تولستوي يعترف... كل خبراتنا فشلت في تحديد معنى الحياة
بدأت رحلة تولستوي مع الشك في مرحلة باكرة من حياته، وهو الأمر الذي جعله يعيش هذه الحياة بحلوها ومرها، محاولًا أن ينهل من رضابها اللذيذ ما استطاع إلى ذلك سبيلا
لكنه في مرحلة لاحقة نراه زاهدًا في هذه الحياة فلا يقيم لها وزنًا، ولا يعبأ بوحوشها من البشر الأجلاف، وهو ما جعله في نهاية المطاف يترك ثروته الكبيرة للجياع والمساكين، ويهرب من أسرته الكبيرة ليموت وحيدًا في محطة حقيرة للسكك الحديدية.
وحسن الاختيار راجع بالأساس إلى أن اعترافات تولستوى التي بين أيدينا لا نستطيع أن نحصرها فقط في أدب السيرة الذاتية، ولا نستطيع أن نحصرها في مجرد المذكرات التي يكتبها المشاهير في نهاية حياتهم، كما لا نستطيع أيضًا أن نقر قرارًا نهائيًّا بأنها اعترافات، رغم أن عنوانها يفصح عن ذلك، ومن هنا ربما لا نستطيع أن نضع تصنيفًا أو توصيفًا لما كتبه تولستوى في هذا الكتاب المثير، ذلك لأن ما كتبه كان شموليًّا، متراميًا، لا تحده حدود، ولا تلزمه التزامات، فقد كتب عن حياته في بعض المواضع، وكتب عن أصدقائه وأشقائه في مواضع أخرى؛ لكنه كتب أيضًا عن رحلاته العديدة، واعترف بمغامراته العاطفية في مواضع كثيرة، ثم وجدناه وقد أفصح عن شطحاته الدينية وتساؤلاته الوجودية في مواضع أكثر، ثم فوجئنا في النهاية بأن الخط العام حول ما كتبه يكمن في البحث عن معنى الحياة، أو بالأدق البحث عن تحديد معنى دقيق لهذه الحياة.
في بداية الكتاب يقدم لنا تولستوي طرفًا من سيرته الذاتية، مشيرًا إلى أنه ولد لأبوين مسيحيين؛ لكنه عندما وصل إلى المرحلة الجامعية لم يعد مقتنعًا بكل ما تعلمه في الصغر سواء في الأسرة أو في المدرسة.
ثم نجد تولستوي يحدثنا عن بعض قراءاته المتنوعة، فيذكر لنا أنه قرأ فولتير كاملًا في مطلع شبابه؛ لكنّ فولتير لم يصدمه بآرائه المخيفة، وإنما تلقى أفكاره برضى أدخل السرور إلى قلبه؛ لكننا نرجح أن هذا الرضا قد بسط آفاقًا واسعة أمام تولستوي وفتح له مغاليق كثيرة وبخاصة في ما يتعلق بالعقيدة التي كان له فيها آراء سابقة على أقرانه، كما كان لها خطرها على توجهاتهم، حيث تأثر بها كثير من الفلاسفة، نذكر منهم فريد ريش نيتشه، وذلك في بعض أفكاره التي ضمنها كتابه المثير «نقيض المسيح» والتي تتعلق بالعقائد الدينية التي يرى تولستوي أنها يجب ألا تتحكم في مصائر البشر، وهي الفكرة نفسها التي تبناها نيتشه عندما أقر بأن اللاهوت يفسد الحياة، وذلك عندما يتدخل فيها من دون مبرر عقلاني.
ورغم ذلك، لا نجد تولستوي يتنكر للعبادات التي تقوم عليها العقيدة بالكلية؛ ولكنه يرى أنه من الضروري للإنسان أن يتعلم أصول الدين، وأن يؤدي الصلاة في الكنيسة في تمام مواقيتها؛ لكنه ليس من الضروري أن يؤدي مثل هذه الطقوس وهو جاد متجهم، وهنا يقصد تولستوي أن يؤدي الإنسان طقس العبادة بحب ومن دون عصبية، بل عليه أن يعتبر الطقس الديني مجرد ترفيه ومتعة، وهو الأمر الذي نجده متجسدًا في الدين الإسلامي تمامًا، ألم يقل النبي محمد لمؤذنه بلال وهو يأمره بأن يؤذن بالصلاة «أرحنا بها يا بلال؟»، وهو ما يؤكد أن الصلاة طقس مريح في باطنه، ويجب أن يكون ترفيهيًّا ممتعًا، فلو فعله الإنسان وهو عليه شاق فلا قيمة له، بل إنه يفقد طعمه ومصداقيته بالأساس.
