ ‬الدينية‭ ‬الرخيصة؛‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يزايدون‭ ‬على‭ ‬الآخرين‭ ‬ممن‭ ‬يغفلون‭ ‬عن‭ ‬أداء‭ ‬طقس‭ ‬العبادة،‭ ‬ويصمونه‭ ‬بالكفر‭ ‬والإلحاد؛‭ ‬لكن‭ ‬تولستوي‭ ‬يراهم‭ ‬هم‭ ‬الكفرة؛‭ ‬لأن‭ ‬الإيمان‭ ‬لابد‭ ‬وأن‭ ‬يترفع‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬المآرب‭ ‬والأهواء‭ ‬الدنيوية‭.‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬يقفز‭ ‬بنا‭ ‬تولستوي‭ ‬ليلقي‭ ‬علينا‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬أسراره‭ ‬الخاصة،‭ ‬فيشير‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬اشترك‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬كثيرة‭ ‬وقتل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأنفس‭ ‬البريئة،‭ ‬كما‭ ‬يعترف‭ ‬بأنه‭ ‬قامر‭ ‬وخسر‭ ‬وسرق‭ ‬وزنا‭ ‬واستغل‭ ‬الفلاحين‭ ‬المساكين‭ ‬فأكل‭ ‬حقوقهم‭ ‬بالباطل؛‭ ‬لذا‭ ‬فهو‭ ‬يندهش‭ ‬كل‭ ‬الدهشة‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يثنون‭ ‬على‭ ‬سلوكه‭ ‬مادحين‭ ‬له‭ ‬ومهللين،‭ ‬ثم‭ ‬يعتبرونه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬رجلًا‭ ‬سمحًا‭ ‬كريم‭ ‬الطباع‭.‬

لكن‭ ‬يبرز‭ ‬السؤال‭: ‬ما‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬تولستوى‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تالية‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬جعلته‭ ‬رجلًا‭ ‬زاهدًا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬مشفقا‭ ‬على‭ ‬المساكين؟‭ ‬وهنا‭ ‬يجيب‭ ‬تولستوي‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بأن‭ ‬السبب‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬وعوالمها‭ ‬الخفية،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬بدأ‭ ‬الكتابة‭ ‬مدفوعًا‭ ‬بالطمع‭ ‬والغرور؛‭ ‬لذا‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬لزامًا‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يبطن‭ ‬الخير‭ ‬ويخفي‭ ‬الشر،‭ ‬وقد‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬وظفر‭ ‬بالثناء‭ ‬والتقدير؛‭ ‬لكنه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تفتحت‭ ‬آفاقه‭ ‬ومداركه‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬صنعه‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬قبض‭ ‬الريح؛‭ ‬وكأنه‭ ‬يتمثل‭ ‬هنا‭ ‬حكمة‭ ‬بطل‭ ‬قصة‭ ‬الرهان‭ ‬لمواطنه‭ ‬العبقري‭ ‬أنطون‭ ‬تشيخوف‭ ‬التي‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬أي‭ ‬عدد‭ ‬مقسوم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬يساوي‭ ‬صفرًا‮»‬‭.‬

كما‭ ‬أنه‭ ‬يتمثل‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬سقراط،‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬وهو‭ ‬يتأهب‭ ‬للموت‭: ‬‮«‬إننا‭ ‬نقترب‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭ ‬كلما‭ ‬أشرفنا‭ ‬على‭ ‬مفارقة‭ ‬الحياة؛‭ ‬إذًا‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬نجاهد‭ ‬في‭ ‬سبيله‭ ‬نحن‭ ‬محبي‭ ‬الحقيقة؟‭ ‬إننا‭ ‬نجاهد‭ ‬لكي‭ ‬نحرر‭ ‬أنفسنا‭ ‬من‭ ‬الجسد‭ ‬ومن‭ ‬كل‭ ‬الشرور‭ ‬التي‭ ‬تنشأ‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬هذا‭ ‬الجسد،‭ ‬ولمّا‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬فلماذا‭ ‬إذًا‭ ‬لا‭ ‬نفرح‭ ‬عندما‭ ‬يأتي‭ ‬إلينا‭ ‬الموت؟‭ ‬إن‭ ‬الرجل‭ ‬الحكيم‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الموت‭ ‬طوال‭ ‬حياته؛‭ ‬ولذا‭ ‬فالموت‭ ‬لا‭ ‬يفزعه‮»‬‭.‬

لكننا‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬نجد‭ ‬تولستوى‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬التفكير‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬عبث‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬ليس‭ ‬شاقًا‭ ‬وعسيرًا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬منذ‭ ‬زمان‭ ‬بعيد‭ ‬مألوفًا‭ ‬للعامة‭ ‬والسذج،‭ ‬وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬عاشوا‭ ‬ومازالوا‭ ‬يعيشون،‭ ‬يساعدهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الزائفة‭ ‬والتقدم‭ ‬المزعوم؛‭ ‬لذا‭ ‬فهو‭ ‬يتساءل‭ ‬دومًا‭: ‬كيف‭ ‬يعيش‭ ‬هؤلاء‭ ‬ولا‭ ‬يتطرق‭ ‬إليهم‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬أمر‭ ‬معقول؟

ولقد‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬منظر‭ ‬بشع،‭ ‬شاهده‭ ‬تولستوى‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬جعله‭ ‬يفقد‭ ‬إيمانه‭ ‬تمامًا‭ ‬بالتقدم‭. ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬حكم‭ ‬الإعدام‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬البشر‭ ‬الأبرياء،‭ ‬حيث‭ ‬فصلت‭ ‬الرقاب‭ ‬عن‭ ‬الأجساد‭ ‬ووضعت‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬حقير،‭ ‬وعليه‭ ‬فقد‭ ‬رأى‭ ‬تولستوي‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬نظرياتنا‭ ‬عن‭ ‬التقدم‭ ‬باطلة؛‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تبرر‭ ‬أبدًا‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الفعلة‭ ‬الشنعاء‭.‬

وفي‭ ‬خاتمة‭ ‬المطاف‭ ‬أقر‭ ‬تولستوى‭ ‬وبضمير‭ ‬مستريح،‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬نحياها‭ ‬عبث‭ ‬في‭ ‬عبث،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬معارفنا‭ ‬وخبراتنا‭ ‬ومكتسباتنا‭- ‬وبعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬المخيف‭-  ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬بعد‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬دقيق‭ ‬لمعنى‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬وكل‭ ‬العلماء‭ ‬والمفكرين‭ ‬والفلاسفة‭ ‬ممن‭ ‬سخّروا‭ ‬كل‭ ‬معارفهم‭ ‬وخبراتهم‭ ‬لكشف‭ ‬هذا‭ ‬اللغز‭ ‬لم‭ ‬يجنوا‭ ‬أي‭ ‬ثمرة‭ ‬وعادوا‭ ‬جميعًا‭ ‬من‭ ‬رحلتهم‭  ‬الشاقة‭ ‬بخفيّ‭ ‬حنين‭.