التظاهر بالإيمان
من هنا، فقد أكد تولستوي على نقطة من الأهمية بمكان، تلك النقطة لا نزال نعانيها حتى اليوم، وهي تتعلق بتعاطينا الديني والعقدي، إنها التظاهر بالإيمان من قبل هؤلاء الذين يحتكرون الدين، وهو يتحدث هنا عن هؤلاء الذين يتخذون الدين مطية أو وسيلة لبلوغ مآربها الدينية الرخيصة؛ وهم في ذلك يزايدون على الآخرين ممن يغفلون عن أداء طقس العبادة، ويصمونه بالكفر والإلحاد؛ لكن تولستوي يراهم هم الكفرة؛ لأن الإيمان لابد وأن يترفع تمامًا عن كل المآرب والأهواء الدنيوية.
بعد ذلك يقفز بنا تولستوي ليلقي علينا بعضًا من أسراره الخاصة، فيشير إلى أنه اشترك في حروب كثيرة وقتل كثيرًا من الأنفس البريئة، كما يعترف بأنه قامر وخسر وسرق وزنا واستغل الفلاحين المساكين فأكل حقوقهم بالباطل؛ لذا فهو يندهش كل الدهشة من هؤلاء الناس الذين يثنون على سلوكه مادحين له ومهللين، ثم يعتبرونه في النهاية رجلًا سمحًا كريم الطباع.
لكن يبرز السؤال: ما التحولات التي طرأت على شخصية تولستوى في مرحلة تالية من عمره، جعلته رجلًا زاهدًا في الحياة مشفقا على المساكين؟ وهنا يجيب تولستوي عن ذلك بأن السبب يكمن في الكتابة وعوالمها الخفية، مشيرًا إلى أنه بدأ الكتابة مدفوعًا بالطمع والغرور؛ لذا فقد كان لزامًا عليه أن يبطن الخير ويخفي الشر، وقد نجح في ما كتب وظفر بالثناء والتقدير؛ لكنه بعد أن تفتحت آفاقه ومداركه وجد أن ما صنعه ما هو إلا قبض الريح؛ وكأنه يتمثل هنا حكمة بطل قصة الرهان لمواطنه العبقري أنطون تشيخوف التي تقول: «أي عدد مقسوم على ما لا نهاية يساوي صفرًا».
كما أنه يتمثل وجهة نظر سقراط، عندما قال وهو يتأهب للموت: «إننا نقترب من الحقيقة كلما أشرفنا على مفارقة الحياة؛ إذًا ما الذي نجاهد في سبيله نحن محبي الحقيقة؟ إننا نجاهد لكي نحرر أنفسنا من الجسد ومن كل الشرور التي تنشأ عن حياة هذا الجسد، ولمّا كان الأمر كذلك، فلماذا إذًا لا نفرح عندما يأتي إلينا الموت؟ إن الرجل الحكيم يبحث عن الموت طوال حياته؛ ولذا فالموت لا يفزعه».
لكننا رغم ذلك نجد تولستوى يرى أن التفكير الذي يظهر عبث هذه الحياة ليس شاقًا وعسيرًا، فقد كان منذ زمان بعيد مألوفًا للعامة والسذج، وعلى ذلك فقد عاشوا ومازالوا يعيشون، يساعدهم في ذلك التكنولوجيا الزائفة والتقدم المزعوم؛ لذا فهو يتساءل دومًا: كيف يعيش هؤلاء ولا يتطرق إليهم شك في أن الحياة أمر معقول؟
ولقد كان هناك منظر بشع، شاهده تولستوى في باريس جعله يفقد إيمانه تمامًا بالتقدم. هذا المشهد تمثل في تنفيذ حكم الإعدام على بعض البشر الأبرياء، حيث فصلت الرقاب عن الأجساد ووضعت في صندوق حقير، وعليه فقد رأى تولستوي أن كل نظرياتنا عن التقدم باطلة؛ لأنها لا تستطيع أن تبرر أبدًا مثل تلك الفعلة الشنعاء.
وفي خاتمة المطاف أقر تولستوى وبضمير مستريح، بأن هذه الحياة التي نحياها عبث في عبث، ذلك لأن كل معارفنا وخبراتنا ومكتسباتنا- وبعد كل هذا التقدم العلمي المخيف- لم تصل بعد إلى تحديد دقيق لمعنى هذه الحياة، وكل العلماء والمفكرين والفلاسفة ممن سخّروا كل معارفهم وخبراتهم لكشف هذا اللغز لم يجنوا أي ثمرة وعادوا جميعًا من رحلتهم الشاقة بخفيّ حنين.